ابحاث المركز الارثوذكسى للدراسات الابائية: عقيدة الخريستولوجي (طبيعة المسيح)
بحسب تعليم الكنيسة، يسوع المسيح هو ابن الله الذي صار إنسانًا لأجل خلاص وتجديد العالم كله، وفي شخصه اتحدتا الطبيعتان الإلهية والإنسانية اتحادًا أقنوميًا. وهكذا فإن خلاص الإنسان لا يستند إلى علاقة غير مباشرة أو خارجية مع الله، بل إلى شركة حقيقية واتحاد مباشر معه. ومن خلال الإيمان بالمسيح وشركة الأسرار يرتبط المؤمنون بالله وببعضهم البعض، مكونين معًا جسد المسيح الواحد، والذي هو الكنيسة. فالمسيح له المجد هو مركز وحدة المؤمنين.
الخلاص والتجديد في المسيح له ملمح شامل، يشمل الكون كله. فعقيدة الخريستولوجي، تعلم بأن يسوع المسيح ابن الله، هو في ذات الوقت الإنسان والإنسانية، هو الواحد وهو الكثيرون[1]. فالحياة المسيحية تتأسس على الاتحاد بالمسيح، والذي يتحقق من خلال الشركة في سر الإفخارستيا.
ولهذا فخلاص الإنسان يقوم على إيمان الشخص بألوهية المسيح، وبشكل خاص على أساس الإيمان بوحدة الجوهر مع الآب. فتعبير (omooÚsioj) لا يشكل موضوع جانبي أو تفصيلي، بل هو أمر له أهمية دينية واجتماعية للمؤمنين في ذلك العصر الذي نوقش فيه مسألة (الوحدة في الجوهر بين الاب والابن). وأيضًا لأولئك الذين قبلوا وآمنوا بأن الاتحاد بالله هو هدف الوجود الإنساني.
رفض هذه الوحدة في الجوهر بين الآب والابن (omooÚsioj) يعنى هدم للقاعدة التي تُبرر الرغبة في الكمال الروحي، ورجاء الخليقة الجديدة. ومن أجل هذا فإن كل التعاليم المسيحية، تؤكد على أن الكون يحقق معناه وقيمته وهدف وجوده، في المسيح فقط. ولذلك فإن الهرطقات التي تنادي بربط الشر بالعنصر المادي، تعكس رأي فلسفي بعيد وغريب عن تعليم الكنيسة، هذا الرأي هو رؤية غنوسية مانوية ترى أن الشر موجود في المادة، وعليه فلا وجود للشر في الله لأن الله روح خالص، إذن فهو في ذاته الخير والصلاح.
فقد اعتقد المانويون[2] بوجود مبدأين أزليين للكون وهما غير مخلوقين: النور والظلمة. النور هو إله الخير، والظلمة هي إله الشر. والمادة بحسب رؤيتهم هي ظلمة، وبناء عليه فهي شر. أما بالنسبة للتعاليم المسيحية، فإن كل شئ يأتي من الله. فالله كصالح ومحب للبشر لم يخلق الشر ولم يكن سببًا في ظهوره. هكذا يؤكد القديس باسيليوس أن الله ليس سببًا للشرور. ويتساءل: [ إن كان كل شئ يأتي من الله، فكيف يأتي الشر من الصالح؟ فلا يمكن أن يأتي الإثم من الصلاح ولا الخطية من الفضيلة][3]. المادة خُلقت من الله وهي ليست شر. ليس هذا فقط، بل إن الرسالة الأساسية للمسيحية، رسالة القيامة، تعلن أن التجديد في المسيح، لا ينحصر في الإطار الروحي فقط ولكنه يشمل البُعد المادي أيضًا، والذي هو في خدمة الروح. الشر بحسب التعاليم المسيحية ليس له جوهر، لكنه يوجد في حالة غياب الصلاح. ولذلك فإن رفض الخياليين الإيمان بأن المسيح قد أخذ جسدًا حقيقيًا، نابع من إيمانهم بأن المادة شر. ولذلك علّموا بأن المسيح قد أخذ جسدًا خياليًا. وهي الهرطقة التي أُدينت بشدة من قِبل الكنيسة. ولذلك دعاهم القديس أغناطيوس الإنطاكي ” بالملحدين ” و ” غير المؤمنين” [4].
الخط الفاصل ـ بالنسبة للكنيسة ـ لا يوجد بين المادة والروح، بل بين الكون المخلوق والله الخالق. والكون لا يشتمل فقط على المادة بل على العالم الروحي، بينما غير المخلوق هو الله فقط. والشر ليس في المادة فقط، لكن في العالم الروحي أيضًا. وبشكل أكثر دقة فإن الشر نابع من العالم الروحي الساقط والذي جذب معه العالم المادي. ولذلك فإن رفض العنصر المادي وتأليه العنصر الروحي، لا يعبّر عن رأي الكنيسة.
ثم جاء من علّم بأن المسيح لم يأخذ طبيعة إنسانية كاملة (آريوس ـ أبوليناريوس) أي أنه أخذ جسد بلا عقل، أو بنفس غير عاقلة. وهذا يعنى أن خلاص الإنسان غير تام وغير كامل. على العكس من ذلك يؤكد القديس غريغوريوس اللاهوتي أن: [ أي شئ فينا لا يمكن أن يُشفى ويخلص إلاّ باتحاده بالله][5]. وبحسب تعليم الكنيسة فإنه لا يوجد أي عنصر إنساني بقى خارج التجديد الكيانى الذي تحقق بتجسد المسيح. التأنس الكامل والتام لله، منح الإنسان بل والكون كله الخلاص والتجديد.
في نفس الإطار رفضت النسطورية الاتحاد الحقيقي بين الطبيعتين (الإلهية والإنسانية) في المسيح. وإن كانت قد قبلت بالاتحاد لكنه اتحاد خارجي وليس حقيقي. كل هذه الهرطقات رفضت قبول أن ” كلمة الله ” قد أخذ طبيعة إنسانية كاملة وحقيقية.
هذه الآراء الهرطوقية يمكن أن توضع في اتجاهين أساسيين:
1 ـ الآراء التى تنحصر في المستوى الإنساني، وترى أن الخلاص هو إنجاز إنساني أي يحققه الإنسان بنفسه.
2 ـ الآراء التي تضع كل شئ في المستوى الإلهي، وترى أن الخلاص هو عمل الله فقط، ولا وجود للعنصر الإنساني في هذا العمل الخلاصي.
لكن التعاليم الآبائية تؤكد على أن المسيح كإله كامل وإنسان كامل قد ربط الطبيعي بما هو فوق الطبيعي والمخلوق بالخالق وهدم العداوة وأبطل قوة المعاند وأوجد السلام والوحدة بين المؤمنين. ومن أجل هذا فإن الأناجيل تحمل بشارة فرح لأجل هذه الوحدة التي تحققت بين الله والإنسان في شخص المسيح. لقد تجلت الحياة الجديدة واستعلنت الخليقة الجديدة أيضًا. لقد استعلنت الحياة الأبدية داخل الزمن. لقد كان الإنسان في العهد القديم هو الذي يسعى نحو الله يحاول إرضائه ويطلب منه الغفران والمسامحة. أما في العهد الجديد، فالله هو الذي يأخذ المبادرة، فلا يُشير العهد الجديد إلى أي محاولة من قِبل الإنسان للتصالح مع الله، بل ” إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه ” (2كو19:5). وهذا ما يؤكده القديس يوحنا، حين يشير إلى أن محبة الله تجاه البشر هي التي دفعته لبذل ابنه الوحيد ” هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” (يو16:3).
وهذا هو ما يُعبّر عنه العهد الجديد بأمثلة متنوعة. فحين يذكر مثل الخروف الضال، فهو يريد أن يُشدّد على أن الله هو الراعي الأمين والصالح الذي يسعى في طلب الخروف الضال، وحين يجده، يحمله على منكبيه ويعود به فرحًا إلى بيته (لو4:15ـ7). وقد برهن الله على هذه المحبة ” لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا” (رو8:5).
فالله إذن أظهر لنا محبة متجسدة في شخص المسيح الذي تمم مشيئة الله الآب حتى المنتهى. فيسوع المسيح هو صورة الآب الحقيقية، الذي أحبنا بصورة فائقة للوصف. ولذلك قال المسيح له المجد: ” من رآني فقد رأي الآب” (يو9:14).
من أجل هذا فإن تجسد كلمة الله هو إجابة واضحة ومُفرحة ضد التيار اليوناني الفلسفي الذي رفض فكرة اتحاد الإلهي بالإنساني، وأيضًا ضد الهرطقات التي اجتمعت معًا في نقطة واحدة وهي رفضها لألوهية المسيح، من خلال رفضها للاتحاد الحقيقي بين الطبيعتين في المسيح ” فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب ” (لو10:2ـ11). ولذلك تصلي الكنيسة بأن الله أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له، وهو الهدف من هذا الاتحاد بين الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية. أي أن يصل الإنسان إلى الاتحاد بالله، إلى كماله في المسيح، وتصير له إمكانية الدخول إلى أعماق الحياة الجديدة.
التعليم عن طبيعة المسيح:
لقد ارتبطت التعاليم الخريستولوجية بعقيدة الثالوث منذ القرون الأولي للمسيحية. فقد رفض المنادون بالوحدة المُطلقة في الله الظهورات الإلهية في العهد القديم كإعلان عن الثالوث. وادّعوا أن الثالوث ليس إلاّ أقنومًا واحدًا ظهر في ثلاثة أشكال (الآب والابن والروح). وهذا يعني حسب رؤيتهم أنه لا يوجد تمايز بين الأقانيم، ولا وحدة جوهر، بل هناك أشكال ثلاثة لله الواحد تحمل ثلاث أسماء. الآب لأنه خالق الكون وهو الأصل، الابن لأنه تجسد وصار إنسانًا، والروح القدس لأنه يملأ كل شئ بحضوره. هذه الهرطقة انتشرت في روما، وشمال إفريقيا، وآسيا الصغرى، وذلك في أواخر القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث. وأشهر من دعا لهذه الهرطقة هم:
1 ـ نوئيتوس الذى بشر في أزمير بين سنة 180 ـ 200م.
2 ـ براكسياس الذى نشر تعاليمه في روما وقرطاجنة.
3 ـ سابيليوس بتوليمائيس في الخمس مدن، ودُعيت الهرطقة باسمه (الهرطقة السابيلية). هذه البدعة السابيلية ورد ذكرها في القانون الأول من قوانين مجمع القسطنطينية سنة 381، كبدعة يجب نبذها، وكانت في ذلك الحين قد فقدت قوتها كتنظيم خاص له وجود، لكنها كانت لا تزال شائعة عند بعض الناس. يذكر القانون الأول من هذا المجمع ” إن الآباء الذين اجتمعوا في القسطنطينية قرروا بأن لا يحيدوا عن إيمان الآباء الثلثمائة والثمانية عشر المجتمعين بنقية، بل يبقى هذا الإيمان حيًا وصحيحًا، وأن تُحرم كل هرطقة، وعلى وجه الخصوص الأفنومية، والأفذوكسية (نسبة إلى تعاليم افدوكيوس)، والسابيلية، .. وأتباع أبوليناريوس “.
وفي كتاب “دحض جميع الهرطقات” المنسوب إلى هيبوليتوس الروماني (170ـ235) نجد دحضًا لتعاليم نوئيتوس. وفي كتاب “ضد براكسياس” لترتليانوس، نجد دحضًا لتعاليم براكسياس، ويذكر يوسابيوس القيصرى في كتابه ” تاريخ الكنيسة6:7 ” أن ديونيسيوس أسقف الأسكندرية (190 ـ264) كان يصف أتباع هذه الهرطقة بالتجديف، وعدم التوقير (للآب والابن والروح القدس).
وتكمن خطورة هذه الهرطقة في أنها لم تميز بين وحدة الجوهر وتمايز الأقانيم في الله، وإن كانت قد اعترفت بألوهية الابن، لكنها أكدت على أن الابن هو نفسه الآب.
هذا الرأى ينتهي إلى نتيجة مفادها أن الآب نفسه هو الذى تجسد من العذراء وتألم وصُلب وقام. هذا التعليم بالطبع يتناقض مع تعليم العهد الجديد عن الله الآب، وعن ابنه يسوع المسيح الذي وُلد من العذراء مريم ليتمم مشيئة الآب. فالآب والابن أقنومان متمايزان.
ثم ظهرت هرطقة أخرى تنكر ألوهية المسيح، وانطلقت من مبدأ وحدانية الله، حيث تخيل أصحاب هذه الهرطقة أن المسيح ليس سوى إنسان تبناه الله. أصحاب هذه الرؤية هم بعض اليهود الذين تنصروا في بدايات القرن الأول وآمنوا بالمسيح، لكنهم رفضوا أنه ابن الله المولود قبل كل الدهور.
ويذكر ايريناؤس، أن من بين هؤلاء اليهود جاء الأيبونيون[6]، الذين قالوا إن يسوع هو مجرد إنسان وُلد من العذراء. كما أنهم لم يعترفوا بإنجيل متى، ورفضوا تعاليم الرسول بولس وكل رسائله، والتزموا بتعاليم الناموس وحفظ الوصايا.
وعلى الرغم من أنهم قد حفظوا الختان وعملوا بالناموس، إلاّ أنهم أظهروا توجهًا يونانيًا في آرائهم، بل أنهم قطعوا الخيط الذي يربط بين العهدين القديم والجديد، وقالوا إن هناك هوة عميقة تفصل بين العهدين. في المقابل نجد أن إبيفانيوس يؤكد ـ بحسب الرؤية الآبائية الأرثوذكسية ـ على وحدة العهدين القديم والجديد وعدم جواز الفصل بينهما[7].
أشهر من دعا لهذه الهرطقة هو بولس الساموسطائى، الذي كان أسقفًا لإنطاكية سنة 260م وكانت تعاليمه ضد عقيدة الثالوث. وقد اعتبر المسيح له المجد مجرد إنسان أعطاه الله قوة وحكمة أكثر من جميع الأنبياء. وعلم بإمكانية أن ندعو المسيح إلهًا لكن ليس بالمعنى الحقيقي. ولذلك كان أتباع بولس الساموسطائى يستخدمون عبارة ” باسم الآب والابن والروح القدس ” عند إتمام سر المعمودية، لكنهم لم يستخدموا تلك الكلمات بمعناها الحقيقي. من أجل هذا فقد ألزم القانون 19 من قوانين مجمع نيقية سنة 325م [ إن أتباع بولس الساموسطائى الذين عادوا إلى الكنيسة الجامعة يجب أن تُعاد معموديتهم ][8].
من بين أولئك الذين أخذوا موقفًا رافضًا للعهد القديم، مجموعة النيقولاويين التي وردت في سفر الرؤيا (6:2). وأيضًا ماركيون الذي كوّن حركة كبيرة في روما، حيث هرب من اضطهاد pÒnto، وقد رفض العهد القديم بعناد، ورفض الحديث عن العالم (kosmolg…a) كما ورد بالعهد القديم[9]. فقد رفض العهد القديم كاستمرار لمسيرة التدبير الإلهي، وعلى وجه التحديد الظهورات الإلهية في العهد القديم. وهو بذلك يرفض عقيدة الثالوث، ويقاوم التعليم الصحيح عن عقيدة الخريستولوجي، كما جاء في العهد الجديد. فالعهد الجديد هو استمرار لهذه المسيرة (مسيرة التدبير الإلهي)، التى اكتملت بتجسد الابن الوحيد. وهنا ينبغي الإشارة إلى حديث اسطفانوس أول الشهداء أمام اليهود، حينما قال: ” موسى الذي قال لبني إسرائيل نبيًا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من اخوتكم له تسمعون هذا هو الذي .. كان يكلمه في جبل سيناء ومع آبائنا . الذي قَبِل أقوالاً حية ليُعطينا إياها ” (أع38:7). أى أن موسى أخذ من الله كلامًا حيًا. الكتاب هو هذا الكلام الحي وموسى قد اختبر وتذوق هذه الحياة. ووفقًا لهذه الروح، نجد أن إبيفانيوس وهو بصدد مقاومته لانحرافات وافتراءات الهراطقة؛ يؤكد ويشدد على أن ” الألوهية هى واحدة والروح واحد في العهدين القديم والجديد “[10].
بينما رأت مجموعة أخرى، تُسمى بالتروبيكيون، أن الكلمة هو أسلوب استعلان لله الواحد. هذه المجموعة أنكرت ألوهية الروح القدس أيضًا، ونادوا بأن الروح القدس مخلوق من العدم، وأنه ملاك أعلى في الرتبة من بقية الملائكة، وإن كانوا يحسبونه ضمن الأرواح الخادمة (عب14:1). ونتيجة لذلك فهو من جوهر مختلف عن جوهر الآب والابن، كما أنه لا يشبه الابن.
هذا الارتباط بين عقيدة الثالوث والتعاليم الخريستولوجية، لم يكن ارتباطًا نظريًا فقط، لكنه أخذ بُعدًا تطبيقيًا في حياة الكنيسة، وهى بصدد الرد على الهرطقات. فالتقليد الكتابى يؤكد على حقيقة أن المسيح هو ابن الله ” أنت هو المسيح ابن الله الحي ” (مت16:16)، فهو الأقنوم الثانى في الثالوث القدوس، وهو الكلمة الذي أخذ جسدًا. هكذا يعلن القديس يوحنا بشكل واضح لا لبس فيه ” أن الكلمة صار جسدًا وحل بيننا ” (يو14:1). وعبارة جسد هنا تعنى الإنسان بكامله، وليس فقط جسد الإنسان بدون نفس. لذلك فهو يؤكد على أن ” كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح” (1يو1:4ـ3).
وكان يوحنا حينذاك يواجه هرطقة تشكك في حقيقة جسد المسيح، لذلك نراه يؤكد فى رسالته الثانية على أنه قد ” دخل إلى العالم مضلون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسيـح آتيًا في الجسد. هذا هو المُضل والضد للمسيـح” (2يو7:1).
التاريخ الكنسي فى قسمه الكبير، انشغل بالأحداث والصراعات والانقسامات التى حدثت لفترات طويلة داخل الحقل الكنسى، بسبب تعاليم الهراطقة غير المستقيمة ضد طبيعة المسيح. لكن من ناحية أخرى فإن التاريخ الكنسى يشير إلى أن ظهور الهرطقات جعل الآباء يكرسون جهدهم ووقتهم فى الرد على هذه التعاليم المُضلّة، الأمر الذى أدى إلى نمو واتساع ونضوج التعاليم الأرثوذكسية القويمة.
وهذا نجده واضحًا فى إنجيل القديس يوحنا ورسائله، فقد واجه هرطقة خاصة ارتبطت بتيار فلسفى شرقى فى ذلك العصر، وهى هرطقة الدوستيين (oi dokhtismo…) أو الخياليين.
الدوستيون أو الخياليون:
هؤلاء رفضوا أن يكون المسيح قد أخذ جسدًا حقيقيًا، بل اعتقدوا أن المسيح أخذ جسدًا خياليًا أو شبه جسد، ولهذا فقد دُعوا بالخياليين. هؤلاء هم فئة من الغنوسيين الذين انتشروا بين المسيحيين منذ نهاية القرن الأول. والذين كانوا يؤمنون أن المعرفة هى الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة والمعرفة بحسب رؤيتهم، لا يصل إليها الإنسان إلاّ إذا تخلى عن عالم المادة والجسد، وهذا العالم كانوا يعتبرونه عالمًا فاسدًا فى جذوره. وعليه رفضوا الإيمان بأن المسيح كان له جسد حقيقي، بل تصوروا أن المسيح أخذ ” شكل جسد ” أو ” شبه جسد “. هذه الجماعة تبنت فكر الفلسفة الثنائية. والذى ينادى بأن هناك عالم محسوس، وآخر غير محسوس وغير مرئي، وهذان العالمان لا يمكن أن يتلاقيا؛ فالمادة والروح لا يمكن أن يتصالحا أبدًا حيث إن الواحد لا يتناسب ولا يتوافق مع الآخر بأي طريقة كانت[11].
وبناء على هذا فقد اعتبروا أن تجسد الكلمة هو أمر مستحيل، بحسب هذه الرؤية الفلسفية. قبلوا فقط استعلانه الظاهري، أي ظهوره في شبه جسد، وليس جسدًا حقيقيًا. بمعنى أنه جسد خيالي.
والتعليم اللاهوتي للآباء يرفض هذه الرؤية، ويؤكد على حقيقة جسد المسيح، كما أكد القديس أثناسيوس على هذه الحقيقة قائلاً: [ عندما تألم المسيح بالجسد لم يكن الكلمة خارجًا عنه، ولهذا السبب يُقال إن الآلام خاصة بالكلمة، وعندما عمل أعمال الآب لاهوتيًا، لم يكن الجسد خارجًا عنه، لكن الرب عمل هذه الأعمال في هذا الجسد نفسه … وهذه الأمور حدثت هكذا وظهـرت هكذا، لأنه قد اتخذ لنفسـه ـ جسدًا حقيقيًا وليس خياليًا ][12].
هذه الهرطقة مع هرطقات أخرى مشابهة أو مختلفة عنها، استمرت في نشر تعاليمها المضللة، تارة بالعنف وتارة بالحيلة والخداع، في محاولة للتأثير على مسيرة الكنيسة وتعاليمها الأرثوذكسية، وذلك حتى القرن الخامس.
لكن في القرنين الرابع والخامس، لم تعد هذه الهرطقة تشكل الأهمية التي كانت لها في السابق، حيث بدأت بعض الهرطقات الأخرى في الظهور. وهذه الهرطقات تقوم على أسس مغايرة وتقود إلى نتائج مختلفة تمامًا عن هرطقة الخياليين؛ حيث يرفض الخياليون تجسد الكلمة، بينما هذه الهرطقات لا ترفض فكرة التجسد، لكنها شرعت في شرح وتفسير طريقة الاتحاد بين الطبيعتين في المسيح (أي الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية)، وكانت هناك صعوبة حول توضيح معنى المصطلحات، “جوهر ous…a” ، “طبيعة fÚsh” ، “شخص prÒswpo” ، “أقنوم upÒstash”.
فالرؤية غير الصائبة للهراطقة تعود في كثير من الأحيان إلى عدم فهم وتوضيح معنى هذه المصطلحات[13].
ومع هذا فإن المناقشات حول طبيعة المسيح، لم تكن مناقشات نظرية خالصة. فالهراطقة كانوا يتحركون من واقع اجتماعي وحياتي مُعاش. فأغلب الهراطقة في شرحهم لسر التجسد، ينطلقون من أسس أخلاقية. فبحسب التفسير الأخلاقى للخلاص، فإن المسيح كان من الممكن أن يخطئ، لكنه لم يخطئ، لأنه سلك باستقامة وإرادة نقية.
بينما ركز الجانب الأرثوذكسي على الطابع الشفائي للخلاص. يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [ أي شئ فينا لا يمكن أن يُشفى ويخلص إلاّ باتحاده بالله ][14]. وهكذا فإن المناقشات التى دارت من قِبل الهراطقة والخاصة بطريقة الاتحاد بين الطبيعتين في المسيح، منذ بدايات القرن الرابع وخلال القرن الخامس، بينما كان لها أسس فكرية فلسفية مجردة، إلاّ أنها تحددت بشكل واضح من خلال الخبرة الحياتية الاجتماعية. وأيضًا الرد على هذه الهرطقات لم يكن نظريًا فقط لكنه كان يعكس خبرة حية للكنيسة في صلواتها وطقوسها وممارساتها، لأن الكنيسة هي أيقونة الثالوث، كانت ولا تزال تحيا الشركة على مثال الثالوث. لقد أدركت الكنيسة منذ تأسيسها أن المسيح الحي لا يزال حاضرًا فيها، لأن الخلاص وغفران الخطايا وعطية الحياة الإلهية، ليست أعمالاً إنسانية تستطيع الكنيسة القيام بها بجهودها الإنسانية، بل عمل المسيح نفسه الذي قام من الأموات وهو الآن حي فيها، والذي يُحييها ويكمل عمله فيها بالروح القدس. لأن المسيح أيضًا هو ” رأس الكنيسة ومخلص الجسد” (أف23:5).
[1] G.I. Mantzar…dh (Koinwniolog…a tou CristianismoÚ) Qesün…kh 1990, s. 154.
[2] المانويون هم أتباع الفيلسوف الفارسي ماني والذي مات سنة 273م.
[3] M. Basile…ou, Ðti oÙk œstin at‡oj tîn kakîn o QeÒj, 5 PG31,341C.
[4] أنظر ” الأباء الرسوليون”، الرسالة إلي أهل تراليان، ص122، فقرة 10.
[5] G. QeolÒgou, Epistol» 101 PG37, 181C-184A.
« To gar aprÒslhpton aqer£peuton. O de ½nwtai Qeî, toàto kai sîzetai ».
[6] يصعب شرح هذا الاسم، وربما هو اسم لأحد الأشخاص يُدعي أيبون ومنه أُخذ الاسم. لكنه يعنى “الفقراء”. والأيبونيون بحسب إبيفانيوس قد رفضوا بشكل قاطع ألوهية المسيح، وبطبيعة الحال رفضوا ميلاده المعجزي واعتبروه ابن يوسف النجار. على الرغم من أنهم كانوا يعتمدون في الماء على اسم المسيح. Epifan…ou kata airesšwn PG 41, 401-436A.
[7] Epifan…ou kata airesšwn PG 42, 145D- 168A.
[8] P. I. AkanqopÕlou “Kèdikaj ierèn KanÒnwn kai Ekklhsiastikèn NÒmwn” Qesün…kh 1991, s. 61.
[9] ماركيون هو ابن لأحد الأساقفة، وبحسب إبيفانيوس كان قد خدع إحدى الفتيات وطرده أبوه من مدينة بنطس، فلجأ إلى روما حيث بدأ في نشر تعاليمه
Epifan…ou kata airesšwn PG 41, 580CD
[10] Epifan…ou kata airesšwn PG 41, 293A.
[11] N…kou A. MatsoÚ (orqodox…a kai a…resh) Qes|n…kh 1981, s. 162.
[12] المقالة الثالثة ضد الآريوسيين ـ ترجمة د. مجدي وهبه ود. نصحي عبد الشهيد، إصدار مركز دراسات الآباء 1994، ص 62.
[13] Swkr£touj, ekklhsiastik» istor…a, 2, 46 PG67, 364B.
[14] Grhg. NazianzinoÚ PG 37, 1815.