تابع دراسة عن التقليد – كيف نفهم الكتاب المقدس تابع دراسة عن التقليد الكنسي
الكتاب المقدس والتقليد – الجزء الثاني
للعودة للجزء الأول أضغط هنـــــــــــــــا
+ تمهيـــــــــــــــد
يقول القديس بولس الرسول للقديس تيموثاوس الرسول: [ أحفظ الوديـــــعة ] (1تيموثاوس 6: 20)، ويقول البطاركة الشرقيون: [ نُحافظ على عقيدة الرب بدون فساد، ونتمسك بثبات الإيمان الذي أعطانا، ونحفظه مُنزهاً عن كل شائبة أو نقص، كما يُحفظ كنز ملكي وصرح باهظ الثمن، لا نُضيف إليه شيئاً ولا نَنقُص منه شيئاً ]، ويقول القديس يوحنا الدمشقي: [ لن نُغير في الحدود الأزلية التي خطها آباؤنا، بل نُحافظ على التقليد كما تسلمناه ]….
-
فما الذي يعنيه الآباء عندما يتحدثون دائماً عن التقليد ؟
التقليد بالمعنى القاموسي، هو رأي أو مُعتقد، أو عادة ينقلها الأسلاف لذُريتهم ليحفظوها كما هي، إذ قد أرسوها فيهم منذ نعومة أظفارهم، وقد رأوا أن آبائهم عاشوا بتلك الآراء أو المعتقدات ومارسوا هذه العادات، فترسخت في قلوبهم وأفكارهم حتى أنهم عاشوا بها بتلقائية بدون عناء، بل ظلوا يمارسوها وبدورهم يُسلموها كميراث لأولادهم …
والتقليد المسيحي، على ضوء هذا التعريف، هو الإيمان الذي سَلَّمه المسيح الرب للرسل، وذلك الإيمان عينه تناقلته الأجيال المتعاقبة (المؤمنة الصادقة الأمينة، الصريحة في الإيمان) في الكنيسة منذ العصر الرسولي [ فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً ] (1كورنثوس 15: 3) (رجاء مراجعة كورنثوس الأولى الإصحاح 15).
على أن التقليد يعني بالنسبة للمسيحي المؤمن باستقامة القلب، ما هو أوضح وأدق بكثير من هذا التعريف السابق، لأن التقليد المسيحي هو تقليد حي نابض بحياة الله، وهو إعلان الروح، لذلك فهو ليس مجرد عادة أو مجرد تعاليم فكرية فلسفية أو عادة شعب أو طائفة، أو بنود موضوعه لحزب، لأنه تقليد حي أركانه هي:
أسفار الكتاب المُقدس، ودستور الإيمان الموضوع بالروح القدس، وقرارات المجامع المسكونية، وكاتبات الآباء المختبرين للحياة الإلهية في شركة الروح القدس، والقوانين التي تضبط حياة التقوى بالنعمة وتظهر قلب الإنسان الصالح، والكتب الليتورجية التي تدخلنا في سر الشركة والاتحاد بالله على المستوى العملي، والأيقونات التي تُعبِّر عن الوضع الروحي للقديسين كصورة تعليمية تُذكرنا بحياتهم في المسيح وشركة القديسين لنقتدي بها.
وهذا كله يستدعي أن يكون لحامل هذا التقليد سرّ قراءته بالروح، لأن التقليد حياة الله، له طريقة في القراءة تُعطى في القلب سراً بالاستنارة، التي بدونها يُصبح مجرد أفكار وكلمات معقدة أو بسيطة تتوقف على زكاء كل شخص، فيقرأ منه ما يشاء على ضوء قناعته الشخصية فيخرج عن التقليد بمعنى آخر وتعريف آخر ليس فيه، فينفصم عن حياة الكنيسة مبتعداً عن التسليم الرسولي والآبائي عبر الأجيال في سرّ الإيمان بالتقوى.
عموماً التقليد هو كل ما عبَّرت عنه الكنيسة (جماعة المؤمنين الملتفين حول المسيح الحي الحاضر وسطهم بسرّ وعده: أنا معكم كل الأيام) عبر العصور من عقيدة وتنظيم كنسي وعبادة وفن، والمسيحي المستقيم في الإيمان، يعتبر نفسه اليوم حارساً لهذا الميراث الحي العظيم، المتناقل من جيل لجيل عن طريق الأمناء في الحق المُعلن بالروح القدس، الذين يُفصلَّون كلمة الحق باستقامة، والذي يرعون عمل الله في قلبهم متمسكين بما تسلموه بدون أن يضيفوا شيئاً ما من عندهم، أو ينتقصوا منه شيئاً.
عموماً المسيحي الأمين الذي أشرق في قلبه نور كلمة الله واستعلان مجده بالروح، يُدرك أن واجبه نقل هذا الميراث كاملاً إلى الأجيال القادمة، وأمانته في أن يحيا به ويحمله في قلبه، حتى أن كل شروحاته وتفسيراته، تنبع منه إذ يحمل روحه في داخله، لأنه تشرب منه واستقى في شركة الآباء والقديسين في النور …
ومن الجدير بالملاحظة، أن الكتاب المقدس جزء من التقليد وأساسه، بالرغم من أن كثيرين اليوم يعتقدون أن التقليد هو: [ التعليم الشفاهي الذي أعطاه المسيح ولم يدوَّنه تلاميذه المباشرون ] (قاموس أكسفورد)، وبالتالي يعتبرون ان التقليد شيء آخر تماماً غير الكتاب المقدس، وإنهما مصدران مختلفان من مصادر الإيمان المسيحي !!!
مع أن في الواقع لا يوجد سوى مصدر واحد فقط للتقليد – كما سوف نرى فيما بعد – لأن الكتاب المقدس موجود ضمن التقليد وليس مختلف عنه أو بعيداً عنه، وكأن يوجد مصدران للتقليد منفصلان، والعمل على فصل الكتاب المقدس عن التقليد أو وضعهما الواحد مقابل الآخر، أو في مواجهة، يعني هذا افتقارهما معاً، بل تشويه التقليد تماماً، لأن التقليد لا يتجزأ أو ينقسم، بل يُكتمل مع بعضه البعض لأنه وحدة واحدة موضوعه بالروح القدس، روح الإلهام والإعلان وإظهار مجد الله.
عموماً إن الإخلاص الحقيقي للتقليد، ينبع من مفهوم أن الماضي في الكنيسة ماضي حي ممتد للمستقبل يزداد سطوعاً أكثر كل يوم، لأن التقليد ينبض بالروح القدس، والروح القدس بطبيعته أزلي أبدي، لا يوجد فيه ماضي وانتهى أو حاضر يخص الساعة ويتقلص ويُصبح ماضي، بل هو حي يُحمل بكل اتساعه ويفوق محدودية الزمن، وهذا الكلام ليس كلام فلسفي أؤلفه لكي أقنع الناس بالتقليد والفكر الصحيح، بمجرد كلمات رنانة لها وقع جميل على آذان القارئ، بل أكتب للذي يرى بعين الإيمان المفتوحة على الله…
حقيقي لن يشعر بكلامي هذا ويرى حقيقته، إلا من تاب توبة حقيقية ودخل في السيرة الروحانية واستنار بنور النعمة وانفتح ذهنه حقيقة وليس كلاماً، عموماً هذا الإخلاص في أمانة حفظ التقليد كروح وحياة مُعاشه، ينبغي أن يكون دائماً إخلاصاً خلاقاً بالروح القدس بالطبع، لأن المسيحية الحقيقية لا يسعها أبداً أن تكتفي “بلاهوت الترداد” العقيم، الذي فيه نكتفي عادة بترداد صيغ معروفة وصلوات محفوظة دون السعي الجاد بإيمان حي للولوج إلى مضمونها.
فليس ثمة آلية في مضمار الولاء الواعي للتقليد، لأن المسيحية ليست آلية متجمدة، أي ليست استاتيكية، بل ديناميكية متحركة، وعلى المسيحي الحقيقي الملتصق بإخوته القديسين أحباء الرب في الكنيسة، أن يرى التقليد من الداخل، ويلج إلى روحه…
ولكي يحيا المسيحي الحقيقي في التقليد، لا يكفي قط أن يلتزم فكرياً بمجموعة من العقائد والآراء، لأن التقليد أبعد بكثير من أن يكون عبارة عن مجموعة من الآراء المُجردة والمتجمدة، بل هو لقاء حي وشخصي جداً مع المسيح الرب القيامة والحياة. فالتقليد لا تحفظه الكنيسة مجرد حفظ مثلما نحفظ قوانين الفيزياء أو النصوص الشعرية، ونقول هي هكذا، تحفظ جامدة كما هي، بل التقليد يعيش ويسكن في الكنيسة، لأنه في الكنيسة حياة الروح القدس.
ففي مفهوم الإيمان المستقيم، التقليد ليس جامداً، بل هو حيوي، وليس مجرد قبول ميتاً للماضي، بل خبرة الروح القدس الحية التي تُحافظ على تجديدها باستمرار، أي هو التجديد المستمر بدون أن يلغي الماضي، بل يؤكده ولا يُلغيه قط بل ويزيد عليه، مثل البناء الذي يوضع أساسه ويرتفع بوضح حجر على حجر، وطابق فوق طابق، إلى أن يرتفع ويزداد ارتفاعه كل يوم بتجديد مستمر مع تزيينه بكل زينة الروح، لأن لا نستطيع ان نضع بناء ونلغي منه طابق أو نلغي الأساس ونقول لا حاجة لنا لما تم وضعه لأنه انتهي، لأن ما في البناء لا ينتهي بل يسند ما يليه ويؤكده، وهذه هي حياة التجديد في الكنيسة الحية بالروح.
وعلى الرغم من أن التقليد ثابت داخلياً – لأن الله لا يتغير مُطلقاً – فإنه يتخذ على الدوام صيغاً جديدة، تُضاف الواحدة منها إلى الأُخرى دون أن تحل محلها أو تلغيها، لذلك يظن البعض أن في إمكان الكنيسة أن تلغي ما وضعه الروح من قانون بقصد الحاجة أو التغيير، وهذا عيب خطير لأن مفهوم التقليد هنا أصبح لا يُفهم في إطاره الصحيح، وهذا تنازل عن ما خطه الروح بحجة الاحتياج، مع أنها حجة للهروب من الأصول الروحية التي وضِعَت كأساس.
وقد تختلف الحجة من شخص لآخر لأسباب تدل على زوغان القلب لطمع ما، أو غيرها من الأسباب، ولكن هذا كله خروج عن التقليد الحي، وبالطبع مفهوم مغلوط تماماً للنمو والتقدم كبناء حي، لأن ما وضع كأساس، لا يُزال قط، بل يمتد عليه البناء ويقوم، وأي خلل يحدثه شخص ما، هو كفيل أن يجعله يُلفظ ويُخرَج من داخل الكنيسة كجسد المسيح الحي، بالرغم من أنه قد يكون فيها شكلاً، وهذا يضعه في مواجهة مع الروح نفسه الذي هو نبع التقليد وأساسه !!!
وللأسف اليوم، نجد أن البعض يعتقد أن مرحلة التحديد العقائدي قد وَلَّت، وأيضاً لا يوجد جديد تستطيع الكنيسة ان تُقدمه، أو لا يوجد من هو مُلهم بالروح لكي يضع التعليم الذي يتناسب اليوم مع جموع الناس المختلفة ويحمل روح التقليد ويُقدمه في صورة مُعاصرة فيها ملء الروح وقوته مثل ما كانت في العصور السابقة الظاهر فيها الإيمان الحي العامل بالمحبة.
وطبعاً هذه ليست حقيقة الأمر لأن من يعتقدون هذا لم يعرفوا التقليد في روحه بل عرفوه في محفوظاته كفكر ودراسة، مما جعله ميت في داخلهم، مع أن حقيقة الأمر أن التقليد حي، وهذا ما عَبَّر عنه بوضوح جورج فلوروفسكي حين قال:
[ التقليد شهادة الروح القدس ووحيه الذي لا ينقطع، وبشارته المستمرة… ولكي نقبل التقليد ونفهمه، علينا أن نحيا في الكنيسة، وأن نعي حضور السيد الواهب البركات، وعلينا أن نحس فيها نَفَس الروح القدس… فالتقليد ليس مبدأ للصيانة والحفظ، بل هو أولاً مبدأ النمو والتجدد… والتقليد ليس ذاكره نُطقيه فقط، بل هو المستقَرّ الدائم للروح القدس ]
فالتقليد هو شهادة الروح القدس كما وعد الرب يسوع حين قال: [ وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يُرشدكم إلى جميع الحق ] (يوحنا16: 13)، وهذا الوعد الإلهي هو عينه مصدر احترام المسيحي الحقيقي الحي بالروح للتقليد….
+ ما هي إذن العناصر الأساسية للتقليد والتي تُسمى بالتعابير الخارجية له، لأننا قلنا أن التقليد من الداخل هو حياة الروح القدس في الكنيسة، وحسب الآية السابقة، ولكن التعبير الخارجي للتقليد هو: [الكتاب المقدس – الليتورجية – المجامع المسكونية – آباء الكنيسة – القانون الكنسي – الأيقونات ]
-
+ تماسك عناصر التقليد:
تلك العناصر التي تمت كتابتها في عجاله كعناوين، هي العناصر الأساسية التي تكوَّن تقليد الكنائس التقليدية من الناحية الخارجية، ولا يُمكن فصل هذه العناصر عن بعضها البعض، أو وضع بعضها في مقابل الآخر، لأن الروح القدس يتكلم من خلالها جميعاً. وهي تُشكل وحدة متكاملة، ويُفهم العُنصر منها في ضوء العناصر الأُخرى.
وكما قال البعض عن وعي روحي وإدراك لاهوتي، أن السبب العميق للانشقاقات في الكنيسة عموماً على مر التاريخ وإلى اليوم، يعود لذلك الانفصال بين عناصر التقليد والحياة الاختبارية المُعاشة في حياة المسيحي، لأننا نجد هناك انفصال بين اللاهوت والسرّ (mysticism μυστικός ) (مستيكي)، وبين الليتورجيا والتقوى الشخصية، وبين المعرفة والتطبيق، وبين الصلاة والحياة المُعاشة، وهكذا نجد كل شيء منفصل عن الآخر.
وبالتالي انفصل الكتاب المقدس عن باقي عناصر التقليد فنأى كل واحد بنفسه وبات يشرح ويُفسر ويكتب بما لا ينفع أو يُفيد إفادة حقيقية في الطريق الروحي للحياة والشركة، وأصبحت معظم الكتابات للمعلومات والاستذكار للمعرفة المحصورة في العقل والفكر، ويُطلق عليه خطأ، فكر مستنير لأنه عرف الحقيقة !!! مع أنه لم يعرف الحق كشخص [ قال له يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي ] (يوحنا 14: 6)
فينبغي علينا كمسيحيين حقيقيين نلنا استنارة من الله بالروح، أن نتجنب انفصال مثل هذا، لأن كل لاهوت كنسي حقيقي هو لاهوت سري (مستيكي) يُمارس بالتقوى بإيمان حي عامل بالمحبة، في شركة القديسين في النور مع الآب بابنه يسوع المسيح في الروح القدس، وأي عمل روحي أو منهج ما (مثل الرهبنة أو التكريس أو الزيجة.. الخ) أو تعليم أو فكر يستقل عن اللاهوت، من شأنه أن يُصبح فكراً ذاتياً مُهرطقاً.
وكذلك حينما لا يكون اللاهوت خبرة سرية في حياة شركة مع الله، تُترجم بحياة تقوى نحياها في الإيمان، فإننا حتماً سنسقط بالضرورة في علم الكلام الجاف، التأملي الفكري أو الأكاديمي الدراسي بلا روح …
فاللاهوت، والقداسة، والدراسة الواعية، والعبادة، والفن، والقراءة، والكتابة، والتعليم، والشرح والتفسير، والوعظ، والتأمل… الخ، كل هذه أشياء لا ينبغي فصل بعضها عن بعض على الإطلاق، فالعقيدة يستحيل فهمها فهماً صحيحاً واعياً، إلا من خلال الصلاة، ويقول القديس إيفاغريوس البنطي: [ اللاهوتي إنسان يُحسن الصلاة، ومن يُصلي بالروح والحق هو لاهوتي ].
فالعقيدة التي تُدرك في ضوء الصلاة يجب أن تكون أيضاً مُعاشه: فاللاهوت الذي لا يُترجم عملاً كمنهج للسلوك والحياة، هو كما قال القديس مكسيموس المعترف [ لاهوت شياطين ]، لذلك فأن قانون الإيمان لا يخص من يحفظه عن ظهر قلب وقادر بتسميعه أو يكتب فيه، بل يخص أولئك الذين يعيشونه…
- فالإيمان يا إخوتي، والمحبة، واللاهوت والحياة، أمور لا ينبغي قط أن نفصلها عن بعضها البعض، أو نحفظها ونستذكرها ولا يكون لها فعل في حياتنا الداخلية وتنعكس على حياتنا الخارجية كثمر واضح أمام الجميع لكي يمجدوا أبانا الذي في السماوات…
__________يتبــــــــــــــع__________
في الجزء الثالث سنتكلم عن أولاً: ما هو التقليد