علامات على الطريق – أساليب للعمل بالدفاعيات
علامات على الطريق – أساليب للعمل بالدفاعيات
كتبت الشاعرة الأمريكية “إدنا سينت ڤينسنت ميلاي” Edna St. Vincent Millay (1892-1950) عن “وابل من الحقائق” يتساقط علينا من السماء كما تتساقط النيازك. وهذه الحقائق تشبه الخيوط التي لا بد أن تُنسج معًا لتُكون لوحة، وهي كالدلائل التي لا بد أن تُجمع بعضها مع بعض لتكشف لنا الصورة الكبرى. وكما أشارت “إدنا ميلاي”، إننا نجد أنفسنا مغمورين تحت “وابل من الحقائق”، ولكننا نعجز عن إيجاد معنى له لأننا “لا نجد نولاً لنصنع منه نسيجًا.” أي أننا نحتاج وسيلة تساعدنا على إيجاد معنى لهذا الوابل من المعلومات. والمسيحية تزودنا بوسيلة تضفي حالة من النظام والمعقولية على ملاحظاتنا الكثيرة والمعقدة في العالم الطبيعي، والتاريخ البشري، والخبرة الشخصية. إنها تتيح لنا الفرصة لنضعها معًا في كل متكامل ونراها بوصفها جوانب متشابكة تشكل صورة كلية كبرى.
إننا نتمنى أن نرى الصورة الكبرى التي تخلق معنى لكل ما نراه. بل الأهم من ذلك أننا نريد أن نعرف مكاننا في هذا المخطط الأكبر. ولذلك، تتحدث الفيلسوفة والكاتبة البريطانية “أيريس مرِدوك” Iris Murdoch (1919-1999) عن “ميل الفكر البشري لصنع كليات تكسبه حالة من الارتياح.” وتقصد بذلك قدرة الصورة الكبرى أو “القصة الكبرى” على التأليف بين أجزاء رؤيتنا للواقع في كل متكامل. والإيمان المسيحي يُعنى بإدراك الصورة الكبرى، ويكشف لنا رؤية للواقع أكبر وأسمى من تلك التي يكشفها العقل البشري.
الدلائل والمؤشرات والبراهين:
قلنا في الفصل السابق إن الإيمان المسيحي منطقي في الأساس، إلا أنه لا يمكن إثباته بالمنطق، وهو ما ينطبق على كل الأشياء الجوهرية. ولكن الأجيال السابقة التي استسلمت دون داعٍ لنوع من العقلانية المتطرفة، زعمت أننا لا يجب أن نؤمن إلا بما له برهان مطلق. ولا يتبنى هذه النظرة حاليًا إلا فئة قليلة جدًا. في حين ترى الأغلبية أن هذه العقلانية الشديدة تحصرنا في مساحة ضيقة من المعتقدات قد تكون واضحة منطقيًا ولكنها قاصرة وجوديًا، لأنها تعجز عن تقديم أساس لحياة ذات معنى. فالعقل أجنحته قصيرة كما قال الشاعر الإيطالي العظيم دانتي Dante في القرن الرابع عشر.
إلا أن هذا لا يعني أن المعتقدات التي لا يمكن إثباتها بشكل قاطع غير منطقية. ولكنه يعني أن الأدلة المتاحة قاصرة عن إثبات صحة نظريات الحياة أو “الفلسفات الحياتية” “”worldviews، بما فيها الإلحاد. وفي النهاية يعتبر اختيارنا لإحدى هذه الفلسفات فعلاً إيمانيًا. وعلينا أن ندرك أن كل الفلسفات الحياتية تقع خارج نطاق البرهان المطلق. فنحن نؤمن أن الفلسفة الحياتية التي نتبناها هي الأفضل في خلق معنى للأشياء ولكننا ندرك أن هذه المسألة بوجه عام تستعصي على البرهان القاطع في هذا العالم.
والمسيحي لا بد أن يرى هذا المشهد على خلفية الإيمان بالسماء “لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ.” (2 كو 5: 7). فنحن الآن نجتاز في أرض الظلال، ولكن يومًا ما ستشرق الشمس وسنرى الأشياء كما هي. “فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا. قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ” (رو 13: 11، 12). تمثل هاتان الآيتان دعوة للنظر إلى الحياة المسيحية باعتبارها مسيرة في الظلام. ولكن الفجر أقرب مما كان حين بدأنا المسيرة. وإلى أن يبزغ الفجر علينا أن نعبر أراضي مجهولة واثقين من سلامة الوصول. وبالرغم من أنه لا يمكننا أن نرى الطريق الممتد أمامنا بكل وضوح، فنحن نثق في الرب الذي يقودنا حتى نصل إلى أرض الوطن، كما يقول بولس في هذه الآية الشهيرة: “فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ.” (1 كو 13: 12).
ولكن هذا لا يعني أن نقبل الأشياء بثقة عمياء، فالعالم مرصع بالدلائل المختصة بالطبيعة البشرية وبالهوية الإنسانية. والواقع مزين بعلامات تشير إلى حقيقة الله العظمى. وعلينا أن نصل النقاط ببعضها فنرى الصورة الكاملة. علينا أن ننسج الخيوط معًا ونرى النسق الذي تكشف عنه والمتاح للمدافع ليستخدمه في مساعدة الآخرين ليدركوا قدرة المسيحية على إعطاء معنى لما نفكر فيه ونراه ونختبره، وتشجيعهم على اكتشاف ما للمسيحية من قدرة أعمق على تغيير حياة البشر.
ولكن ليس العالم الخارجي فقط ما يشير إلى الله، بل خبراتنا الداخلية أيضًا تلعب دورًا في ذلك. والدفاعيات المسيحية قادرة على التواصل مع فاعليات الذاتية البشرية الداخلية بقوة ومصداقية، أي أنها قادرة على التواصل مع ما يكمن في أعماق النفس البشرية من مشاعر وعواطف شغلت الشعراء الرومانسيين وغيرهم من الكُتاب أمثال “بليز پاسكال” وكذلك ” سي. إس. لويس.” فماذا يقول الإيمان المسيحي عن هذه الكوامن؟ وكيف نرى خبرتنا الداخلية بعدسته؟ لقد بحث التقليد المسيحي في هذه المسألة من جذورها. فالقديس أغسطينوس في كتاب “الاعترافات” Confessions يروي كيف قادته قراءته للكُتاب “الأفلاطونيين” لاستكشاف أعماقه حيث قابل “نورًا يفوق عقلي ولا يعتريه تغيير.“[1]
وفي هذا الفصل سنتناول بعض هذه المؤشرات أو العلامات ونبحث كيفية استخدامها في الدفاعيات. لقد تحدث “سي. إس. لويس” عن الصواب والخطأ باعتبارهما “مفاتيح لحل لغز معنى الكون.” ومفتاح الحل يوحي بالحل، ولكنه لا يُثبت أي شيء. وتكمن أهمية هذه المفاتيح في تراكميتها التي تشير إلى نسق أعمق للمعنى يعطي كلاً من هذه المفاتيح أو الدلائل معناها الحقيقي. فدليل واحد بمفرده لا يمكنه إلا أن يقدم إيحاء معينًا، فهو ليس سوى ريشة في مهب الريح. إلا أن مجموعة من الدلائل المترابطة يمكنها أن تكشف النسق الشامل. وكل دليل يبني على الدلائل الأخرى ويعطيها قوة جمعية تفوق أهميتها الفردية.
فكيف نصل لأفضل فهم لهذه المفاتيح؟ وما الذي تثبته؟ في المحاكمات الجنائية يُطلَب من هيئة المحلفين أن تختار تفسيرًا للدلائل من شأنه أن يُكسبها أفضل معنى، سواءً أكانت مقدَّمة من النيابة أم من الدفاع. ولكنهم ليسوا مطالبين أن يجزموا بثبوت الاتهام أو البراءة لمجرد أنهم يعتقدون أنهم قادرون على الوصول إلى استنتاج قاطع “لا يرقى إليه أي شك معقول.” والدفاعيات تكاد تسير بالطريقة نفسها. فلا يمكن لأيّ شخص أن يثبت وجود الله كما لو كان يثبت أن “الكل أكبر من الجزء.” ولكن يمكنه أن ينتبه إلى كل الدلائل التي تشير إلى وجود الله وما لها من قوة تراكمية. فقد لا يمكن إثبات وجود الله بالمعنى العقلاني الجامد للكلمة. إلا أنه يمكن أن نجزم بكل صدق أن الإيمان بالله منطقي بشكل يسترعي الانتباه وأنه يعطى لما نراه في العالم وما نميزه في التاريخ وما نختبره في حياتنا معنى أعمق من ذلك الذي تعطيه البدائل الأخرى.
فما نوعية المفاتيح أو الدلائل التي نتحدث عنها؟ وكيف يساعد المدافع الناس على رؤيتها والتفكير في أهميتها وتمييز ما يكمن وراءها من نسق أعمق؟ سنستعرض في هذا الفصل ثمانية مفاتيح تسهم في حل لغز الحياة. وكلٌّ منها يمكن دراسته على حدة ويمكنه أن يشكل أساسًا لمناقشة او حجة دفاعية. وسنبدأ بطرح سؤال من أكثر الأسئلة إثارةً في العلوم الطبيعية: من أين أتى الكون؟
المفتاح الأول: الخلق (نشأة الكون):
يؤكد أحد الموضوعات الجوهرية في الإيمان المسيحي أن الله خلق كل شيء من العدم. وكل شيء مدين بأصله وهويته الجوهرية لفعل الله الخلقي. فالكون ليس موجودًا من الأزل ولكنه ظهر إلى الوجود في لحظة معينة. وقد تنوعت وجهات نظر الكُتاب المسيحيين في فهمهم لهذه العقيدة الأساسية. فالقديس أغسطينوس مثلاً يقول إن الله خلق الكون في لحظة ولكنه أسبغ عليه القدرة على التطور بعد الخلق. ويقول آخرون إن الله خلق العالم بالشكل الذي نراه عليه حاليًا. إلا أن الخيط الذي يجمع كل الكُتاب المسيحيين حول هذا الموضوع أن الله أتى بالكون إلى حيز الوجود.
وإن كان مُرَوِّجو الإلحاد الجديد دائمًا ما يعلنون أن ما شهده العلم من تقدم وتطور في القرن الماضي قضى على كل ما يؤيد الإيمان بالله، إلا أن الحقائق تؤكد غير ذلك. وذلك لأن العلاقة بين العلم والإيمان شهدت تغيرًا جذريًا في أواخر القرن العشرين. ففي العقود الأولى من القرن العشرين ساد الاعتقاد بأزلية الكون، وأصبح يُنظر إلى حديث الدين عن “الخلق” على أنه كلام أسطوري فارغ لا يتوافق مع المعرفة العلمية القاطعة.
وقد لعب هذا الاعتقاد دورًا مهمًا في المناظرة الكبرى التي جرت في لندن سنة 1948 بين اثنين من كبار الفلاسفة، وهما الملحد “برتراند راسل” Bertrand Russell (1872-1970) والمسيحي “فردريك سي. كوپلستون” (Frederick C. Coplestone (1907-1990. آمن “راسل” أن هذا الإجماع العلمي أكثر من كافٍ لينهي قضية الله برمتها للأبد. فالكون موجود وحسب وليس هناك أي سبب وجيه يدعونا للتفكير فيما أتى به للوجود. وقد فاز “راسل” بالمناظرة في هذه النقطة.
إلا أنه منذ سنة 1948 تغير كل شيء. ففي الستينات أصبح واضحًا أن الكون له بداية، وهي ما عُرف باسم الانفجار الكبير. إلا أن هذه الفكرة قوبلت بمقاومة عنيفة من بعض العلماء الملحدين آنذاك مثل “فرِد هوُيل” Fred Hoyle عالم الفيزياء الفلكية العظيم الذي شعر بالقلق وعدم الارتياح إزاء هذه الفكرة التي تبدو دينية. ولكنه لم يكن الوحيد ممن أصابهم هذا الشعور. ففي اجتماع عُقد في لنينجراد في ديسمبر 1948 شدد علماء الفلك السوفيت على ضرورة محاربة النظرية “المثالية التي تمثل رد فعل ضد فلسفاتهم” التي تقول بأن الكون له بداية. وقد زعم السوفيت أن دعم هذه النظرية سيقوي قضية “الإكليروس.“[2]
ومن حسن الحظ أن هذا التحيز ضد فكرة نشأة الكون انهزم بالأدلة المضادة. وقد جاء هذا الفهم الجديد لنشأة الكون في تمام الانسجام مع عقيدة الخَلق في المسيحية لأنه يؤكد أن الكون له بداية.
وإذا تكررت المناظرة بين “راسل” وخصمه ” كوپلستون” اليوم ستختلف نتيجتها تمامًا في هذه النقطة. بل إن هذه المناظرة أعيدت بالفعل سنة 1998 احتفالاً بذكراها الخمسين بين اثنين من أكبر الفلاسفة هما “وليم لين كريج” William Lane Craig ونظيره “أنتوني فلو” Anthony Flew الذي كان ملحدًا آنذاك. “كريج” الذي يعتبره الكثيرون الوريث الشرعي للفيلسوف ” كوپلستون” قدم الحجة التالية التي أشرنا إليها سابقًا (ص 85):
- المقدمة الكبرى: كل ما يظهر إلى الوجود له سبب.
- المقدمة الصغرى: العالم ظهر إلى الوجود.
- النتيجة: إذَن العالم له سبب.
وعلى غير العادة نلاحظ في هذه الحجة أن المقدمة الصغرى تعادل المقدمة الكبرى في أهميتها وقد تَفُوقها. وهذه المقدمة الصغرى التي استخدمها “كريج” المقبولة اليوم من كل العلماء تقريبًا كانت ستُرفَض منهم جميعًا سنة 1948. وقد واجه “فلو” صعوبة ضخمة أمام هذه النقطة ولم يتمكن من استخدام الاستراتيجيات التي استخدمها أسلافه من المدافعين الملحدين استخدامًا مناسبًا. ومنذ هذه المناظرة تخلى “فلو” عن الإلحاد. وبالرغم من أنه لم يعتمد النظرة المسيحية لله بكامل ثرائها، فمن المؤكد أنه قبل وفاته سنة 2010 قبِل وجود خالق يحفظ هذا الكون، وهو الله.
وقد أدى هذا التحول الجذري في إجماع العلماء إلى تغيير النبرة السائدة في المناقشات حول قضية الله. وهو ما يُذكرنا بأن العلم يغير رأيه في الأمور، ولاسيما الأمور الجوهرية. فعلم الكون في مطلع القرن الحادي والعشرين أكثر اتفاقًا مع الإيمان المسيحي من ذلك الذي ساد العالم منذ قرن من الزمان. ولكن الأهم من ذلك هو تزايد الإدراك بأن الكون ظهر إلى الوجود وأنه مضبوط بدقة fine-tuned تسمح بوجود الحياة فيه. فالثوابت الأساسية fundamental constants في الطبيعة لها قِيم يبدو أنه تم انتقاؤها على نحو يسمح بتكون الحياة. فهل هذا مجرد صدفة كونية؟ أم أنه نتيجة لاختيار الله أن يصمم الكون بهذه الطريقة؟
المفتاح الثاني: الضبط الدقيق (كون مصمم للحياة):
في السنوات الأخيرة ازداد الاهتمام بظاهرة “الضبط الدقيق” “fine-tuning” في الطبيعة.[3] وغالبًا ما يُستخدم مصطلح “الضبط الدقيق” للإشارة إلى فكرة علمية تقول بأن قيم بعض الثوابت الكونية الأساسية وسمات بعض الظروف الأولية للكون يبدو أنها لعبت دورًا حاسمًا في ظهور الكون بشكل معين يسمح بتكون حياة عاقلة. وقد أكدت الكثير من الدراسات العلمية الحديثة أهمية بعض الثوابت الكونية الأساسية التي لو حدث أي تغير طفيف في قيمتها لكانت له آثار ضخمة على ظهور الحياة البشرية.[4]
وهكذا يتضح أن الثوابت الأساسية في الطبيعة خضعت لعملية من الضبط الدقيق لتصل إلى قيم تصلح لظهور الحياة. فوجود حياة كربونية الأساس[5] على الأرض يتوقف على توازن دقيق للغاية في القوى الفيزيائية والكونية وعلى قيم ثابتة parameters خاصة. ولو حدث أدنى تغيير في أي من هذه الكميات لاختل التوازن وانتفت إمكانية ظهور الحياة على سطح الأرض. ويقول السير “مارتن ريز” Sir Martin Rees عالم الفلك ورئيس الجمعية الملكية البريطانية إن ظهور الحياة البشرية عقب الانفجار الكبير محكوم بستة أرقام كلٌّ منها محدد بمنتهى الدقة لدرجة أنه لو حدث أدنى تغيير في أي منها لأصبح من المستحيل وجود الكون والحياة البشرية بالشكل الذي نعرفه.[6]
وأود أن أشير هنا إلى ما قاله “روبرت چ. سپيتزر” Robert J. Spitzer مؤخرًا بشأن هذه المسألة. فهو يتخيل كما لو كانت كل القيم الثابتة مثل سرعة الضوء في الفراغ، وثابت الجاذبية gravitational constant، والتوصيل الكهرومغناطيسي، وكتل الجسيمات الأولية ممثَّلة جميعًا على هيئة مفاتيح ضبط على “لوحة تحكم كونية”.[7] وقد أشارت اكتشافات علم الكون الحديث إلى أنه لو تغير وضع هذه المفاتيح ولو قيد شعرة لما كنا موجودين هنا نتحدث عن هذه الأمور. فمثلاً لو تغيرت قدرة الجاذبية أو القوة الضعيفة weak force (اثنتان من قوى الطبيعة الأربع المعروفة) بمقدار جزء من 4010 لأدى تمدد الكون إلى انفجار هائل لا يسمح بوجود المجرات، أو لانهار الكون تمامًا. ولو ان أحد التآلفات بين ثوابت الجاذبية والكهرومغناطيسية ونسبة كتل الإلكترونات إلى البروتونات تَغَيَّر بحوالي جزء من 3910 لاستحال تكوُّن نجوم النسق الأساسي main sequence stars التي منها شمس مجموعتنا الشمسية. ولو لم يوجد رنين نووي nuclear resonance محدد لذرة الكربون على نفس المحور مع رنين البيريليوم ونواة هليوم متصادمة (لكن دون أن يكون على نفس المحور مع رنين مناظر في الأكسجين والهليوم[8]) يستحيل أن يوجد الكربون الذي هو أساس الحياة بشكلها الذي نعرفه. وأكثر ما يلفت الانتباه أن “روچر پنروز” Roger Penrose عالم الرياضيات البارز اكتشف حسابيًا ان إنتروبيا[9] الكون تُبين أنه يوجد في حالة دقيقة تبعث على الذهول إذا ما أخذنا في اعتبارنا الكمية الضخمة من القيم المتاحة والمحتملة. فماذا يحمل هذا الضبط الدقيق العجيب من معانٍ دفاعية؟
تحظى ظاهرة الضبط الدقيق بقبول واسع، حتى إن كل المناظرات تدور حول تفسيرها. وقد كان عالِم الكون الملحد “فرِد هويل” مِن أول الذين أدركوا أهمية هذه الملاحظات وما تتضمنه من إشارات واضحة لوجود الله، حتى إنه كتب يقول إنه يبدو كما لو كان “عقل أعلى قد عبث بالفيزياء، وبالكيمياء، وبالأحياء، و… لا يليق بنا أن نتحدث عن قوى عمياء تدير الطبيعة.“[10] كان “هويل” ملحدًا رافضًا لفكرة خلق الله للكون. إلا أن تعليقه هذا يشير إلى ما أنتجه علم الكون المعاصر من ضيق شديد لدى من يرفضون الإيمان بالله. وكأنه أثار سؤالاً يقول: هل يمكن لفكرة الخلق الإلهي أن تقدم شرحًا أفضل للأدلة مما تقدمه فكرة الصدفة؟ لا شك أن “هويل” لم يتمنَّ أن تكون الإجابة بنعم، ولكن هذا ما اكتشفه.
ولكن من يريدون الهروب من الإشارات الواضحة لوجود الله التي يتضمنها الضبط الدقيق يلجؤون لعدة طرق منها افتراض وجود “أكوان متعددة.” ويزعم هذا الرأي أن الكون الذي نعيش فيه ليس إلا واحدًا ضمن مجموعة كبيرة من الأكوان. وهكذا يجب وضع الكون المنظور في سياقٍ كبير لا نهائي من الأكوان المتعددة الأزلية غير المنظورة. فعالمنا قد يكون خاضعًا للضبط الدقيق ولكن الأكوان الأخرى كلها لا تحتاج لهذه العملية، كل ما في الأمر أننا كنا محظوظين ووُجِدنا في هذا الكون بالصدفة. وهذا ما يبين سبب تفضيل “ريتشارد دوكينز” لهذا التفسير!
إلا أن فرضية الأكوان المتعددة تنطوي على مشكلات واضحة كما يبين “سپيتزر”.[11] أولاَ، الفرق بين الكون universe والأكوان المتعددة multiverse هو إلى حد كبير فرق لغوي يتعلق بدلالة المفردات. لأنه إن كان مصطلح “الكون” يعني المجال الكلي الذي يضم عناصر الواقع المادي المتصلة ببعضها، فهذه الفرضية مازالت تتضمن كونًا واحدًا حقيقيًا. وإن كانت الأكوان المتعددة المفتَرضة لا تتصل نهائيًا بالكون الذي نراه فعليًا، فمن الصعب أن نطبق أي قانون فيزيائي من القوانين الفاعلة في مجالنا المنظور على الأكوان المتعددة ككل. وهو ما يعني أنه لا يمكننا أن نستخدم ما نراه من ملاحظات في عالمنا لكي نصل إلى أي استنتاجات عن الأكوان المتعددة. ولكن إن كانت الأكوان المتعددة متصلة من حيث البنية، فالكثير من المشكلات التي تعالجها نظرية الانفجار الكبير سوف تظهر بدلاً منها مشكلات أخرى، أو تعاود الظهور في أشكال مختلفة، أو ستشكل صعوبة أكبر أمام الملحدين.
فما المعاني الدفاعية التي يتضمنها موضوع الضبط التدقيق؟ أن فكرة الضبط الدقيق المتوافق مع الإيمان المسيحي بالله الخالق. رغم أنها لا تثبت أي شيء، لأن كل هذا قد يكون نتيجة صدفة عجيبة شبه مستحيلة، فهي تتفق بشدة مع النظرة المسيحية ويمكن إدراجها بشكل طبيعي سلس في الخريطة التي يرسمها الإيمان المسيحي للواقع. وإن كانت قدرة المسيحية على احتواء هذه الظواهر لا تُعَد برهانًا نهائيًا على أي شيء، إلا أنها تحمل دلالات قوية، والمسيحية واحدة ضمن الكثير من الدلائل المتراكمة التي تُكون معًا “الصورة الكبرى” الكلية للواقع. وهي خيط ضمن الكثير من الخيوط التي يمكن أن تُنسج معاً فتُكون لوحة ذات نسق خاص. إن الضبط الدقيق أحد المفاتيح أو الدلائل التي تفسر معنى الكون، وهو عديم القيمة بمفرده، ولكن وضعه بجوار دلائل اخرى يثريه ويُحمله بدلالات عميقة.
والمسيحي يرى توافقًا مفاهيميًا عميقًا بين الإطار النظري للمسيحية وما تكشفه العلوم الطبيعية عن العالم. وسوف نتناول ذلك بمزيد من التفاصيل في دراستنا للمفتاح الثالث لمعنى الكون: البنية العميقة للعالم.
المفتاح الثالث: النظام (بنية العالم المادي):
ينعكس ميلنا الفطري لتمييز نوع من النظام في العالم انعكاسًا واضحًا في أسفار الحكمة التي يتضمنها العهد القديم. والعلوم الطبيعية أيضًا تقوم على فكرة انتظام الكون. فلولا وجد نظام في الكون لأصبح العلم مشروعًا مستحيلاً.
باعتبار أني كنتُ عالمًا في فترة من حياتي، فقد حظيت بامتياز البحث في الكون الذي يتميز بشفافية منطقية وجمال منطقي في الوقت نفسه، والذي يمكن التعبير عنه بصيغ رياضية مبتكرة وسلسة. ومن العوامل المشتركة بين العلوم الطبيعية واللاهوت المسيحي هو الاعتقاد الراسخ بأن العالم يتميز بحالة من الانتظام والمعقولية، كما أشار أحد علماء الكون في العصر الحديث قائلاً: “النظام الكوني هو إله الفيزيائيين.”[12] فالعالم وطبيعة العقل البشري يتسمان بصفة خاصة جدًا تتيح وجود أنماط في الطبيعة يمكن تمييزها والتعبير عنها.
ومن أهم القواسم المشتركة بين العلوم الطبيعية واللاهوت المسيحي هو الإيمان الأصيل بأن العالم منظم ومعقول. ويُعد مفهوم النظام والمعقولية على قدر كبير من الأهمية على مستوى كلٍّ من العلم والدين، كما أشار عالم الفيزياء “پول داڤيز” Paul Davis: “أثناء عصر النهضة الأوربي كان المبرر الذي نستند عليه لاستخدام ما نسميه اليوم منهج البحث العلمي scientific approach to inquiry هو إيماننا بإله عاقل يمكن اكتشاف نظامه المخلوق عن طريق دراسة دقيقة للطبيعة.[13]
فقد خلق الله عالمًا منظمًا، يمكن للبشر المخلوقين “على صورة الله ومثاله” تمييز ما به من نظام. ولكن ما الذي يمَكن البشر من تمييز هذا التنظيم؟ ولماذا نقدر أن نعبر عنه بمنتهى الذكاء والسهولة على هيئة معادلات رياضية؟ إن هذه الحقيقة أهم بكثير مما نتخيل، كما أشار عالم الفيزياء النظرية “چون پولكينجهورن”:
إن إمكانية فهمنا للعالم أمر مألوف جداً لنا حتى إننا غالبًا
ما نعتبره شيئًا عاديًا ومن المسَلمات. ولكن الحقيقة أنه
لولا هذه الإمكانية لما وُجد العِلم أصلاَ. والبديل لذلك
أن يكون هذا الكون فوضى[14]chaos عشوائية وليس كونًا
[15]cosmos منظمًا. أو أن يكون محكومًا بمنطق ولكن
لا يمكننا نحن البشر أن ندركه. … ولكن الواقع أن
هناك اتساقًا بين عقولنا والكون، وبين منطقيتنا الداخلية
والمنطقية التي نلاحظها خارجنا.[16]
فما الذي يجعل الكون مفهوماً لنا؟ كيف نفسر وضعه وشفافيته المنطقية؟ ولماذا تزودنا التركيبات الرياضية البحتة المجردة، المفترض أنها إنتاج حر من منتجات العقل البشري، بهذه المفاتيح المهمة التي تساعدنا في فهم العالم؟ وقد طرح “يوچين ويجنر” Eugene Wigner عالم الرياضيات العظيم هذا السؤال الشهير: “ما الذي يمنح الرياضيات هذه الفاعلية غير المعقولة في فهمنا للعالم المادي؟“[17] إنه سؤال يتطلب إجابة. إلا أن العلم لا يمكنه أن يجيب عنه. فالواقع أن العلم يعتمد تحديدًا على ما تتميز به الرياضيات من هذه “الفاعلية غير المعقولة”، ويستخدمها بوصفها أداة، ولكنه لا يقدر أن تقدم تفسيرًا نظريًا يشرح سبب هذه المصداقية الكبيرة التي تتميز بها.
ويقصد “پولكينجورن” أن الإيمان المسيحي يقدم مخططًا للواقع يسمح لنا بإيجاد معنى مقبول منطقيًا لهذه الملاحظات. إن “المنطق الداخلي” وكذلك “المنطق الخارجي” أي منطقية العقلِ البشري والمنطقية المتأصلة في بنية الكون العميقة تنبعان من أصل مشترك في عقلانية أعمق، ألا وهي “عقل الله.” ودائمًا ما تثير العلوم الطبيعية أسئلة مهمة تفوق قدرة الأسلوب العلمي على إجابتها، وهي أسئلة غالبًا ما تكون شديدة الأهمية ولكنها تتجاوز حدود العلم نفسه. فلابد للعلم أن يفترض أن العالم يتميز بالمعقولية لأنها هي ما يعتمد عليه فيما يستخدمه من أساليب. والإيمان المسيحي قادر على تقديم إجابة لهذا السؤال الذي يطرحه العلم عن معقولية العالم، إلا أنه يتجاوز قدرة العلم التي تعجز عن إجابته، ويقدم “خريطة للمعنى” تساعدنا على فهم هذا الإمر فهمًا عميقًا.
وقد انشغل “سي. إس. لويس” أيضًا بسبب التوافق الكبير بين المنطق البشري وبِنية العالم الطبيعي.
أي تفسير للكون لا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا أقر
بأن تفكيرنا يمثل قدرة حقيقية على الفهم، فالنظرية التي
تشرح كل شيء في الكون كله ولكنها تنفي صلاحية
تفكيرنا تفتقد لكل شرعية، لأن هذه النظرية نفسها تم
التوصل إليها عن طريق التفكير، فإن كان التفكير فاقدًا
للصلاحية، فالنظرية نفسها ستنهار.[18]
ومن ثم فإن استخدام الإنسان للعقل لكي يستكشف العالم يعتمد على منطقية العالم. ولذلك، ما يقصده “لويس” أن كلاً من الخليقة بوجه عام والمنطق البشري بوجه خاص يحملان آثارًا أو بصمات من التنظيم الخلاق النابع من الله. فالإله نفسه الذي أتى بالعالم إلى الوجود هو مَن خلق العقل البشري وصنع حالة من التشابه والانسجام بين هذين الخَلقين وطبيعته الإلهية.
ما فائدة هذا الأسلوب في الدفاعيات؟ يجب توضيح عدد من النقاط في هذا الصدد. أولاً، هذا المنهج يؤكد قدرة الإيمان المسيحي على إضفاء معنى على الأشياء بحيث تتوافق مع ما نلاحظه في العالم، أو مع الصورة الأعمق للواقع التي تنشأ من العلوم الطبيعية. ثانيًا، إنه يقدم لنا نقطة التقاء مهمة مع العلوم الطبيعية. فبالرغم من أنه أحيانًا ما يتم تقديم العلم والإيمان باعتبارهما طرفي نزاع، من الأفضل أن ننظر للإيمان على اعتبار أنه يقدم للأسلوب العلمي بعدًا أعمق. أي أنه يقدم تفسيرًا لنجاح العلم في أداء غرضه.
وهذه نقطة مهمة جدًا فيما يتعلق بفكرة “إله الثغرات” التي نجدها أحيانًا في الكتابات القديمة في مجال الدفاعيات. ويحاول هذا المنهج أن يدافع عن وجود الله بالاستناد إلى ما يوجد في التفسير العلمي من ثغرات. لابد أن أسجل عدم إعجابي بهذا المنهج على الإطلاق. وقد كان “تشارلز كولسون” Charles Coulson (1910- 1974) عالم الكيمياء النظرية بجامعة أكسفورد من أشد نقاد هذه الفكرة وكان يقول إنه “إما أن الله موجود في الطبيعة ككل دون ثغرات أو أنه غير موجود على الإطلاق.”[19] فلا يجب على الدفاعيات المسيحية أن تجعل شغلها الشاغل العثور على ثغرات مؤقتة في النظرة العلمية للعالم تشرح بها بعض الأمور. فالله هو من يعطي معنى للكون بأسره، وهو وحده القادر أن يفسر سبب وجود الأشياء ومعناها. والدفاعيات مهمتها أن تبين أن “الصورة الكبرى” التي تُمكننا المسيحية من إدراكها تجعل للعالم معنى.
المفتاح الرابع: الأخلاق (اشتياق للعدالة):
من الموضوعات الجوهرية في الفلسفة الكلاسيكية ما يطلق علية أحيانًا “الثلاثي الأفلاطوني” “Platonic triad”: الحق، والخير، والجمال. وهي مُثُل يعتبرها الأغلبية جوهرية ومهمة. ويمكن للمدافع أن يستخدم كلاً منها بوصفه مدخلاً للإيمان، وإذا استُخدم بدقة وعلى النحو الصحيح، يمكن أن يمثل نافذة يطل منها المستمع على الصفات الإلهية من حق وخير وجمال.
والدفاعيات الكلاسيكية تميل للتركيز على قضايا الحق، وهو مسلك حكيم جدًا. إذ يبدو أن الله حبا العقل البشري قدرة على إضفاء معنى على الأمور وإدراك أن البشرية جزء من شيء أكبر بكثير. فنحن ندرك أن العمليات المنطقية التي تتم في عقولنا البشرية تُعَد مشاركة في نظام عقلاني موضوعي وانعكاسًا له، وهذا النظام العقلاني أسسه الله وهو يعكس طبيعته وصفاته والأدبية. والبشر مخلوقون على صورة الله. ومن ثم، فهم يعكسون عقلانية الله ولو على نحو باهت. فنحن قادرون على إدراك البنية الأعمق للكون بما فيها وجود الله لأن هذا هو تحديدًا ما خُلقنا له. والقديس أغسطينوس من الكُتاب المسيحيين الأوائل الذين وضعوا هذا المنهج الذي يقوم على تلك الفكرة القائلة بأننا نحمل صورة الله، وهي إحدى الأفكار الجوهرية في الكتاب المقدس (تك 27:1).
إن صورة الخالق ماثلة في النفس البشرية العاقلة أو
المفكرة. … وقد خُلِقَت النفس البشرية على
صورة الله لكي تستخدم المنطق والفكر لتفهم الله وتعاينه.[20]
وكما أدرك أغسطينوس، وكذلك “پاسكال”، وأيضًا “لويس”، إن خلق الإنسان على صورة الله يوفر للدفاعيات المسيحية أساسًا لاهوتيًا قويًا، لأنه يعني أننا قادرون عل استخدام شوق البشرية العميق للحق والخير والجمال في مساعدة الناس على الاتجاه نحو مصدرهم الأعلى وهدفهم الأسمى، أي الله الحي المحب.
وما يعنينا في هذا الجزء هو موضوع “الخير”، أي أساسيات لرؤية ثابتة لما هو خيِّر وكيفية العيش وفقًا له. في لقاء إذاعي حديث تناول أحد الصحفيين البريطانيين طبيعة الأخلاق مع “ريتشارد دوكينز”، الملحد العنيف المشهور. وقد سأله الصحفي “چَستين برايرلي” Justin Brierley عما إذا كانت نظرته الداروينية للأمور قد قدمت له أساسًا للقيم الأخلاقية يمكنه الاعتماد عليه. وفيما يلي جزء من الحوار له أهمية خاصة من وجهة نظر الدفاعيات المسيحية:
برايرلي: ولكنك عندما تٌصدر حكمًا قيميًا، ألا يعني ذلك أنك تقفز خارج هذه العملية النشؤوية الارتقائية وتقول إن هذا الشيء جيد لأنه جيد، دون أن يكون عندك أي مبرر يجعلك تتخذ من هذه العبارة أساسًا للحكم؟
دوكينز: ولكن محتمل أن هذا الحكم القيمي نفسه نتج عن ماضيَّ النشؤوي الارتقائي.
برايرلي: إذَن فهو عشوائي مثل كل نواتج النشوء والارتقاء.
دوكينز: نعم، ولكن هذا لا يعني وجود أي شيء خارق للطبيعة.
برايرلي: ولكن في النهاية يصبح اعتقادك بأن الاغتصاب فعل خاطئ هو اعتقاد اعتباطي وليس له أي سبب، مثله في ذلك مثل حقيقةِ أننا نشأنا وتطورنا بخمسة أصابع وليس بستة.
دوكينز: نعم، صحيح.[21]
لقد اخترق الحوار واحدًا من أهم الأسئلة التي دائمًا ما تُطرح في المناظرات: هل الأخلاق تقوم على معيار أو أساس أعلى يتجاوز الكون المادي transcendent، مثل الله؟ والكثير من الملحدين يرفضون مناقشة هذا السؤال في المناظرات بحجة أنه سؤال سخيف، فكيف يجرؤ أحد أن يقول إن الملحدين عديمو الخلق لأنهم لا يؤمنون بالله؟ ولكن ليست هذه القضية الحقيقية، لأن السؤال المهم هو ما إذا كان يمكن للأخلاق الموضوعية[22] أن تظل باقية دون الإيمان بالله. إن المسيحي يؤمن أن الله وحده هو من يقدم أساسًا موضوعيًا للقيم الأخلاقية التي لا تخضع لنزوات أصحاب السلطة ولا لتغير أمزجة الرأي العام. ويُعبر الفيلسوف الملحد البارز “پول كرتز” Paul Kurtz عن هذه النقطة تعبيرًا جيدًا:
المسألة الجوهرية في المبادئ الأخلاقية والقيمية تتعلق بهذا الأساس الأنطولوجي [المتعلق بالوجود العقلي] ontological. أي أنها إن لم تكن مكتسبة من الله، وإن لم تكن جذورها مغروسة في أرض تتجاوز هذا الكون المادي، فهل هي مجرد شيء عابر قصير الأجل؟[23]
وسوف أسرد مثالاً من التاريخ لتوضيح هذه النقطة. سنة 1933 وصل النازيون إلى السلطة في ألمانيا وسرعان ما طوعوا القانون لفرض حكمهم الشمولي. فسنوا قوانين جديدة فرضت الأيديولوجية النازية. وبذلك تمكن النازيون من أن يدَّعوا أنهم فرضوا أفكارهم بالقانون. والوسيلة الوحيدة للتصدي للمنهج النازي هي بتقديم حجة تؤكد وجود سلطة أخلاقية أعلى من الدولة الألمانية. والأوضاع في ألمانيا آنذاك يطرح سؤالاً لا يمكن تجاهلها، ألا وهو: هل مفاهيم الأخلاقيات والعدالة التي لم تنتجها قناعات بشرية تقوم على أسس تتجاوز الكون المادي؟
أن الأسئلة المزعجة التي أثارها قيام الرايخ الثالث وما أعقبه من كوارث مازالت قائمة حتى الآن. فقد عادت للظهور بسبب المنحى “النفعي” “pragmatic” في الأخلاق الذي ارتبط ببعض الفلاسفة المؤثرين مثل الفيلسوف “ريتشارد رورتي” (1931-2007). والإنسانية وفقًا للقراءة النفعية أو البراجماتية تخلق قيمها وأفكارها الخاصة، وهي لا تحاسَب أمام أي موضوعية خارجية (القانون الطبيعي) أو ذاتية[24] داخلية (الضمير) عن نواتج هذه العملية الخلاقة. “إننا نحاول أولاً أن نكتشف الممارسات التي يجب أن نتبعها، ثم نتوقع من فلاسفتنا أن يُكيفوا تعريف مصطلح “الإنسان” أو “العقلاني” بحيث يلائم هذه الممارسات.”[25] ويقول “رورتي” إن هذا النهج المجتمعي communitarian أو النفعي في موضوع الحق يؤدي للاعتراف بأنه ليس في أعماقنا أي شيء إلا ما وضعناه بأنفسنا، فكل المعايير نحن الذين خلقناها أثناء خلقنا للممارسات، وليس هناك أي مقياس عقلاني لا يستند إلى هذه المعايير، وكل الحجج القوية ليست إلا انصياعًا للأعراف المتبعة.[26]
ووفقًا لهذه النظرة، لابد أن نعتبر الحق والأخلاق انعكاسات للأعراف الاجتماعية التي وضعتها المجتمعات البشرية. ولكن إن كان “رورتي” محقًا في هذه النظرة، فما مبررنا لمعارضة النازية؟ لقد وجد “رورتي” نفسه عاجزًا عن تقديم مبرر مقنع لرفض فلسفة الحكم الشمولي سواءً على المستوى الأخلاقي أو السياسي. ومن ثم، اعترف “رورتي” بأنه:
عندما يأتي البوليس السري، وعندما تُنتهك إنسانية الأبرياء بمختلف أشكال التعذيب، لن يمكننا ردعهم بأن نقول لهم: “حتى وإن كنتم تجسدون ممارسات مجتمع شمولي سيظل قائمًا إلى الأبد، إلا أن هناك صوتًا أعمق في داخلكم يدينكم ويدين هذه الممارسات.”[27]
تتوقف صحة القيم الأخلاقية عند “رورتي” على وجودها في مجتمع معين وقبول هذا المجتمع لها. وقد تعرضت هذه النظرة لنقد لاذع بسبب تبنيها لمنهج يميل لعدم انتقاد الأعراف الاجتماعية السائدة. وكما يشير “ريتشارد بِرنستين” Richard Bernstein يبدو أن “رورتي” تجاوز الحد في تعامله مع الممارسات الاجتماعية باعتبارها مفاهيم صحيحة ومطلقة، فاعتبرها مرادفات للحق والخير والعدالة.
كل هذه القضايا تدلل على الحاجة لأساس أخلاقي يتجاوز هذا الكون المادي، وإلا وجدنا أنفسنا سجناء لتقلبات أصحاب السلطة الذين يعيدون تعريف الأخلاق لتلائم احتياجات أصحاب النفوذ. والحجج الدفاعية التي تستند إلى الأخلاق تنقسم إلى فئتين بينهما اختلاف طفيف: حجج تستند إلى ما يتمتع به الإيمان بالله من ميزة فكرية باعتباره أساسًا للقيم الأخلاقية، حجج تستند إلى ما يتمتع به الإيمان بالله من قيمة عملية، ألا وهي أنه يضمن ثبات القيم الأخلاقية. والاثنتان تقولان بأن الإيمان بوجود الله شيء منطقي لأن هذا الإيمان يقدم أفضل تفسير للوجود، وللطبيعة، ولمعرفتنا بالحق الأخلاقي الموضوعي.
ففي كتاب “المسيحية المجردة” مثلاً يبين “سي. إس. لويس” أن فكرتنا عن الصواب والخطأ تمثل “مفاتيح لفهم معنى الكون.” ويمكن تلخيص حجته الأخلاقية التي تثبت وجود الله كما يلي:
مقدمة 1: يؤمن الجميع بوجود حق أخلاقي موضوعي. ولا يمكننا إجراء مناظرات أخلاقية في غياب هذا الحق.
مقدمة 2: يختلف الحق الأخلاقي الموضوعي عن “قوانين الطبيعية” أو الحقائق “الطبيعية.” فالأول يختص بما “يجب” أن نفعل. بينما تختص الأخيرة بما نلاحظه في العالم من حولنا.
النتيجة: أفضل تفسير لما يمكن داخلنا من حدس[28] عميق بوجد حق أخلاقي موضوعي هو أن هناك عقلاً وراء الطبيعة أو يتجاوزها يغرس فينا معرفة الصواب والخطأ ويمثل أساسًا لما نصدره من أحكام أخلاقية موضوعية.[29]
إن منهج “لويس”، مثل معظم جمل هذه الحجة ليست له القوة المنطقية التي تميز البرهان الاستنباطي. ولكن من الأفضل كثيرًا أن نفهمه باعتباره إيضاحًا إضافيًا يؤكد ما يتميز به الإيمان المسيحي من منطقية أصيلة فيه. أي أن وجود إله يقدم أساسًا أثبت يقوم عليه ما يكمن في البشر من إدراك فطري وحدس عميق لوجود قيم أخلاقية موضوعية، ويقدم دفاعًا عن الأخلاق ضد الحجج غير المسئولة التي تؤيد نسبية الأخلاق. فالله من وجهة نظر “لويس” يُعرف بواسطة ما يكمن فينا من حدس خلقي عميق:
إن كان خارج الكون قوة ضابطة، فلا يمكن أن تُظهر لنا ذاتها باعتبارها واحدة من الحقائق الواقعة داخل الكون، تمامًا كما لا يقدر مهندس قام بتصميم أحد المنازل أن يكون جدارًا دَرجًا أو مدفأة في ذلك المنزل. فالطريقة الوحيدة التي يمكننا بها أن نتوقع من تلك القوة إظهار ذاتها ستكون داخل أنفسنا في صورةِ سلطة مؤثرة أو وصية تحاول أن تحملنا على التصرف بطريقة معينة. وذلك هو عين ما نجده داخل أنفسنا.[30]
وبالتالي، فالإيمان بالله مقنع ومقبول من ناحية، ومفيد من ناحية أخرى. فهو لا يجعلنا صالحين، ولكنه يتيح لنا الإمكانية أن نكون صالحين. وكما يشير “لويس”: “وجود مبرر منطقي للفضيلة لا يجعل الإنسان فاضلاً.”[31] ولكن إن أردنا أن نصبح صالحين، علينا أولاً أن نعرف ماهية “الصلاح” ثم نكتسب القدرة على تحقيقه. وهذا يعتمد على إدراكنا لوضعنا الحقيقي ومحدوديته، كما أشار “لويس”. فنحن نحتاج للشفاء وللمعونة حتى نصبح صالحين. إلا أن اكتشاف نعمة الله واختبارها خطوة مهمة في الطريق إلى الخُلق الصحيح.
فكيف نستخدم هذه المنهجيات في الدفاعيات؟ لابد أن نلاحظ أن الدفاعيات يمكن أن تسير في أحد اتجاهين، أولهما إنشاء حجج تؤيد الإيمان المسيحي، وثانيهما إنشاء تحليلات وتقييمات تنقد المنهجيات غير المسيحية. وقد أعلن “فرانسيس شِفَر” Francis Schaeffer إعلانًا شهيرًا بأن أي منظور غير مسيحي يتضح في النهاية أنه غير متسق ومتناقض. وإن كان هذا الزعم ينطوي على قليل من المبالغة، فهو لا يخلو من الصواب. وتعتبر “الحجة المبنية على الأخلاق” “argument from morality” مثالاً ممتازًا على ذلك، فهل يمكن الإبقاء على فكرة القيم الأخلاقية الثابتة والموضوعية دون الإيمان بواقع يتجاوز العالم المادي، كإله المسيحية؟
وللتوضيح أقول إنه يمكن استخدام الحجة المبنية على الأخلاق على نحو فعال لتأكيد قدرة الإيمان المسيحي على خلق معنى للأشياء بتطبيق المنهجيات الموضحة سابقًا، وهذا هو الاتجاه الأول للدفاعيات. ولكن ربما يكون من الأفضل استخدام هذا المنهج نفسه في نقد الأفكار الإلحادية، كأن نطرح سؤالاً مثل: هل يمكن للإلحاد أن يدافع عن فكرة الحق الأخلاقي؟ وهذا هو الاتجاه الثاني للدفاعيات.
وفي المناظرات العامة، يغضب الملحدين من تحليل أفكارهم بهذا الشكل لأنهم يرون أن هذا يعني ضمنيًا القول بأنهم عديمو الخُلق. ولكن هذا ليس صحيحًا لأن هذا النقد لا ينكر القيم الأخلاقية عند الملحدين. ولكنه يطالبهم بتقديم مبرر منطقي لهذه القيم. خذ مثلاً نقدًا لتناول “رورتي” للأخلاق، نرى فيه “رورتي” عاجزًا عن تقديم معيار يعلو فوق الممارسة البشرية للرجوع إليه في الحكم على هذه الممارسة.[32] وقد قالت الفيلسوفة الملحدة “أيريس مِردوك” إن وجود فكرة للصلاح تتجاوز الكون المادي هي عنصر لا غنى عنه يضمن بقاء الأفكار البشرية الخاصة بما هو “صواب” وما هو “عدل”. وإن كانت على حق، فشوقنا للعدالة يمثل في حد ذاته مفتاحًا قويًا لفهم معنى الأشياء.
المفتاح الخامس: الرغبة (فطرة داخلية تسعى إلى الله):
تلجأ الكثير من الحجج التي تثبت وجود الله إلى المنطق في المقام الأول. في حين تستند حجج أخرى على الخبرة معتمدةً على قبول القلب البشري لها بقدر قبول العقل. وقد قال “باسكال” في تعليق شهير له: “للقلب منطقه وأسبابه التي لا يستطيع العقل أن يفهمها.” وأشهر الحجج في هذا المجال هي “الحجة المبنية على الرغبة” argument from desire””. ورغم تنوع أشكالها، فهي في معظم الأحيان تنعكس في وعي الإنسان العميق بأنه يتوق إلى شيء لا يمتلكه ولكنه يشعر بانجذاب نحوه. ويقول المدافعون المسيحيون إن هذا الشوق العميق لشيء يتجاوز حدود الكون المادي يرجع أصلاً إلى أننا مخلوقون لنحيا في شركة مع الله، ولن نرتوي إلا بالوصول إلى هذه الشركة.
وتُعتبر كتابات القديس أغسطينوس من أهم المعالجات اللاهوتية لهذا الموضوع. فالله، عند أغسطينوس، خلق البشر ووضعهم على قمة النظام المخلوق حتى يحققوا أغراضهم بالاتصال معه باعتباره خالقهم ومخلصهم. وبعيدًا عن هذه العلاقة لا يمكن للبشرية أن تكون ما يجب أن تكونه. وقد عبَّر أغسطينوس عن ذلك في صلاة مشهورة قائلاً: “لقد صنعتنا لذاتك، وستظل قلوبنا قلقة حتى تجد راحتها فيك.[33]
ويرجع الفضل للفيلسوف “بليز پاسكال” (1623-1662) وكذلك “سي. إس. لويس” (1898-1963) في وضع أهم تطبيقين دفاعيين لهذا المنهج. يقول “پاسكال” إن ما يختبره البشر من خواء وشوق إنما هو مؤشر على مصير الإنسانية الحقيقي، إنه ينير الطبيعة الإنسانية ويكشف عن هدفنا النهائي، ألا وهو الله من وجهة نظر “پاسكال”.
علامَ يدلل هذا التحرق والعجز، سوى على أنه كان بداخل كلٍّ منا سعادة حقيقية لم يبقَ منها الآن إلا مسحة وآثار فارغة؟[34]
الله وحده هو من يقدر أن يملأ هذا “الهوة”؛ هذه الفجوة العميقة المشكَّلة على صورة الله التي غرسها الله في الطبيعة البشرية ليجذب بها الناس إليه ثانيةً.
أن هذه الهوة غير المحدودة لا يمكن أن تُملأ إلا بشيء غير محدود غير متغير، أي الله نفسه. الله فقط هو خيرنا الحقيقي.[35]
وغالبًا ما يُعبَّر عن فكرة “پاسكال” بعبارة “فجوة على شكل الله” أو “فراغ على شكل الله” داخل الطبيعة البشرية. وبالرغم من أن “پاسكال” نفسه لم يستخدم هذه التعبيرات فعليًا، فهي تلخص منهجه ببراعة. وهو يقول إن الإيمان المسيحي يقدم إطارًا يفسر ما يختبره البشر عمومًا من المشاعر “التوق والعجز.” ويتكون هذا التفسير من عنصرين: أولهما، أنه يعطي معنى للخبرة. وثانيهما، أنه يُحدث تغييرًا في هذه الخبرة البشرية نتيجةً لتحديد معناها.
وقد وضع “سي. إس. لويس” منهجًا مشابهًا له أهمية خاصة للدفاعيات المسيحية.[36] فهو يقر بأهمية ما يختبره الكثيرون من إحباط تطلعاتهم: “نحاول، في أولى لحظات الشعور بهذا التوق، أن نمسك بشيء معين ولكنه سرعان ما يتلاشى على أرض الواقع.” فما تفسير ذلك؟ يشير “لويس” إلى طريقتين في التفسير يعتبرهما معيبتين: الأولى، أن نفترض أن هذا الإحباط ينتج عن البحث في أماكن خاطئة. والثانية، أن ننتهي إلى أن المزيد من البحث لن يؤدي إلا إلى المزيد من الإحباط. ومن ثم، فأي محاولة للعثور على شيء أفضل مما يقدمه العالم هي محاولة خاطئة. ويقول “لويس” بوجود حل ثالث، ألا وهو الاعتراف بأن هذه الأشواق الأرضية ليست “سوى نسخة، أو صدى، أو سراب” لوطننا الحقيقي.
ثم يبني “لويس” بعدئذٍ ما قد يطلق عليه البعض “الحجة المبنية على الرغبة”، ويمكن صياغتها كما يلي:
- كل رغبة طبيعية يقابلها موضوع تتجه نحوه، ولا تشبَع إلا عندما تصل إليه أو تختبره.
- هناك رغبة طبيعية نحو إشباع يتجاوز حدود العالم المادي لا يمكن الوصول إليه ولا اختباره بأي شيء أو عن طريق أي شيء في العالم الحاضر.
- وبالتالي هذه الرغبة الطبيعية في إشباع يتجاوز حدود العالم المادي لا يمكن تحقيقها إلا فيما وراء العالم الحاضر، في عالم يشير إليه النظام الحاضر.[37]
هذه الحجة لا تثبت فعليًّا وجود الله بالمعنى الضيق لهذا المصطلح. فيجب علينا في البداية أن نوسع نقطة “لويس” لتشمل إعلان المسيحية عن أن الله إما هو تحقيق الرغبة البشرية الطبيعية في إشباع يتجاوز العالم المادي أو أنه شرط أساسي له. ومع ذلك، لا يجب فهم هذه الحجة باعتبارها استنباطًا لوجود الله.
إلا أن “لويس” رأى أن هذا الخط الفكري يبين الارتباط بين الإيمان والخبرة لأنه يكشف بالتجربة العملية أن النظرة المسيحية للواقع تتوافق مع ما نختبره في نفوسنا. والحجة ليست استنباطية، ولكنها تستخدم الاستدلال بالاستبعاد، على حد تعبير “پيرس”. فمن الواضح أن “لويس” يرى أن الإيمان المسيحي يلقي الضوء على واقع خبراتنا الذاتية. وقد نسج القديس أغسطينوس الموضوعات المحورية في التعاليم المسيحية عن الخليقة والفداء في الصلاة له: “لقد صنعتنا لذاتك، وستظل قلوبنا قلقة حتى تجد راحتها فيك.“[38] ويؤكد “لويس” هذه الفكرة، ويغرس جذورها في عالم الخبرة البشرية التي يرى أنها تستنير بهذه الفكرة.
وهكذا يرى “لويس” أن الدفاعيات المسيحية لابد أن تتفاعل مع هذه الخبرة الإنسانية الأساسية من “التوق” إلى شيء له أهمية قصوى. والإيمان المسيحي يفسر هذه الحالة باعتبارها مفتاحًا يسهم في حل لغز السعي نحو تحقيق الهدف الحقيقي للطبيعة البشرية. وكما يشير الجوع الجسدي إلى احتياج بشري حقيقي يتم إشباعه بالطعام، هكذا يتقابل هذا الجوع الروحي مع احتياج حقيقي يتم إشباعه بالله نفسه. ويقول “لويس” إن معظم الناس يدركون بداخلهم شعورًا عميقًا بالتوق لا يمكن إشباعه بأي شيء مؤقت أو مخلوق: “إن وَجَدتُ في نفسي رغبة لا تشبعها أي خبرة في العالم، فالتفسير الأرجح لهذه الحالة أنني خُلقتُ لعالم آخر.”[39]
إلا أن هذا لا يثبت أي شيء. فقد أشعر برغبة عميقة في أن ألتقي بحصان وحيد القرن ذهبي اللون، إلا أن هذه الرغبة لا تعني أن الخيول وحيدة القرن موجودة فعليًا، سواء أكانت ذهبية أو غير ذهبية. ولكن ليس هذا ما يقصده “لويس”، بل يقصد أن المسيحية تخبرنا أن هذا الشعور بالشوق لله هو شيء متوقع جدًا لأننا مخلوقون لنتواصل مع الله. فهو يتوافق مع أسلوب التفكير المسيحي، وبذلك يؤكد مصداقيته بشكل غير مباشر، مما يخلق اتساقًا قويًا بين النظرية والملاحظة، أي بين الإطار اللاهوتي وواقع خبرتنا الشخصية.
فكيف يمكن تطوير هذا الأسلوب وتطبيقه في الدفاعيات؟ إن العنصر الأساسي في هذا النهج هو استناده إلى الخبرة الإنسانية، أي إلى عالم المشاعر الذاتي، لا إلى التحليل الموضوعي للعالم الطبيعي. إلا أن هذه الخبرات الذاتية مهمة عند أصحابها، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها شعور الناس بمدى أهميتها. وحتى إن لم يكن الجميع قادرين أن يتعرفوا على هذه الخبرة عندما توصف لهم، إلا أن انتشارها يكفي أن يجعلها أساسًا لاستراتيجية مهمة في الدفاعيات. ويجب التنويه إلى ثلاث نقاط في هذا النهج.
- يتصل هذا المنهج بخبرة إنسانية يشترك فيها الكثير من البشر. وهو يتفاعل مع شيء له أصداء عند الكثيرين، ويقدم تفسيرًا لشعور يختلج في صدور الكثيرين ولكنهم يتساءلون عن معناه.
- الخبرة لها تفسير. فهي ليست خبرة عشوائية أو بلا معنى، ولكنها مؤشر ينبه إلى شيء أبعد منه. فما يراه البعض ظاهرة بلا معنى يصبح علامة على الطريق لها دلالتها.
- تُعتبر هذه الخبرة بوابة مؤدية لله. فالله وحده هو مَن يستطيع أن يُحدث تحولاً في الخبرة الإنسانية. الله فقط هو من يقدر أن يملأ ما أطلق عليه “پاسكال” “الهوة” الكامنة في الطبيعة البشرية. وتفسير الخبرة الإنسانية على هذا النحو ليس انتهازيًا ولا اعتباطيًا، ولكنه يضرب بجذوره في فهم الطبيعة البشرية والمصير البشري من الوجهة اللاهوتية.
ولا تُعَد هذه ” الحجة المبنية على الرغبة” “برهانًا” منطقيًا قويًا يثبت وجود الله، ولكنها تصل إلى مستوى أعمق بكثير. فقد تنقصها القوة المنطقية، ولكنها تتميز بعمق وجودي. فهي تتعلق بقدرة الإيمان المسيحي على مخاطبة أعماق الخبرة الإنسانية، أي الأمور التي تمثل أهمية حقيقية لنا. وهي تعتمد على الشعور بالقلق وعدم الرضا الذي يعتمل في الطبيعة البشرية وتُبين أن هذه الحالة تمثل مفتاحًا يساعد في فهم طبيعتنا الحقيقة ومصيرنا. وكما قال “لويس”، إن لم يكن في هذا العالم ما يُشبع هذه الأشواق والتطلعات العميقة، فقد يعني ذلك أننا لابد أن نُسَلِّم بأن بيتنا الحقيقي في عالم آخر. وكما قال “فرانسيس كوارلز” Francis Quarles (1592-1644) أحد شعراء عصر النهضة، إن نفوسنا كالإبرة المعدنية التي تنجذب نحو مغناطيس الله. فكما يستحيل محو ما نشعر به من توق للعدالة أو رغبة عميقة في تحسين هذا العالم، يستحيل كذلك أن نمحو الله من الحياة الإنسانية تمامًا. إن ما بداخلنا من ميل فطري نحو الذهاب إلى البيت يرجع تحديدًا إلى وجود بيت لنا نعود إليه، ويُعَد هذا الموضوع من أهم موضوعات العهد الجديد.
وتمثل هذه الرغبة نقطة مهمة عندما نفكر في طبيعة المجتمع الغربي. فقد أجرى الفيلسوف السياسي “تشارلز تيلور” Charles Taylor مؤخرًا تحليلاً تفصيليًا لظهور “عصر علماني” وختمه بخلاصة مفادها أن الدين لن يختفي بسبب ما يميز الطبيعة البشرية من سمات خاصة، على رأسها ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي “شانتال ميلون دلسول” Chantal Milon-Delsol “رغبة في الأبدية.”[40] إن الطبيعة البشرية تتميز بشيء يجعلنا نريد أن نصل إلى ما وراء الحدود العقلانية والتجريبية سعيًا نحو المعنى والقيمة.
ويجب التنويه إلى نقطة أخرى في هذا الصدد: إن الفكر المسيحي الذي يؤمن بأن البشرية تحمل صورة الله ينطوي على معانٍ مهمة تتصل بدور الخيال. ويؤكد كلٌّ من “لويس” وكذلك “تولكين” أن تخيلاتنا تفتح عوالم تصدر إشارات تبين هويتنا الحقيقية مصيرنا الحقيقي. فنحن غالبًا ما نحلم بعوالم جميلة، لا لأننا نريد الهروب من هذا العالم، ولكن لأن في أعماقنا شيئًا يجعلنا نتوق لواقع جميل. وسنرى فيما بعد أن هذه الفكرة أيضًا تتماشى مع الدفاعيات.
المفتاح السادس: الجمال (بهاء العالم الطبيعي):
يتأثر الكثيرون تأثرًا عميقًا برؤية جمال الطبيعة، مثل سلاسل الجبال الضخمة، أو منظر الغروب الرائع، أو الوديان الزاخرة بالأشجار. فكيف نساعد الشخص على الانتقال من محبة مخلوقات الله لمحبة الله الخالق؟ قد تكون أول وأوضح نقطة أن نساعد الناس على رؤية العالم بنظرة مختلفة، أي باعتباره علامة على الطريق، ليس محطة وصول. فجمال العالم يشير إلى جمال الله الأعظم الذي يعكسه العالم كما يعكس القمر نور الشمس الأعظم، أو كما تتلألأ ماسة جميلة عندما تلتقط أشعة الشمس.
ويُعتبر هذا الموضوع من الموضوعات الرئيسية التي يتناولها اللاهوتي الأمريكي العظيم “چوناثان إدواردز” الذي يضع أساسًا لاهوتيًا صلبًا لمنهج دفاعي يقوم على فكرة جمال الطبيعة. ويرى “إدواردز” أن الله يرغب في أن تَعرف مخلوقاته جماله وتستمتع به. ولذلك، فهو يختار أن يوصل هذا الجمال عن طريق النظام المخلوق حتى يراه الجميع ويقرون به ويتجاوبون معه.[41] إن الطبيعة مصممة لتكشف جمال الله، وهي مثل مَدرسة للرغبة تتعلم فيها البشرية كيف تدرك مجد الله وتتجاوب معه بإيمان ومهابة.
ولكننا لابد أن نمعن التفكير في قضية الجمال. فإن أردت أن أدرك حجة منطقية، لابد أن أفكر فيها مليًا لأنها لا تُفهم فجأة. إلا أن الجمال يختلف لأنه شيء ندركه في التو واللحظة. فعندما نرى منظرًا أو شخصًا أو عملاً فنيًا جميلاً، نفهم على الفور أنه متميز. ولا نحتاج لمن يقنعنا بأن هذا الشيء أو هذا الشخص جميل، ولكننا نجد شيئًا عميقًا في داخلنا يخبرنا بذلك. وهكذا، فالدفاعيات التي تقوم على الجمال لا تستند على الحجة بل على التذوق. ولكن الحجة تبدأ عندما نسأل عما يشير إليه جمال الطبيعة.
فقد لا يعني إدراكنا لجمال الطبيعة أي شيء على الإطلاق. وقد يكون كله صدفة، مجرد شيء اعتباطي وبلا معنى. إذن، فهو أيضًا ما يطلق عليه “سي. إس. لويس” مصطلح “مفتاح لفهم معنى الكون.”[42] وفي أحد أشكال الحجة المبينة على الرغبة، يقول “لويس” إن توقنا للجمال يصاب بإحباط تام إن ظننا أننا سنجد الجمال الحقيقي في أي شيء مخلوق أو محدود، لأننا بذلك نبحث عن شيء لا وجود له. وهكذا، يرى “لويس” أن ما نراه في هذا العالم هو علامات تشير إلى الموضع الذي نجد فيه ما تدلل عليه، إلا أنها هي نفسها لا تقدم جمالاً حقيقيًا. وإن كنا نعتقد أن فيها جمالاً حقيقيًا، سنسقط في حالة من البؤس والتشوش.
ويرى “لويس” أن السعي البشري نحو الجمال الحقيقي هو نقطة تلاقي مهمة مع الإنجيل. وهو يمثل أحد الموضوعات المحورية في عظة “ثقل المجد” “The Weight of Glory” [43] التي ألقاها سنة 1941 وهي تُعتبر أهم أعماله القصيرة. ويعتقد “لويس” أن بداخلنا ميلاً فطريًا نحو ما يتجاوز حدود العالم المادي، يثيره فينا الجمال، ويعبر عن “رغبة في وطننا البعيد نكتشفها في أنفسنا الآن.”[44] والجمال، عند “لويس”، يستنفر قيمة أكثر واقعية من كل ما نلتقي به في هذا العالم الوقتي. وهو يثير شعورًا بالتوق إلى عالم تَعلَق بذاكرتنا صورة باهتة له ولكننا منفيون منه حاليًا، كما أشرنا في الجزء السابق من هذا الفصل. إنها رغبة “في شيء لم يظهر مطلقًا في نطاق خبرتنا” ولكن خبرتنا دائمًا ما تلوح به وتحببه إلينا.[45]
ولذلك، فالسعي البشري نحو الجمال يمثل في الواقع سعيًا نحو مصدر ذلك الجمال الذي ينتقل إلينا عبر الأشياء التي نراها في هذا العالم، ولكنها لا تحتويه. وتلك الأشياء “التي كنا نظن أن الجمال يكمن فيها سَوف تخوننا إن وثقنا فيها: فالجمال لم يكن فيها، ولكنه أتى من خلالها فحسب، وما أتى من خلالها كان الشعور بالتوق.”[46] وهذا هو ما يفسر انتهاء ذلك السعي بالإحباط أو اليأس. “لقد ابتسم الجمال، لكن لا ليرحب بنا.”[47] إننا نلتقط لمحة من ذلك الشيء الذي يفوق الوصف الذي يُعتبر الجمال رسولاً له، فنخطئ الفهم ونظن أنه الرسالة نفسها.
ولذلك، يؤكد “لويس” أنه لا بد لنا أن نرى الطبيعة بوصفها علامة على الطريق تشير إلى جمال الله الأعظم. إن “الجانب التصويري الذي يحظى بالقبول” في التقليد المسيحي يخاطب الشوق الذي نعرفه ونختبره، ويبشر في الوقت نفسه بكشف ما هو مخبوء في الوقت الحاضر، أي “ما لم نعرفه بعد ولكننا نريد أن نعرفه.”[48] إنه يفسر هذا السعي نحو الجمال على أنه “توق للاتحاد مرة أخرى بشيء في الكون نشعر أننا الآن منقطعون عنه، وشوق للدخول من باب ما طالما رأيناه من الخارج فقط.”[49] إن ما نختبره من رغبة في الجمال هو بالفعل دعوة “للعبور في الطبيعة ومن خلالها، ثم تَجاوزِها وصولاً إلى ذلك البهاء الذي تعكسه على نحو مؤقت.”[50]
وهكذا تُعتبر الطبيعة “أول رسم تخطيطي … مجرد صورة، أو رمز” لذلك الواقع الأعظم الذي تشير إليه. وبذلك تمثل الطبيعة “صورة جيدة لِما نرغب فيه بالفعل” ولكن الناس يعتقدون خطأً أنها هي نفسها ما يسعون إليه.[51] إلا أن الجمال يكشف الحق بالإشارة إلى عالم يتجاوز عالم الأشياء المنظور. إنه يتيح لنا أن نرى ما وراء الباب المغلق في الوقت الحاضر متوقعين فتحه والعبور فوق عتبته.
لا يمكننا أن نمسك بما نراه من صور البهاء. إلا أن حفيف أوراق العهد الجديد كلها يذيع أن الوضع لن يبقى كما هو عليه. ولكن يومًا ما، بمشيئة الله، سوف ندخل العالم الذي نشتاق إليه.[52]
ويمكننا العثور على أفكار مشابهة في كتابات آخرين مثل “چوناثان إدواردز” وكذلك “هانس أورز ڤون بالثازار” “Hans Urs von Balthasar. فكل الجمال الذي نراه في النظام المخلوق، سواء أكان في السماوات أم على الأرض مشتق من ضياء يسوع المسيح الذي هو صورة الله الجميل مصدر كل جمال.
فكيف نستخدم الجمال في دفاعياتنا؟ إجابة “لويس” بسيطة: الجمال يتجاوز التحليل العقلاني ويخاطب شيئًا أعمق بكثير داخلنا. قرر صديق لي يعمل محاميًا هو وصديقته أن يتزوجا. فذهبا إلى الصائغ لشراء خاتم الزواج بعد أن حددا مواصفات الخاتم المطلوب من حيث نوع الحجر الكريم الذي يزينه، والإطار المحيط به، وما إلى ذلك. ثم رأيا خاتمًا وقع كلاهما في غرامه. ورغم أنه لم يكن مطابقًا للمواصفات، فقد رأيا أنه الخاتم المناسب وعادا إلى البيت فرحين باختيارهما.
ولا يصعب أن نميز ما تتضمنه هذه القصة من معانٍ دفاعية. فأحيانًا يكون المهم أن تسمح للإنجيل أن يقنع الناس بنفسه. والتاجر الذي أدرك جمال “اللؤلؤة كثيرة الثمن” وقيمتها لم يكن بحاجة لأحد يقنعه بقيمتها الحقيقية (مت 13: 46،45). ولكن اللؤلؤة أقنعته بنفسها. فمهمتنا أن نساعد الناس على إدراكِ جمال الإنجيل، كبائع المجوهرات الذي يدفع ماسة مقابل الضوء حتى تبرق وجوهها فيُقدر الناظر جمالها. ولكن الجمال موجود من الأصل، وكل ما فعله الجواهرجي أنه عرضه بحيث يظهر بأقصى وضوح ممكن.
المفتاح السابع: العلاقاتية (الله بوصفه شخصًا):
تؤكد رواية الخلق في سفر التكوين أن كل ما خلقه الله حسن. ولكن عند نقطة معينة يقرر الله إجراء تغيير معين، فليس حسنًا أن يكون آدم وحده (تك 18:2)، وهو إقرار بما يميز البشر من جانب علاقاتي. فقد خُلقنا لنوجد في علاقة، مع بعضنا البعض، ومع الله. والصورة الفردوسية التي يرسمها الكتاب المقدس لِجَنَّة عدن تصور آدم وحواء في انسجام بعضهما مع بعض ومع الله. فالإنسانية الأصيلة تتضمن التواجد في علاقات، حسب الوضع الذي خُلقنا عليه.
وقد أدرك الإنسان احتياجه الأساسي للتواجد في علاقات منذ زمن بعيد. فعندما أطلق أرسطو، وهو من فلاسفة العصر الكلاسيكي العظماء، جملته الشهيرة أن البشر “حيوانات سياسية” كان يقصد فعليًا أن الإنسان لديه ميل طبيعي أن يعيش في مجتمعات مثل دولة المدينة التي سادت اليونان في الحقبة الكلاسيكية. إلا أن أهم طريقة لفهم حاجتنا للعلاقات، عند الغالبية، لا يُعَبَّر عنها بمصطلحات سياسية، بل بلغة الحب الشخصية الحميمة.
لقد قال “ڤيكتور ايجو” Victor Hugo (1802-1885) الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير إن “السعادة القصوى في الحياة تتحقق عندما نتأكد أننا محبوبون.” فمعرفتنا أننا محبوبون تمنحنا قاعدة الأمان التي نحتاج إليها لنواصل حياتنا. إننا نحتاج أن نطمئن إلى أننا مهمون عند شخص ما. ومما يؤكد أهمية هذا الموضوع عند جميع البشر أن حتى المقالات الأكاديمية المملة والروايات الرومانسية التافهة لم تخلُ منه، وهي تطرح سؤالاً يقول: لماذا نجد الأغنياء وأصحاب السلطة في غاية التعاسة؟ لأن ما يهم الناس فعلاً هو الحب، لا الثروة ولا السلطة. ولا يمكننا ان نحيا دون علاقات شخصية ذات معنى.
ويمكننا أن نروي الكثير من القصص لتوضيح هذه النقطة. ولكن قصتي المفضلة تختص بالفيلسوف الأمريكي “پول إلمر مور” Paul Elmer More (1864-1937). انبهر “مور” في شبابه بفكرة أفلاطون عن المثالي Ideal أي الواقع الذي يكمن خلف أي مظهر مرئي على الأرض. إلا أنه كلما تأمل في “عالم مثاليات” أفلاطون تضاءل إعجابه به. فقد بدا له قاحلاً عقيمًا عاجزًا عن التواصل مع البشر، ورآه باردًا يتلامس مع الإنسان باعتباره شخصًا، ولا تُنطق فيه أي كلمات ولا تُعرف فيه مشاعر الحب الرقيقة. إلا أن المسيحية تتحدث عن إله يدخل في تاريخنا ويحررنا من عالم المثاليات البارد المجرد من المشاعر لندخل عالمًا مشحونًا بحضور الله الشخصي البهيج. والاختلاف بين الاثنين يمثل أهمية عظمى. ولذلك، أصبح “مور” مسيحيًا في مرحلة لاحقة من حياته.[53] فما من كائن بشري يمكنه أن ينعم بالإشباع في عالم مجرد لا يتلامس مع الناس باعتبارهم أشخاصًا، فنحن نحتاج للتواصل من الآخرين، بمن فيهم الله.
والمسيحية إيمان علاقاتي في الأساس. فلا يجب أن نفكر في الإنجيل إطلاقًا من وجهة عقلانية بحتة، مثل الإيمان بوجود إله، كما لو كان الإيمان مجرد نوع من استيفاء مجموعة من الشروط. فرغم أن الإيمان له محتوى واضح يحدد ما نؤمن به عن الله وعن أنفسنا، هو أعمق من ذلك بكثير. ومن ثم، يجب ألا ننسى أبدًا أن الفكرة التي يتمحور حولها الإيمان في الكتاب المقدس تتلخص أساسًا في الثقة في الله الذي يُظهر نفسه على أنه أهل لتلك الثقة بالقول وبالفعل. ومن هنا يتضح الاتصال الوثيق بين الإيمان والرجاء والمحبة. فنحن نثق في إله يحبنا ويمنحنا رجاء للمستقبل.
ويمكن رؤية الجوانب العلاقاتية للإيمان في مجموعة لا تحصى من الفقرات الكتابية. ومنها مثلاً دعوة إبراهيم (تك 17،15). والعنصر الجوهري في هذه القصص الكتابية هو ثقة الإنسان في المواعيد الإلهية. ففي حالة إبراهيم كان الأساس هو تكوين علاقة ثقة وطاعة بين إبراهيم والله. ونرى نموذجًا مشابهًا في دعوة التلاميذ الأوائل على شاطئ بحر الجليل (مر 1: 16-20) حيث يدعو يسوع صيادين ليتبعوه، أي بالأحرى ليدخلوا في علاقة معه.
وعبر صفحات الوحي كله، نرى الله باعتباره شخصًا، وليس مجرد قوة، فهو شخص يحبنا ويريد أن يدخل في علاقة معنا. واللغة التي نستخدمها لنَصف علاقتنا بالله تشبه تلك التي نستخدمها لوصف علاقتنا بالآخرين، وهو ما يتضح في بعض الكلمات مثل “حب” أو “تكريس”. وبولس مثلاً يستخدم في رسائله تعبير “المصالحة” للإشارة إلى استعادة العلاقة بين الله وأناس غرباء واستعادة الشركة بين الله والبشر في المسيح.
والنقطة الدفاعية الرئيسية هنا تقوم على أسس لاهوتية متينة، ألا وهي أننا خُلقنا لكي نتواصل مع الله وسنظل مضطربين وغير مشبَعين حتى يحدث هذا التواصل. لقد خُلقنا “على صورة الله” (تك 1: 27)، وهذا ما يعني وجود تشابه أصيل، وليس تماثلاً، بين الله وكل واحد منا. فنحن نوصف بأننا كائنات بشرية بفضل ما منحنا الله إياه من قدرة على التواصل معه باعتباره خالقنا وفادينا. وعندما نصل إلى الإيمان بالله نرجع للحالة التي قصدها الله لنا. فالوجود الأصيل authentic existence لا يُكتسب بالممتلكات، ولا المناصب، ولا السلطة، بل بالالتصاق بالله الحي المحب.
وهذه القضية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بموضوع بحثناه سابقًا في هذا الفصل، وهو الحجة المبنية على الرغبة. ولكن الرغبة هنا تتجه نحو شخص، لا نحو شيء أو قوة. فالله شخص نعرفه، ولسنا فقط نعرف عنه. فلا شك أن بداخلنا “فراغًا على صورة الله” يدلل على حاجتنا للاتصال بالله حتى نصير إلى الوضع الذي يريدنا عليه. ودون الله، نظل نعاني من الفراغ وعدم الإشباع.
المفتاح الثامن: الأبدية (رجاء حدسي):
تصعب ترجمة بعض النصوص الكتابية إلى الإنجليزية نظرًا لثراء الأصل العبري أو اليوناني وتعقيده. وكما يقولون، إن المعاني تُفقد في الترجمة. فالإصحاح الثالث من سفر الجامعة يأخذ شكل تأمل طويل في موقعنا على خط الزمن. ولكن أحد أجزائه يشكل صعوبة حقيقية في الترجمة إلى اللغة الإنجليزية، ويقول هذا الجزء إن الله عندما خلق البشر “وضع في عقولهم حسًا بالماضي والمستقبل” (جا 3: 11). إلا أن هذه العبارة لا تحمل معنى مرور الوقت. لذلك، ربما يمكن ترجمتها بطريقة أخرى كأن نقول إن الله “زرع الأبدية في قلوبهم.” إننا ندرك في أعماقنا قِصَر الحياة البشرية، وحدسنا الداخلي يخبرنا بأن الواقع يتجاوز ما أعطي لنا من مقدار ضئيل من الزمان والمكان. ووجودنا المؤقت في هذا العالم يشير إلى وجود شيء أعظم وأفضل يتجاوزه. وبداخلنا شعور يقول لنا إننا خُلقنا لشيء أكبر من هذه الحياة. ولكن ما هو؟ وكيف نحصل عليه؟
إن هذا الشعور بان مصيرنا الحقيقي يتجاوز هذا العالم الزائل يتأكد بعدة عوامل. أولها الحدس الداخلي العميق بأننا لا ننتمي إلى هذا العالم. وقد تحدث القديس أغسطينوس الذي كتب في القرن الخامس عن ذكرى الفردوس التي تطاردنا بحيث لا يمكننا التخلص منها أبدًا. وحتى ونحن غارقون في خضم مشاغل الحياة، نتذكر عالمًا آخر، ووجودًا آخر. ويبدو أن الأصوات تنادينا من أقاصي الأرض مشيرةً إلى أعمق وأفضل من كل ما نمتلك أو نعرف في الوقت الحاضر. وقد عبَّر عن ذلك الشاعر “ماثيو أرنولد” Matthew Arnold (1822-1888) في قصيدته “الحياة الفانية” The Buried life التي نظَمها في أوج ازدهار العصر الفيكتوري:
ولكن غالبًا في أكثر شوارع هذا العالم ازدحامًا
ولكن غالبًا في عمق المعاناة
تنبثق رغبة يَقصُر التعبير عن وصفها
بعد أن عرفنا بحياتنا الفانية
يبدو أن ذكرى جنة عدن مطبوعة في نفوسنا، وهي تنهض لتوقظنا وتنعشنا عندما تغيب عن عيوننا هويتنا الحقيقية ومصيرنا الحقيقي.
وقد عبَّرت الموسيقية الأمريكية “چوني ميتشل” Joni Mitchell (المولودة سنة 1943) عن فكرة مشابهة سنة 1969 في أغنيتها الشهيرة “وُدستوك” “Woodstock” التي تقول فيها إننا “مصنوعون من تراب سحري”، إلا أن هذا لا يعني أننا نُختزل إلى مكوناتنا المادية كأننا مكونون من عناصر الكون الكيميائية، ولكننا نتميز بشي مختلف، شيء يجعلنا متفردين عن كل ما حولنا. وعلينا أن نستعيد إحساسنا بهويتنا وغرضنا. ولكن كيف؟ تأتي إجابة “چوني” قوية ومؤثرة: “ينبغي أن نعود بأنفسنا إلى الجنة.”
وهذا الشعور بالرجاء مغروس ومتأصل في الثقافة الغربية. فقد أجرت الصحفية “ليزا ميلر” Lisa Miller مؤخرًا دراسة على ما يتبناه الناس من مواقف ثقافية نحو السماء، أشارت فيها إلى أن الأفراد والمجتمعات مبرمجون على الاعتقاد في “مكان يجسد الأفضل في كل شيء، بل ما هو أعظم من الأفضل … الأجمل، والأكثر حبًا، والأكثر عدالة، والأوفر حقًا.”[54] وقد يكون هذا الاعتقاد طبعًا مجرد وهم، وتفكير رغبوي يحمينا من واقع الحياة القاتم. أو قد يمثل مفتاحًا يشير إلى هويتنا الحقيقية وقيمتنا. وترى “ليزا” أن في أعماقنا “رجاء أصيلاً”، يساعدنا على مواصلة الحياة حتى عندما يهاجمنا اليأس. ومن السهل أن نرى ارتباط هذه الفكرة بالرؤية المسيحية للرجاء المؤسس على قيامة يسوع المسيح ويقين المكوث في محضر الله نهائيًا في أورشليم الجديدة.
ومهمة المدافع أن يلتقط هذه المعرفة الحدسية العميقة الكامنة في القلب البشري ويبين أن الإيمان المسيحي يعطيها معنى ويقدم رجاءً حقيقيًا مؤسسًا في الله الحقيقي. فالمدافع يتخذ من هذا الشعور بالرجاء نقطة انطلاق ويسأل عما يشير إليه. ثم يشرح طبيعة الرجاء المسيحي، ويبين كيف أنه يجعل من هذا الحدس الأساسي الكامن في القلب البشري حقيقة واقعة. وهنا يمكن أن يبين أنه ربما غرس الله فكرة الأبدية في قلوبنا لتكون مفتاحًا يوحي بالمعنى الحقيقي للكون، وربما ما يجعلنا ننشغل بهذه الأفكار ونختبر هذه الأشواق أن الله خلقنا هكذا.
إن هذا الطرح لا يعتبر حجة منطقية. ولكنه توضيح لقدرة الإيمان المسيحي على أن يضفي معنى على الوضع البشري ويبين لنا أن ما نعرفه معرفة حدسية يمكن أن يتحقق واقعيًا في المسيح. إنه تفسير للوضع البشري باعتباره إعدادًا لتحويل اتجاهه وتغييره.
المفاتيح في نسيج واحد: بحثًا عن نسق:
أشرنا آنفًا إلى الصورة التي رسمتها الشاعرة الأمريكية “إدنا سينت ڤينسنت ميلاي” لِما أطلقت عليه “وابلاً من الحقائق” يهطل من السماء. وهي تشَبِّه هذه الحقائق بالخيوط التي لابد أن تُكون نسيجًا واحدًا يصنع لوحة، فهي كالمفاتيح التي يجب أن توضح معًا لتفتح الصورة الكبرى. وكما أشارت “ميلاي”، إننا عندما نواجه هذا الوابل من الحقائق، لابد أن نجد “نولاً لنصنع منها نسيجًا.“ فما هو النسق الكامن في هذه الحقائق؟
تناولنا في هذا الفصل ثمانية مفاتيح تساعد في فهم معنى الكون. وكلٌّ منها له أهميته في حد ذاته، إلا أن قيمتها الحقيقية تكمن في النسق الكلي الذي تكشفه. فهي كالخيوط في لوحة الإيمان، واللاهوت المسيحي هو النول الذي ينسجها معًا حتى يدركها المرء ويُقدر قيمتها الحقيقية. فبالرغم من أنه يمكن تقدير كل خيط على حدة، فهي تزداد أهمية عندما تُنسج معًا لتشكيل نسقًا جميلاً متكاملاً.
وبعض هذه المفاتيح يختص بما نلاحظه في العالم المحيط بنا، والبعض الآخر يتعلق بعالم خبراتنا الداخلية. إلا أننا سنكتشف أن الإيمان المسيحي قادر على إضفاء المعنى على هذه المفاتيح ووضعها في الصورة الكبرى للواقع كما يكشفها الإنجيل، وذلك سواءً على مستوى ما يدور في أذهاننا من أفكار أو ما يعتمل في قلوبنا من أشواق. وهذه القدرة على التلامس مع خبرتنا وإعطائها معنى تُعتبر مؤشرًا أكيدًا على ما يميز الإيمان المسيحي من حق عقلاني ومَقدرة وجودية.
وقد قدم الفيلسوف “چون كوتينجهام” John Cottingham مؤخرًا شرحًا دقيقًا يعلل ما يتمتع به الإيمان المسيحي بالله من صلابة فكرية فائقة وإشباع روحي:
إنه يقدم إطارًا يحررنا من شبح الصدفة والبُطل الذي
يختبئ تحت سطح الأخلاق العلمانية التي يُظن أنها تتمتع
بالاستقلالية والاكتفاء الذاتي. فهو لا يعطينا برهانًا ولكنه
يملؤنا بالأمل في أن “كهف” عالمنا البشري (على حد
تعبير أفلاطون) لن يظل مغلقًا ومختومًا، بل ما نلتقطه
داخلنا من إشارات أخلاقية باهتة يعكس النبع الأصلي لكل
صلاح.[55]
وهكذا يقول “كوتينجهام” إن الومضات الأخلاقية التي تصدر داخلنا تعكس المصدر الأصلي للجمال وتشير إليه. والإنجيل يصنع لهذه “الإشارات” معنى، ويعيد توجيهها في الوقت نفسه نحو مَنشئها الحقيقي ومآلها.
والمنهج الذي نعرضه هنا يمكن دراسته بمزيد من الاستفاضة في ضوء الإطار اللاهوتي الذي يقدمه “چون كالڤن” John Calvin (1509-1564) في الفصول الافتتاحية من كتابه “مبادئ الدين المسيحي” Institutes of the Christian Religion،[56] حيث يؤكد أننا نتمتع بمعرفة حدسية أو نظرة لله تقوم إما على التأمل في العالم المحيط بنا أو على وعي داخلي بوجود الله فينا. وهو يعتبر هذه المعرفة مقبولة وإن كانت قاصرة، لأنها مجرد إشارات إلى شيء أعظم. ثم يستطرد “كالڤن” مؤكدًا أن المعرفة الكاملة لله التي تتأسس على الإعلان الإلهي قادرة على التلامس مع هذا النوع من الإدراك فتتيح للمرء أن يفهمه فهمًا صحيحًا، وتعمل أيضًا على إعادة تفسير هذه الأشكال من الإدراك، وإعادة توجيهها، وأخيرًا تؤدي إلى اكتمالها من خلال فداء المسيح.
ومن ثم، فالمنهج الدفاعي المستخدم في هذا الفصل يقوم على تحديد المفاتيح التي تساعد في فهم معنى الكون، سواء أكانت تصدر عن ملاحظاتنا للعالم المحيط بنا أم عن المشاعر الذاتية والأشواق البشرية العميقة. وعندما ننظر إلى هذه المفاتيح معًا، نجدها تمثل مؤشرات مهمة تدلل على قدرة الإيمان المسيحي على خلق معنى للحياة. إلا أنه يجب إدراك هذه المفاتيح وتطبيقها كلٍّ على حدة، فكلٌّ منها له أهميته الخاصة وهو يشع استراتيجية دفاعية منهجًا دفاعيًا خاصًا. وسأشرح ما أعنيه.
لنأخذ واحدًا من هذه المفاتيح، وليكن نظام الكون، ونرى كيف نستخدم مختلف جوانبه في الدفاعيات. كيف نستكشف هذا المفتاح ونساعد الآخرين على إدراك أهميته؟ كيف نستند على نظام الكون وانتظامه ونساعد الناس على إدراك أن هذا المفتاح يشير إلى أن الله مصدر هذا الكون؟ سأضرب مثلاً استخدمته في محاضرة قدمتها لشركة الإذاعة البريطانيةBritish Broadcasting Corporation وأذيعت في مارس 2010. وفي هذه المحاضرة القصيرة استخدمت هذا “المفتاح”، وافتتحت كلمتي بواقعة من التراث القديم:
تحكى هذه القصة عن الفيلسوف اليوناني أريستبوس
الذي قذفته الأمواج على شاطئ جزيرة رودس، ولم يكن
يعلم شيئًا عن المكان، ولم يعلم إن كان آهلاً بالسكان أم
لا. وبينما كان يسير على الشاطئ وجد الأشكال
الهندسية مرسومة على الرمل، فهمس لنفسه قائلاً: “هناك
أمل. لابد أن في المكان أناسًا.” لقد رأى أريستبوس
أمارات في الطبيعة تشير إلى احتمال وجود عقل بشري.
فالأشكال تدلل على أن أشخاصًا مثله قاموا بتصميمها
ورسمها، أي أنه لم يكن وحده على هذه الجزيرة.
وبعدئذٍ ذكرتُ أن الكون يكشف عن أشكال نمطية منتظمة خاصة به، ومنها الضبط الدقيق. وكما استنتج أريستبوس من التصميمات التي رآها على شاطئ جزيرة رودس وجود فاعل عاقل صممها، قلت إن ما نراه من نظام في العالم يشير إلى وجود خالق. ثم ختمت المحاضرة كما يلي بالتفسيرات المحتملة لما نراه في الكون من نظام غريب وأنماط منتظمة:
من الإجابات التي تفسر ذلك أننا نجد هويتنا الحقيقية
ومعنانا عندما نعرف الله. وهذه هي الإجابة التي أقدمها
الآن، أو على الأقل جزء منها. ولكني لم أكن مقتنعًا بها
فيما سبق، إلا أنني عندما كنت طالبًا في أكسفورد منذ
سنوات طويلة بدأ هذا التفسير يستحوذ على أفكاري
وخيالي تدريجيًا.
وما زال هذا التفسير يملؤني بهجة وحيوية، فقد كان اكتشافي لله كالعثور على عدسة ساعدتني على رؤية الأشياء بمزيد من الوضوح. فالإيمان يقدم صورة أكبر للواقع، وهو في نظري شيء له معنى، وفي الوقت نفسه يجعل لوجودي معنى. وقد كتب “سي. إس. لويس”: “إني أؤمن بالمسيحية كما أؤمن بأن الشمس قد أشرقت، لا فقط لأني أراها، ولكن لأني أرى كل الأشياء الأخرى بواسطتها.” ولا أرى أن الإيمان بالله يتعارض مع العلم، بل إنه يزودني بإطار فكري وأخلاقي يمكن من خلاله تقدير نجاحات العلم وفهمها، وإدراك محدوديته.
وأود أن أختم بفكرة للسير “إسحق نيوتن”، وهو واحد من أهم من أسهموا في الثورة العلمية التي قامت في القرن السابع عشر. وما حققه “نيوتن” من طفرات علمية ورياضية، مثل اكتشافه لقوانين حركة الكوكب، ونظرية البصريات وضعه في صدارة ما توصل إليه العلم من مفاهيم جديدة للطبيعة. إلا أن “نيوتن” آمن أن ما يُرى من الطبيعة يشير إلى شيء أعمق يتجاوزها، والمنظور هو علامة إرشادية تلفت النظر إلى هذا الشيء. وقد كتب في نهاية حياته: “لم أكن سوى طفل يلعب على الشاطئ، وانا الآن أدخل قليلاً إلى المياه فأجد حصاة أنعم من الحصوات العادية أو صدفة أجمل من الأصداف العادية، ولكني حتى الآن لم أكتشف محيط الحق الشاسع الذي لا يزال ممتدًا أمامي.” ما زال هذا المحيط موجودًا، وأغواره التي لم تُسبر تدعونا لنغوص فيها وندخل في أعماقها.
لاحظ أني كونت منهجًا دفاعيًا وليس كرازيًا. فأنا لم أحاول أن أقود المستمع لقبول الإيمان، ولكني سعيت لإثارة تفكيره، وجذب انتباهه، ولفت نظره، وأخيرًا إقناعه. فما هو أفضل تفسير لهذا المفتاح؟ وما المعاني التي ينطوي عليها فيما يتعلق بالوجود البشري؟ أظن أننا جميعًا متفقون أن ما يجب أن يقال في هذا الموضوع يزيد عما أوردنا بكثير. ولكن على أي حال يجب أن يُنظر إلى الدفاعيات عمومًا باعتبارها وسيلة لفتح حوار جاد يجذب انتباه الجمهور، سواء أكان شخصًا واحدًا أو قاعة مليئة بالحضور، بطرح أسئلة الحياة العميقة. فالدفاعيات تفتح الحديث، والكرازة تصل به إلى النتيجة النهائية.
خطوة للأمام:
تناولنا في هذا الفصل “مفاتيح” تساعد في فهم معنى الكون المتناثر حولنا. ورغم أن الكثير من هذه المفاتيح معروف لجمهورنا، ربما أنهم لم يفكروا فيما تعنيه. ومهمتنا نحن المدافعين أن نصل كل هذه النقاط ونضع المفتاح في إطارها الصحيح.
ولكن يجب الإشارة هنا إلى نقطة أخرى. لقد أكدنا في الفصل السابق أهمية أخذ الجمهور في الاعتبار لأن الناس مختلفون. فالبعض قد يُقدر قيمة الحجة العقلية. في حين أن البعض الآخر قد يُقدر أسلوبًا يتناول مستوى أعمق، مثل الجمال أو شعور البشر بالتوق إلى شيء له قيمة عظمى. وهو ما يعني أننا لا نقتصر على الحجج التي تستند إلى المنطق البشري، ولكننا قادرون على التفاعل مع كل جوانب الطبيعة البشرية، بما فيها الخيال، والمشاعر، والحدس. وفي الفصل التالي سنتناول مجموعة من المداخل للإيمان وندرس أهميتها وكيفية استخدام كلًّ منها الاستخدام الأمثل.
لمزيد من الاطلاع:
Craig, William Lane. “In Defense of Theistic Arguments.” In The Future of Atheism, edited by Robert B. Stewart, 67-96. Minneapolis: Fortress Press, 2008.
Dubay, Thomas. The Evidential Power of Beauty: Science and Theology Meet. San Francisco: Ignatius press, 1999.
Evans, C. Stephen. Natural Signs and Knowledge of God: A New Look at Theistic Arguments. Oxford: Oxford University Press, 2010.
Feingold, Lawrence. The Natural Desire to See God According to St. Thomas and His Interpreters. Rome: Apollinare Studi, 2001.
Haldane, John. “Philosophy, the Restless Heart, and the Meaning of Theism.” Ratio 19 (2006): 421-40.
Hart, David Bentley. The Beauty of the Infinite: The Aesthetics of Christian Truth. Grand Rapids: Eerdmans, 2003.
Keller, Timothy J. Counterfeit Gods: The Empty Promises of Money, Sex, and Power, and the Only Hope That Matters (New York: Dutton, 2009).
McGrath, Alister E. Surprised by Meaning: science, Faith, and How We Make sense of Things. Louisville: Westminster John Knox, 2011.
Peters, James R. The Logic of the Heart: Augustine, Pascal, and the Rationality of Faith. Grand Rapids: Baker Academic, 2009.
Plantinga, Alvin. Warranted Christian Belief. Oxford: Oxford University Press, 2000.
Polkinghorne, John. Science and Creation: The Search for Understanding. London: SPCK, 1988.
Spitzer, Robert J. New Proofs for the Existence of God: Contributions of Contemporary Physics and Philosophy. Grand Rapids: Eerdmans, 2010.
Swinburne, Richard. The Existence of God. 2nd ed. Oxford: Clarendon Press, 2004.
Warren, Rick. The Purpose Driven Life: What on Earth Am I Here for? Grand Rapids: Zondervan, 2002.
Wolterstorff, Nicholas. “The Migration of the Theistic Arguments: from Natural Theology to Evidentialist Apologetics.” In Rationality, Religious Belief, and Moral Commitment, edited by Robert Audi and William J. Wainwright, 38-80. Ithaca, NY: Cornell University Press, 1986.
[1] Augustine of Hippo, Confessions VII.x.16.
[2] Helge Kragh, Cosmology and Controversy (Princeton: Princeton University Press, 1999), 262.
[3] For a thorough exploration of the scientific issues and their apologetic implications, see Alister E. McGrath, A Fine-Turned University: The Quest for God in Science and Theology (Louisville: Westminster John Knox, 2009), 109-201ز
[4] Richard Swinburne, “The Argument from the Fine-Tuning of the Universe,” Physical Cosmology and Philosophy, ed. John Leslie (New York: Macmillan, 1990), 154-73; Robin Collins, “A Scientific Argument for the Existence of God: The Fine-Tuning Design Argument,” Reason for the Hope Within, ed. Michael J. Murray (Grand Rapids: Eerdmans, 1999), 47-75.
[5] الكربون هو المكون الرئيسي للمركبات العضوية ويمثل حوالي 18% من وزن الكائنات الحية. (المترجمة)
[6] Martin J. Rees, Just Six Numbers: The Deep Forces That Shape the Universe (London: Phoenix, 2000).
[7] Robert J. Spitzer, New Proofs for the Existence of God: Contributions of Contemporary Physics and Philosophy (Grand Rapids: Eerdmans, 2010), 60-65
[8] عملية تحول ذري تحدث داخل النجوم، مثل الشمس وفيها تتحول ذرات الهيدروجين إلى هليوم ثم يتحول الهليوم إلى كربون وأكسجين في وجود مركب الباريوم. وهذه العملية المعقدة هي الأساس الوحيد لتكون الكربون في الكون. (المترجمة)
[9] entropy: مصطلح يعبر عن محتوى الطاقة الداخلي في المادة، ويترجَم وفقًا لما ورد في “معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية” لأحمد شفيق الخطيب إلى “درجة التعادل الحراري”، أو “قياس الطاقة اللامتاحة”. (المترجمة)
[10] Fred Hoyle, “The Universe: Past and Present Reflections,” Annual Review of Astronomy and Astrophysics 20 (1982): 16.
[11] Spitzer, New Proofs for Existence of God, 34-42.
[12] Heinz R. Pagels, The Cosmic Code: Quantum Physics and the Language of Nature (Harmondsworth: Penguin, 1984), 83.
[13] Paul Davies, The Mind of God: Science and the Search for Ultimate Meaning (London: Penguin, 1992), 77.
[14] الأصل اليوناني للكلمة khaos ويعني “فجوة شاسعة”، “فراغ”. (المترجمة)
[15] الأصل اليوناني للكلمة kosmos ويعني “نظام” أو “عالم”. (المترجمة)
[16] John Polkinghorne, Science and Creation: The Search for Understanding (London: SPCK, 1988), 20-21.
[17] Eugene Wigner, “The Unreasonable Effectiveness of Mathematics,” Communications on Pure and Applied Mathematics 13 (1960): 1-14.
[18] C. S. Lewis, Miracles (New York: Macmillan, 1947), 26ز
[19] Charles A. Coulson, Science and Christian Belief (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1958), 22.
[20] Augustine, On the Trinity XVI. Iv.6.
[21] Audio recording available at .
[22] الموضوعية هي وجود الشيء مستقلاً عن الأفكار والآراء الشخصية وغير متأثر بها، وتشير في الفلسفة إلى الاعتقاد بأن الموجودات توجد مستقلة عن معرفة البشر بها أو إدراكهم لها. (المترجمة)
[23] Paul Kurtz, Forbidden Fruit: The Ethics of Humanism (Buffalo: Prometheus Books, 1988), 65ز
[24] الذاتية في الفلسفة موقف يرى أن المعرفة تتوقف على وجود الذات المدركة وأنه ليس هناك حقيقة موضوعية أو خارجية. (المترجمة)
[25] Richard Rorty, Contingency, Irony, and Solidarity (Cambridge: Cambridge University Press, 1989), 194 n.6.
[26] Richard Rorty, The Consequences of Pragmatism (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1982), xlii.
[27] Ibid.
[28] الحدس intuition هو الفهم أو المعرفة التي تعتمد على الشعور لا على المنطق والدليل والحقائق. (المترجمة)
[29] C. S. Lewis, Mere Christianity (London: HarperCollins, 2002), 3-8.
[30] Ibid., 24.
[31] C. S. Lewis, The Abolition of Man (London: Collins, 1978), 19.
[32] Philip E. Devine, Natural Law Ethics (Westport CT: Greenwood, 2000), 32-34.
[33] Augustine, Confessions I.i.1.
[34] Blaise Pascal, Pensées (Mineola, NY: Dover Publications, 2003), 113.
[35] Ibid.
[36] See Lewis, Mere Christianity, 134-38. See also a similar argument in C. S. Lewis, “The Weight of Glory,” Screwtape Proposes a Toast (London: Collins, 1965), 94-110.
[37] For Lewis’s approach, see Peter Kreeft, “C. S. Lewis’s Argument from Desire,” G. K. Chesterton and C. S. Lewis: The Riddle of Joy, ed. Michael H. MacDonald and Andrew A. Tadie (Grand Rapids: Eerdmand, 1989), 249072. More generally, see John Haldane, “Philosophy, the Restless Heart, and the Meaning of Theism,” Ratio 19 (2006): 421-40.
[38] Augustine, Confessions I.i.1.
[39] Lewis, Mere Christianity, 136-37.
[40] Charles Taylor, A Secular Age (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2007), 530.
[41] Avihu Zakai, “Jonathan Edwards and the Language of Nature: The Re-Enchantment of the World in the Age of Scientific Reasoning,” Journal of Religious History 26 (2002): 15-41.
[42] Lewis, Mere Christianity, 1.
[43] Lewis, “Weight of Glory,” 94-110
[44] Ibid.,97.
[45] Ibid.
[46] Ibid., 98.
[47] Ibid., 105.
[48] Ibid., 100.
[49] Ibid., 106.
[50] Ibid., 108.
[51] Ibid., 107-8.
[52] Ibid., 107.
[53] See Paul Elmer More, Christ the Word (Princeton: Princeton University Press, 1927).
[54] Lisa Miller, Heaven: Our Enduring Fascination with the Afterlife (New York: HarperCollins, 2010).
[55] John Cottingham, Why Believe? (London: Continuum, 2009), 47.
[56] For comment, see the classic studies of Edward A. Dowey, The Knowledge of God in Calvin’s Theology (New York: Columbia University Press, 1952); and T. H. L. Parker, Calvin’s Doctrine of the Knowledge of God (Edinburgh: Oliver & Boyd, 1969).