المسيح هو محور وهدف النبوات – أما إسرائيل فلا يعرف – القمص روفائيل البرموسي
المسيح هو محور وهدف النبوات – كتاب: أما إسرائيل فلا يعرف – القمص روفائيل البرموسي
المسيح محور وهدف النبوات
عندما نقرأ أسفار العهد القديم، ولا نتطلّع إلى تاريخ الخلاص الذي يقوده الله عبر كل الأسفار حتى يوصلّه إلى المسيح… أو نتطلّع إلى مواعيد الله التي تبدأ بشكل مواعيد مادية من نسل كبير وأرض خصبة جميلة إلى شكل مواعيد بالمسيح -المسيا- الآتي. نكون كمن يقرأ كتاب ألغاز!! وحاشا أن يكون كلام الله ألغازاً…. فكل كلمة نطق بها الأنبياء تشير إلى المسيح.
فمحور وهدف النبوات، هو شخص المسيح نفسه، نطق بها الأنبياء بوحي من الروح القدس “لأنه لم تأتِ نبوّة قط بمشيئة أنسان بل تكلم أُناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (بطرس الثانية 1: 21). والله قال لنا كل شيء في المسيح ” الله بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق شتى. كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عبرانيين 1: 1-2). ولذا، فالنبوة تُشبه سراجاً يُضئ جوانب البيت إلى أن يُطل النهار، أي يسوع المسيح… فهي توجّه أنظارنا إلى شخصه المبارك.
عن هذا الموضوع نجد أنفسنا أمام أربع نقاط هامة، وهي:
- النبوة في الكتاب المقدس.
- شعوب أخرى تنتظر.
- طريقة سرد النبوات في العهدين.
- انحراف الفكر اليهودي في فهم النبوات.
أولاً: النبوة في الكتاب المقدس
النبوة، هي وحي من الله، يكشف أموراً مستقبلية ستحدث في الزمن المعيّن لها. وفي اللغة العربية، فعل “أنبأ” أي “أخبر” أو “أعلم”. إذن، النبي هو – من جهة- المُخبر عن الغيب أو المستقبل بإلهام من الله. ومن جهة ثانية، هو المُخبر عن الله. هو إنسان يتكلم باسم الله، أو صوت صارح يهيئ له الطريق. يرى ما لا يراه الناس، لأنه ينظر إلى الأمور بعين مفتوحة. فالله هو الذي يختار نبيّه ويدعوه ويُرسله.
ورسالة النبي لها وجهان: وجه يتعلّق بالحاضر، ووجه يتعلق بالمستقبل. فالنبي صوت صارخ أمام شعب الله، يُنذر ويوبّخ، ويُشدد على الأمانة لعهد الرب ويدعو الشعب إلى التوبة الحقيقية، وينظر إلى المستقبل نظرة كلها رجاء، رغم كل الشرور التي تلّم بالشعب. أيضاً كل أنبياء العهد القديم تطلعوا إلى الخلاص الآتي من عند الرب، فحثوا الشعب أن يتطلّع إلى المسيح -المسيا- المنتظر، الذي حقق مواعيد الله في شعبه.
فمنذ فجر التاريخ والمسيح مُشار إليه ومُبشَّر به، هو الوحيد الذي كان محور انتظار ورجاء قرون عديدة. إن هذا المسيا، لم يتنبأ به نبي واحد، بل سلسلة طويلة من الأنبياء…. ووصل الرجاء إلى ذروته عند نبوات إشعياء النبي. فالرحلة تبدأ من سفر التكوين، حيث الوعد الأول بالمخلّص المُعطى إلى أبوينا الأولين… وبعد ذلك إلى شعب الله، الذي كلما نسى الوعد نظراً لطول الزمن أو ليأسه من تحقيقه، كان الله يُشدّده مُذكراً إياه بالوعد ومُطمئناً إياه بمزيد من التفاصيل عن المخلّص الموعود به.
من هذا المنطلق يمكننا القول: إنه بالمسيح صار فهم العهد القديم ميسوراً، بل وممتعاً. فالمسيح هو المفتاح، الذي لولاه لبقينا حائرين أمام كثير من نصوص العهد القديم. يقول الحاخام Auginew Rosilly، الذي آمن بالسيد المسيح [لقد بدا لي العهد القديم كبرقيّة مشفرّة، مرسلة إلى البشر. أما الآن فصاعداً فإن هذه الشفرة هي المسيح الذي على ضوئه تأخذ النصوص المسيانية التي يغصّ بها العهد القديم معناها]. فمع المسيح انقشع الغمام ووضعت النقاط على الحروف. هوذا السيد المسيح يقول “لأنكم لو كنتم تُصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني” (يوحنا 5: 46).
والعجيب، أن اليهود أنفسهم توصلوا من نبوات العهد القديم، إلى تحديد تاريخ بداية العصر المسياني. فبالنسبة لهم، كان من المؤكد أنه في “ذلك الزمان” أي زمن السيد المسيح، سيولد في اليهودية “سيّد العالم”. يقول المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس Flavius Josephus في كتابه الحروب اليهودية Jewish War [إنّ الذي دفع باليهود إلى الحرب التي انتهت بخراب أورشليم (سنة 68-70م)، هو عبارة عن نبوة وردت في الكتب المقدسة، مفادها: أنه في “ذلك الزمان” سيأتي المسيا من بلادهم (أي اليهودية) ليُصبح سيّد العالم].
كانت النبوات واضحة تمام الوضوح، لأنها هي التي كانت الدافع الأكبر (في نظر يوسيفوس)، إلى تحدي روما التي مجرد ذكر اسمها يُلقى الذعر في نفوس الناس. فعلى هذا الرجاء -أي مجيء المخلص- فضّل اليهود الموت على عروض السلام المتكررة من قِبْل الرومان (في القرن الأول الميلادي).
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو لماذا كان شعب إسرائيل ينتظر مسيحه في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا كان هذا الانتظار خلال القرن الأول، لا خلال قرن آخر سابق أو لاحق؟ لقد اعتمد اليهود في ذلك على مقطعين في الكتاب من إشعياء ودانيال (سنتكلم عنهما بالتفصيل فيما بعد). وهكذا فقد مرّ هذا القرن حاملاً معه كل الفرح والثقة إلى التلاميذ والبعض من اليهود، الذين رأوا في الرب يسوع، المسيا المنتظر. في حين رأي رؤساء الكهنة والكتبة وغيرهم من الفريسيين، بأنه ليس هو.
وهكذا تحوّل أكبر المتحمسين للنبوات إلى ألدّ أعدائها… فالمسيح، وبحسب الصورة التي رسمها له قادة اليهود، لم يأت بعد!!! وسقطت التواريخ وراحوا يبحثون عن سبب لتفسير إخفاقهم. ووفقاً لرأي أحد الاختصاصيين اليهود المعاصرين -هو دانتي لاتيس- فقد تحوّل المسيح الذي تصوره اليهود في الأزمنة الغبرة إلى شعب، أي شعب إسرائيل.
فإسرائيل من وجهة نظر هذا المفكّر، هو “عبد يهوه المتألم” لخلاص وتغيير العالم (الذي ورد ذكره في سفر إشعياء). وهكذا، بحسب زعمهم، فسّروا نبوة إشعياء عن “عبد يهوه” على شعب إسرائيل بدلاً من شخص المسيح. على إن تناقضاً شديداً واضحاً في ذلك: لأننا غالباً ما نرى شخص المسيح في النص الكتابي، متميزاً عن شعب إسرائيل، بل ومناقضاً له.
فالذي يُطالع إشعياء 49: 6، إشعياء 53: 4-6، يرى هذا الشخص -المسيا- مُكلفاً بقيادة شعبه، ويدفع ثمن خطايا شعبه، إلى أن يصل في الأصحاح 53: 8 حيث يقول، بأنه سيموت كفارة عن خطايا شعبه، فكيف سيموت الشعب عن نفسه!!… علاوة على ذلك، تقول النبوة أنه سيُقطع من أرض الأحياء، وأنه سيدفن في قبر غني. وهكذا، يبدو أن هذه النبوات يصعب تطبيقها على شعب – كما يقول اليهود المعاصرون- بعد إخفاق امتدّ قروناً عديدة.
ثانياً: شعوب أخرى تنتظر
لم يكن اليهود وحدهم، يعيشوا انتظار المسيا، بل إن شعوباً كثيرة أخرى كانت تعيش هذا المجيء الموعود به. ولدينا شهادات لا جدل فيها ودقيقة جداً حول انتظار الجميع “أحداً ما” يجب أن يأتي من اليهودية. وتأتي هذه الشهادات من اثنين من أكبر المؤرخين الرومان، هما: تاقيتس وسويطونيوس. فقد كتب تاقيتس في كتابه “The History” هذه السطور [إن أكثر الشعوب كانت مقتنعة بأنه مكتوب في كتب الكهنة القديمة، أنه في تلك الفترة سيعظم الشرق بالقوة، وأنه من اليهودية سيأتي الذي يسود العالم].
أما سويطونيوس، في كتابه “The Life of Wespaspanis” [كانت في الشرق فكرة قديمة وثابتة تسيطر على الأذهان، مفادها أنه سيأتي من اليهودية – في تلك الأيام- ذاك الذي يسود العالم].
وهناك مزيد من الشهادات يقدمها لنا علم الآثار. فنحن نعلم اليوم، بأن أكبر المدارس الفلكية القديمة، كانت مدرسة بابل، وأن هذه المدرسة لم تكن تعيش فقط في انتظار مجيء المسيا، الذي يجب أن يظهر في فلسطين، بل إنها حددت مسبقاً زمن هذا المجيء بدقة أكبر مما فعله الأسنيون في قُمران. فقد كان علماء الفلك البابليون، ينتظرون ولادة “سيد العالم”، انطلاقاً من العام الرابع قبل الميلاد. وهذا التاريخ يعتبره الاختصاصيون أكثر التواريخ دقة لولادة السيد المسيح.
ففي هذا العالم وبحسب الجداول الفلكية في سيبار (مدينة على الفرات)، وهي مركز هام لإحدى المدارس الفلكية البابلية. تحتوي هذه الجداول معطيات دقيقة عن حركة الأجرام السماوية في العام الرابع قبل ميلاد المسيح. طبعاً، قد يسأل البعض لماذا هذا العام بالذات؟ السبب يعود إلى أن علماء الفلك البابليين، كانوا يعتقدون بأن في العام الرابع قبل الميلاد، سوف يتم لقاء المشتري وزحل في منطقة برج الحوت. والذي يجب أن يظهر ثلاث مرات على الأقل وذلك في 29 مايو، 1 أكتوبر، 5 ديسمبر.
وهذا اللقاء لا يمكن ملاحظته قبل 794 سنة ولمرة واحدة. أما في العام الرابع قبل الميلاد، فقد ظهر بوضوح ثلاث مرات. وقد أثبت علماء الفلك المعاصرون صحة ما قاله علماء الفلك في سيبار ودقته.
وفي هذا العام نفسه، وبحسب اللوح الفلكي المحفوظ في برلين، وهو عبارة عن بردية مصرية يظهر فيها أيضاً لقاء زحل مع المشتري، الذي كان واضحاً في منطقة الشرق الأوسط. مما حدا بعض الشراح بأن يفسروا النجم الذي سطع فوق بيت لحم في زمن ميلاد السيد المسيح، ظاهرة نجمية تتعلق بما سبق وشرحناه. ولما حلّ علماء الآثار المعاصرون رموز علماء الفلك البابليين، علمنا بأن المشتري كان يُعتبر كوكب “حكام الأرض”، وزحل كوكب “حماة إسرائيل”.
أما برج الحوت فكان يُعتبر علامة “نهاية الأزمنة”، وبمفهوم علماء الدين اليهود يُعتبر “بداية العصر المسياني”. وهكذا نجد أن ما ورد في إنجيل القديس متى، فيما يتعلق بوصول مجوس من المشرق يسألون عن المولود ملك اليهود (متى 2: 1-2)، هو حقيقة يثبتها التاريخ والفلك. وقد بات واضحاً منذ ذلك الحين، أن الناس بين دجلة والفرات لم يكونوا فقط ينتظرون مسيحاً آتياً من إسرائيل، بل حددوا أيضاً وبدقة مدهشة زمن ولادته.
فاهتمام العالم، الذي يبدو صعباً على الفهم ظاهرياً، كان مركزاً في القرن الأول على مكان واحد، هي تلك المقاطعة الرومانية -اليهودية- البعيدة، حيث كانت النبوات والتفاسير قد دفعت الشعب إلى الثورة والتمرد على روما.
انتهت إذن الأزمنة بالنسبة إلى إسرائيل، فلقد تحددت الكتب المقدسة، وظهر المسيح الذي بشّر به الأنبياء، ودُمر الهيكل في أورشليم وتوقف الكهنوت وتوقت الذبائح نهائياً، واتخذ الشتات شكلاً جماعياً. ولم تعد اليهودية هي المدافعة الأولى عن الإيمان في العالم، بل أصبحت شاهداً بين الشعوب على الإيمان الذي كان لها منذ القديم. فبعد مجيء السيد المسيح، انطوت اليهودية على نفسها تحت ضربات التاريخ، وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة المسيحية، أي مرحلة العهد الجديد بكل عظمتها.
لم يقدر أحد أن يقول أو يثبت أن النبوات عن المسيح، قد لفقها دعاة المسيح ومؤمنوه. فالعهد القديم له في قدمه برهان على شرعيته، فهو كتاب مُلهم، أي أن الله هو مؤلفه الرئيسي والأول. والصدق هو من صفات الله، فكلامه منزّه عن الكذب والخطأ. وهدفه هو أن يعلمنا الحقيقة التي أراد الله أن تُدرج فيه لخلاصنا بقوة وأمانة.
إنه لحدث فريد حقاً، أن نرى إيماناً -الإيمان المسيحي- كل كنوزه موضوعة في نصوص حافظ عليها إيمان آخر – الإيمان اليهودي- ومن دون عبث. وهذا ما قد نبهّت إليه في مقدمة البحث، أنها لا يحق لنا أن نذم اليهود، لأنهم حافظوا على العهد القديم بدقة متناهية. وبذلك يكون كل كنوز العهد الجديد كانت مخبأة في العهد القديم، إذ كان مخبأ فيه سرّ المسيح.
وبالتالي نقول، أن السيد المسيح هو المفتاح لحلّ كل نبوات العهد القديم، لأنه هو محورها وهدفها… ولا أحد يشك في أن اليهود كانوا ينتظرونه أيضاً لكي يحقق عملاً يشمل العالم كله، ولكن هذا الانتظار، كان يرافقه قناعة أخرى، وهي أن المسيا الآتي سيكون ملكاً بكل معنى الكلمة، وسيجعل إسرائيل سيدّ هذا العالم.
وكنتيجة لهذا التصور الخاطئ، فقد خرج كثير من المسحاء الكذبة من صفوف الشعب اليهودي، وحاول كل منهم أن يتزعّم حركة دينية سياسية، ولكن في كل مرة كان الأمر ينتهي بمأساة. وهذا يُفسّر مدى الإخفاق الذي شعر به اليهود، عندما رأوا السيد المسيح شديد التسامح والتواضع، يُطالب بمحبة الأعداء…. إنه ملك فقير متواضع بلا خطية… إنه ملك القلوب والعقول.
ثالثاً: طريقة سرد النبوات في العهدين
قبل شرح هذه النقطة، لا بأس من أن نذكر وبإيجاز شديد، الشروط الواجب توافرها في النبوة… فهي يجب أن تكون: نبوة أصيلة، لا جدال في صحتها وسابقة للأحداث بفترة طويلة -نبوة واضحة، يمكن التعرف عليها بسهولة من خلال الأحداث – نبوة أكيدة، أي قد تمّت كما قيلت بالضبط – نبوة تشير إلى أحداث لا يمكن معرفتها بشكل طبيعي ويرتبط تحقيقها بأمور لا يمكن توقعها. أما عن طريقة سرد النبوات، فيمكن تقسيمها إلى قسمين هما:
1- طريقة العهد القديم:
في العهد القديم، كان النبي ينطق بكل ما يضعه الله على فمه، كما قال لإرميا النبي “ها قد جعلت كلامي في فمك” (إرميا 1: 9). وقد فهم شعب إسرائيل ذلك جيداً، لذا جاءت النبوات مطابقة تماماً لما سوف يكون، هذا من جهة… من جهة أخرى، عند تجميع هذه النبوات، تتكّون لنا صورة بديعة بالألوان لشخصية المسيا القادم وبأدق التفاصيل (سنستمتع سوياً بهذه الصورة الجميلة على صفحات هذا البحث).
فمن سفر التكوين حتى سفر ملاخي، نتقابل مع نبوات رائعة واضحة عن هذا المسيا… إذا تتبعها الشخص خطوة خطوة سيجد نفسه فجأة أما أحداث العهد الجديد، وبلا أي عناء.
يبدأ سفر التكوين بإعطاء الوعد، بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية ثم يبدأ النسل من إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب ثم يهوذا.. إلى أن نصل إلى داود النبي. ومنذ زمن داود النبي وما بعده، اتضح سِرّ المسيا أكثر منه في أي وقت آخر. فداود رآه من بعيد وتغنى به في مزاميره بروعة لا مثيل لها: لقد رآه جالساً عن يمين العظمة يرقب من أعلى السماء أعداءه تحت قدميه، ولقد دهش داود النبي لهذا المشهد الرهيب فنطق بروح النبوة ودعاه ربّه، قائلاً “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك” (مزمور 110: 1).
وفي حين أن مُلك هذا المسيا قد تم التنبؤ به في أسفار أخرى، إلا أنه بدا الصليب لداود النبي، كعرش حقيقي لهذا الملك الجديد… فقد رأى يديه ورجليه المثقوبتين، ورأى عظامه المعدودة غير مكسورة، رأى ثيابه وهم يقترعون عليها، رأى لسانه يذوق مرارة المرّ. ولكنه رأى في الوقت نفسه، المجد الذي تلا هذه الآلام والإهانات…. لأن شعوب الأرض كلها ستذكر الله الذي نسيته منذ قرون، وسيأتون ليعبدوه… ويؤسس كنيسته المكونة من يهود وأمم.
لم تكن رؤية بقية الأنبياء للمسيح، أقل وضوحاً من رؤية داود النبي: ففي حين يرى الواحد بيت لحم أصغر مدن يهوذا، وقد تمجدت بميلاده فيها، يرى الآخر العذراء البتول والدة الإله…. ويرى عمانوئيل، ابناً عجيباً وإلهاً قديراً… فهذا يراه داخلاً هيكله، وذاك يراه ممجداً في قبره حيث غلب الموت. ومقابل إعلان الأنبياء هذه الأمور الرائعة عن الرب يسوع، فإنهم لا يغفلون عن المواقف المهينة التي سيتكبدها: فلقد رأوه مباعاً وعرفوا ثمنه وفيما أُستخدم هذا الثمن…. ففي الوقت الذي رأوه فيه ممجداً، رأوه مرذولاً ومحتقراً من الناس…
رأوه متواضعاً، مهاناً كأرذل الناس، حاملاً خطايا البشر ومُذلاً، وفاعل خير… شوهت الجراح جماله. أما الذي اشترك فيه أغلب الأنبياء، فهو تقديم المسيا، كابن الله الذي سيصير أيضاً ابناً للبشر (ابن داود)… هذا الابن موعود بمُلك لا نهاية له.
2- طريقة العهد الجديد:
يعلن العهد الجديد بوضوح، أن في بداية كرازة السيد المسيح، كان من الصعب على التلاميذ إدراك حديثه عن موته، إدراكاً كاملاً. فكل مرة يحدثهم السيد المسيح عن صلبه وموته، يصيبهم الارتباك والدهشة. والسبب الحقيقي هو أنهم – أي التلاميذ – كانوا يفتقرون في ذلك الوقت إلى المعرفة الكاملة التي تتعلق بالخطة الشاملة للمسيا، ويتوقعون كغيرهم من اليهود – أن المسيا يهزم أعداءهم ويؤسس مملكته على الأرض. كان إدراكهم في ذلك الوقت لحقيقة أن المسيا ينبغي أن يأتي مرتين: أولاً ليتألم – ثم يأتي في مجده، وأن هدف مجيئه الأول يختلف عن هدف مجيئه الثاني، ضعيفاً … ماذا فعل السيد المسيح ليُصحح أفكارهم.
لم يطلب منهم مجرد الإيمان به، بل أحالهم إلى ما كُتب عنه في الأسفار المقدسة التي لديهم (العهد القديم)، فعلى سبيل المثال: “إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه” (متى 26: 24) – “وأما هذا كله فقد كان لكي تُكّمل كتب الأنبياء” (متى 26: 56) – “لأنه كان يُعلّم تلاميذه ويقول لهم إن ابن الإنسان يُسلّم إلى أيدي الناس فيقتلونه. وبعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث. وأما هم فلم يفهموا القول” (مرقس 9: 31)- “وأخذ الإثني عشر وقال لهم ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان.
لأنه يُسلّم إلى الأمم ويُستهزأ به ويُشتم ويُتفل عليه ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم. وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً وكان هذا الأمر مُخفى عنهم ولم يعلموا ما قيل” (لوقا 18: 31-34).
أما بعد القيامة، فالطريقة اختلفت، ويظهر ذلك بوضوح في الأمثلة التالية:
أ – ظهور السيد المسيح لتلميذي عمواس “… فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له: هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام. فقال لهما وما هي. فقالا المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل… فقال لهما أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء.
أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى وجميع الأنبياء يُفسّر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” (لوقا 24: 13-27). هنا نرى السيد المسيح يوبخ عدم معرفتهما ما قاله الأنبياء وما تحتويه بنبوات تخص آلامه وموته. لم يكن لديهم أية صعوبة ليؤمنوا بالنبوات التي تُقدم المسيا كملك يُعيد إسرائيل إلى مجده الأول، كانت الصعوبة لقبول النبوات التي تُقدم المسيا كمتألم مهان. لذا، من الآيات السابقة كان واضحاً ذهولهما من موقف المسيح الحاسم لصد هذا المفهوم الإيماني الخاطئ.
لقد بدأ الرب يسوع يشرح لهما كل ما يختص به، من ناموس موسى ثم الأنبياء والمزامير… أي توقف عند كل سفر من أسفار العهد القديم، ليشرح لهما ما يخص المسيا، خاصة آلامه وموته وقيامته. وبذلك يكون موت المسيح وقيامته مطابقاً تماماً لما هو بحسب الكتب المقدسة.
ب – تعلّم رسل المسيح هذا الدرس جيداً. فبعد صعود السيد المسيح، نرى تلاميذه يعيدون اثبات أن المسيح الذي يكرزون به، هو المسيا… وهو لليهود كما للأمم. متبعين نفس الطريقة التي استعملها السيد المسيح مع تلميذي عمواس. ففي سفر أعمال الرسل، نقرأ الآتي عن الخصي الحبشي “ثم إن ملاك الرب كلم فيلبس قائلاً قم واذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزّة التي هي برية. فقام وذهب. وإذا رجل حبشي خصيّ وزير لكنداكة ملكة الحبشة كان على جميع خزائنها. فهذا كان قد جاء إلى أورشليم ليسجد.
وكان راجعاً وجالساً على مركبته وهو يقرأ النبي إشعياء. فقال الروح لفيلبس تقدّم ورافق هذه المركبة. فبادر إليه فيلبس وسمعه يقرأ النبي إشعياء. فقال ألعلك تفهم ما أنت تقرأ. فقال كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد. وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه. وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه فكان هذا. مثل شاة سيق إلى الذبح ومثل خروفٍ صامتٍ أمام الذي يجزّه هكذا لم يفتح فاه. في تواضعه اُنتزع قضاؤه وجيله من يُخبر به لأن حياته تنتزع عم الأرض. فأجاب الخصي فيلبس وقال أطلب إليك. عن مَنْ يقول النبي هذا. عن نفسه أم عن واحدٍ آخر.
ففتح فيليس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشره بيسوع” (أعمال الرسل 8: 26-35). هذا الخصي الحبشي كان يقرأ في نبوة إشعياء 53. ونقرأ أن فيلبس ابتدأ من هذا الكتاب، أي ابتدأ من سفر إشعياء، ليُبشره بالرب يسوع، ليثبت له أن الرب يسوع الذي جاء وتألم وقام هو المسيا الذي يتحدث عنه إشعياء النبي. بالطبع، تأثر الخصي الحبشي بالطريقة التي يتألم ويموت بها المسيح، التي جاءت مطابقة تماماً لما جاء مع وصف إشعياء… فآمن في الحال.
ج – أيضاً بولس الرسول استعمل نفس الطريقة في محاوراته مع اليهود، يخبرنا سفر أعمال الرسل عن هذا قائلاً ” فاجتازا في أمفيبوليس وأبولونية، وأتيا إلى تسالونيكي، حيث كان مجمع اليهود. فدخل بولس إليهم حسب عادته، وكان يحاجهم ثلاثة سبوت من الكتب، موضحا ومبينا أنه كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات، وأن: هذا هو المسيح يسوع الذي أنا أنادي لكم به.” (أعمال الرسل 17: 1-3).
هنا نرى بولس الرسول يستخدم كتبهم المقدسة التي حفظوها عن ظهر قلب لتدعيم كرازته… فهو يسرد لهم النبوات التي تحدث بصراحة ووضوح عن شخصية المسيا بكافة تفاصيلها. وأن هذه المواصفات تنطبق تماماً على السيد المسيح.
د – أيضاً في محاورات بولس الرسول مع اليهود في روما، نقرأ في سفر أعمال الرسل، الآتي: “فعينوا له يوماً فجاء إليه كثيرون إلى المنزل فطفق يشرح لهم شاهداً بملكوت الله ومقنعاً إياهم من ناموس موسى والأنبياء بأمر يسوع من الصباح إلى المساء” (أعمال الرسل 28: 23). في هذه المّرة يستشهد بولس الرسول بناموس موسى والأنبياء، وقد أغفل الكتب الأخرى.
وقد اندهشت في بادئ الأمر من ذلك، لكن بعد البحث في كتب تعاليم الرابيين الكبار، وجدت أن بعض الفئات اليهودية – ومنهم يهود روما- يؤمنون أن كل الأسفار المقدسة موحى بها من الله ولكن ثلاثة مستويات للوحي: الناموس، وقد أُعطي السلطان الأعظم ككلمات الله المباشرة المحددة التي أُمليت على موسى مباشرة – كتب الأنبياء ولها سلطان أقل، كونها رسائل من الله تكلّم بها فم البشر – الكتب الأخرى، وتعتبر أقلهم سلطاناً، نظراً لأنها تعتبر كلمات من فكر الإنسان بإرشاد أو بوحي من الله…
أي أن بعض الفئات تعطى أهمية عليا للناموس والأنبياء، ولكن لا تعطي نفس الأهمية للكتب الأخرى، رغم أنها وحي من الله. من أجل هذا اضطر بولس الرسول أن يحصر نفسه في الاستشهاد بالناموس والأنبياء فقط، كي لا يكون لهم حُجة.
رابعاً: انحراف الفكر اليهودي في فهم النبوات
بعد أن سقطت البشرية في قبضة ابليس، بخطية العصيان، تسلّط الموت على الإنسان “كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رومية 5: 12)، أعلن الله أن نسل المرأة – المسيا- يسحق رأس الحية. الوعد الذي أصبح فيما بعد وعلى مرّ العصور الطويلة، موضوع الرجاء والأمل…
كان هو المشعل المنير الذي يُضيء أمام الآباء ورجال الأيمان. والرب في أمانته غير المتناهية، كان يذكر شعبه بهذا الوعد مراراً كثيرة وفي ظروف مختلفة… ظل هذا الفكر بخصوص مسيا يخلص شعبه من خطاياهم ويحررهم من عبودية إبليس والموت، هو الفكر الوحيد والسائد بين شعب إسرائيل وقادته الدينيين.
لكن الظروف التي اجتاز فيها الشعب قديماً منذ السبي وحتى خراب أورشليم، وما بعدها، بدأت تدخل أفكاراً جديدة على الشعب وقيادته بخصوص هذا المسيا. وشجعت كثيراً على تفسير النبوات الخاصة بالمسيا، بطريقة خاطئة وإلباسها ثوباً سياسياً وطنياً. فقد كان شعب الله يعيش في وسط معادٍ له، وكم من المرات تعرّض لهجمات عنيفة وحروب شعواء.
في هذه الظروف العصيبة المؤلمة، لم يترك الله شعبه ليد الأعداء، بل كان يُرسل لهم قائداً ل ي يذكرهم أولاً وقبل كل شيء بالعهد الذي قطعه معهم الله “وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (تكوين 12: 3)- ثانياً، القائد المُرسل يكون أداة في يد الله لخلاص شعبه من أعدائهم. من هنا نشأ الاصطلاح “مُخلّص” أو “مسيح”.
فكلمة “مسيّا” تتُنطق بالعبرية “ها مشياح Ha- Mashiah המשיח”، أما في الأرامية فتنطق “مشيحا Meshiha משיחא”, تعني “الممسوح”. ويُستخدم الاسم بدون أداة التعريف، كإسم عَلَم “مشيا”، وذلك في التلمود البابلي وفي الأدب الميدراشي. وقد ورد الاسم باللغة اليونانية “مسياس” في العهد الجديد، مُستقى من الشكل الآرامي، لأن الآرامية كانت هي لغة التخاطب في فلسطين في زمن الرب يسوع. وكثيراً ما جاء الاسم “مسيا” مرتبطاً ب “يهوه” أي مسيح الله.
وفي العصور التالية للسبي، عندما شغل الكاهن الأعظم المكانة التي كان يحتلها الملك سابقاً، صار يُشار إليه ب “هاكوهين – هامسيحا” أي ” الكاهن الممسوح من الله. ومسح الملك والكاهن أبرزه كمختار الله لكي يمثل حكم الله على إسرائيل، ولكي يشهد لمجد الله أمام الأمم. وبذلك، صار مقدساً إلى أبعد حد، ولا تنتهك قداسته وحرمته.
في فترة السبي وبسببه أيضاً، بدأ بعض الأنبياء بالتحدث من جديد عن المسيا المخلّص… الذي يختلف عن كل المخلصين السابقين الذين عرفهم شعب إسرائيل. وهناك في السبي بدأ الشعب يحلم بمخلص وبملك يخلصهم من سبيهم، ويحررهم من عبوديتهم ويخرجهم من بابل. ثبت في فكر اليهود من فهمهم لبعض النبوات، أن الله سيفتقد شعبه بإرسال مخلّص لهم….
البعض من المسبيين شطوا بعيداً عن روح النبوات المقدسة، وظنوه مخلصاً سياسياً لكي يخلصهم من السبي والاستعباد، في حين أن الأنبياء الذين تكلموا عن هذا المخلص وصفوه بأنه سيكون رئيساً يختلف اختلافاً كلياً وجزئياً عن كل الرؤساء والملوك الذين سبقوه، وفي عهد هذا الملك الآتي سيكون السلام سائداً بطريقة لم يسبق لها نظير…
سيجلس على كرسي داود أبيه إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية. قليلاً قليلاً، أصبح الفكر السائد بين القادة الروحيين وشعب إسرائيل، أن المسيا الملك، لابد أن يكون من نسل داود وفي فترة ملكه يكون إسرائيل سيداً للعالم.
أما السبب الثاني لانحراف الفكر اليهودي في فهم النبوات، يمكننا تلخيصه في الآتي: استخدم الله لاستعلان ذاته لشعب إسرائيل كأمة -الكاهن، الله يختاره ويمسحه، ليشعر الشعب به من خلال تشريعات وطقوس دينية – النبي، الله يعطيه نبوات تختص بمستقبل الشعب من جهة علاقته الدائمة بالله. وهنا تبدو الخطة الإلهية واضحة في شكلها من خلال نظام ملوكية ونظام كهنوت، ونظام نبوة… ولكنها في جوهرها عضوية حيّة.
فالملك والكاهن والنبي ليسوا ممثلين لثلاثة أنظمة، بل هم في الواقع ثلاثة أعضاء في جسم حيّ واحد، يحركه الله ويدبره نحو قصد معين وغاية هامة بالنسبة للعالم كله، وهو استعلان الله نفسه من خلال شخص المسيا، الذي يجمع في ذاته: الملك والكاهن والنبي.
كان شعب إسرائيل يعتبره الله بمثابة ابنه البكر، بصفته أول شعب من بين شعوب الأرض أقام معه عهداً وأحبه… لكن ليس في شخص ملوكه أو كهنته أو أنبيائه أو شعبه بحد ذاتهم، بل في شخص المسيا، الذي سيحقق مفهوم الملوكية في معنى الحكم بالحق الإلهي – وسيحقق الكهنوت في معناه الفدائي الخلاصي – وسيحقق النبوة في معنى استعلان الله علانية وليس بالرمز… فأصبحت هناك صلة سرية بين إسرائيل كشعب وبين المسيا، بحيث أمكن أن يُنسب ما لإسرائيل، للمسيا.
هذا التداخل الشديد بين شخصية المسيا وشخصية شعب إسرائيل، كانت تعتمد في أعماقها على شخصية المسيا وتتجه في تكميلها نحوه كغاية نهائية، بصفته الملك الأبدي ورئيس الكهنة الأعظم والنبي الناطق بفم نفسه. فللأسف الشديد، قد انتحى العلماء والرابيون المتأخرون قبل أيام المسيح مباشرة إلى تفسيرات عقيمة وخلطوا بين ما قيل عن شخصية إسرائيل كشعب وشخصية المسيا كمخلّص.
وهكذا تشوهت النبوات الخاصة بالمسيح في أذهان القادة الدينيين، فأتلفت حكمهم على الحقيقة وأعمت بصائرهم عن رؤية النور عندما أشرق، هذا بالإضافة إلى اضمحلال الحساسية الروحانية لدى الرؤساء بسبب انشغالهم وراء شكليات الناموس. وتراءى لهم أن المسيح لا يحمل الصفات الواجبة للمسيا، بحسب ما رسموها له في أنفسهم لتناسب ميولهم وأهدافهم المنحرفة.
ومما هو جدير بالذكر …. أن بعضاً من الرابيين وعلماء اليهود، أعادوا دراستهم لنبوات الأنبياء عن المسيا، ومدى تطابقها على شخص الرب يسوع المسيح.. فخرجوا بنتيجة لا تقبل الشك، بأن يسوع الذي وُلد في بيت لحم وصُلب على الصليب ومات وقام، هو هو المسيا. فآمنوا به وقبلوه في حياتهم. وهناك عشرات بل مئات من الكتب تركوها لنا، تُعتبر من أعظم كنوز الأرض.