من هو المصلوب : يسوع أم سمعان القيرواني؟
من هو المصلوب : يسوع أم سمعان القيرواني؟
رغم مرور حوالي ألفي عام على حادثة صلب المسيح مازالت هذه القصة محور تساؤلات كثيرة. ولأن حادثة صلب المسيح حادثة تاريخية مؤكدة فقد شكك البعض في شخص المصلوب. وقد ناقشنا في مقالة سابقة القول بصلب يهوذا بدلاً عن المسيح، وفي هذه المقالة نتناول ادعاء قالت به هرطقة انتشرت في القرن الأول الميلادي
رغم مرور حوالي ألفي عام على حادثة صلب المسيح مازالت هذه القصة محور تساؤلات كثيرة. ولأن حادثة صلب المسيح حا دثة تاريخية مؤكدة فقد شكك البعض في شخص المصلوب. وقد ناقشنا في مقالة سابقة القول بصلب يهوذا بدلاً عن المسيح، وفي هذه المقالة نتناول ادعاء قالت به هرطقة انتشرت في القرن الأول الميلادي. وهذه الطائفة تدعى “الغنوسية” والتي ادعت أن الذي صلب هو سمعان القيرواني الذي سخر ليحمل الصليب.فمن هم الغنوسيين؟ ومن هو سمعان القيرواني؟ وهل حقاً صلب بدلاً من المسيح؟
أولاً: الغنوسيون: طائفة نشأت في القرن الأول الميلادي واستمرت حتى القرن الخامس، وقد مزجت بين المسيحية واليهودية والفلسفة الوثنية. وبخصوص صلب المسيح كانت لهم آراء متناقضة، فهم كانوا يؤمنون بأن المادة شر ولذلك لا يمكن أن يأخذ الله جسداً مادياً وبالتالي اعتقدوا أن جسد المسيح لم يكن جسداً حقيقاً بل جسداً أثيرياً، ولذلك قالوا إن المسيح لم يصلب بل خيل لهم وقالوا إن اللاهوت حل على المسيح عند المعمودية وفارقه قبل الصليب مباشرة، لذلك فالذي صلب هو يسوع الإنسان فقط. وقالوا أيضاً بصلب سمعان القيرواني الذي سخر لحمل الصليب عندما تعب المسيح من حمله وهو في طريقه إلى مكان الصلب. وقد عرفت أقوالهم وادعاءاتهم هذه من خلال المخطوطات التي تتعلق بهم والتي تم اكتشافها في نجح حمادي بمحافظة قنا
.ثانياً: سمعان القيرواني:بالرجوع إلى سفر أعمال الرسل نرى أن اليهودية قد انتشرت في شمال أفريقيا التي كانت خاضعة للرومان ونرى أناساً منهم في أروشليم وكانوا يهوداً رجالاً أتقياء من كل أمة تحت السماء ساكنين في أروشليم… ونواحي ليبية التي نحو القيروان (اعمال الرسل 2: 5 و 10) وكان لهم مجمع في أروشليم”اعمال الرسل 6 : 9″ وبعضهم آمن بالمسيح وكانوا من أوائل المبشرين بالمسيحية “اعمال الرسل 11: 20، 13: 16” ومن هؤلاء اليهود كان سمعان القيرواني، ويذكر البشير مرقس أن سمعان كان والد اسكندروس وروفس “مرقس 15: 21” اللذين يبدو أنهما شخصين معروفين في دائرة المسيحية.ويقال إن سمعان قد آمن بالمسيح بعد حادثة الصلب وأصبحت عائلته معروفة بالكنيسة “روميه 16: 3”
من أين أتى سمعان؟ إنه من القيروان بليبيا وهذه المدينة قد أنشأها اليونان سنة 631 ق.م وقد تسمت بعدة أسماء مترادفة مثل قيرين أو سيرين أو قورينا، وقد دعيت بهذا الاسم نسبة إلى العذراء الأسطورية “الحورية قورينا” في الأدب الإغريقي القديم. وهي بالطبع ليست مدينة القيروان الموجودة الآن بتونس والتي أنشأها عقبة بن نافع في القرن الأول الهجري.
ثانياً: هل صلب سمعان بدلاً من المسيح؟جاء في إنجيل البشير لوقا: “ولما مضوا به (أي المسيح) أمسكوا سمعان رجلاً قيروانياً كان آتياً من الحقل ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع، ولما مضوا إلى الموضع الذي يدعى جمجمة صلبوه هناك “لوقا 23: 26 و 33”.يسوع يحمل الصليب، وعندما رأى الجنود تعبه الشديد سخروا سمعان ليحمل الصليب إلى موضع الصلب. ولسنا نعرف السبب في اختياره فربما رأوه أجنبياً أو ربما رأوا على وجهه علامات الشفقة على يسوع. ومهما كان السبب فلو لم يكن هو لكان أي شخص آخر.
وقد أعجبتني الكلمات التي كتبها الأديب جبران خليل جبران على لسان سمعان القيرواني: “كنت في طريقي إلى الحقول حين رأيته يحمل صليبه وفى أثره جماهير غفيرة، عندها مشيت أنا الآخر إلى جانبه، وكم من مرة توقف إعياء بما يحمل أذ كان مجهد الجسم، وتقدم مني جندي روماني وقال تعال إنك لقوي متين البنية احمل عن هذا الرجل الصليب. وما إن سمعت ههه الكلمات حتى امتلأ قلبي زهواً وكنت شكوراً وحملت عنه صليبه وكان ثقيلاً إذ كان من خشب الجوز وأشرب أمطار الشتاء ونظر إلى يسوع وعرق جبينه ينحدر على لحيته ثم نظر إلى ثانية وقال أتشرب أنت الآخر هذا القدح؟
لترشفن معي حقاً من حافته إلى الأبد. وما إن قال هذا حتى وضع يده على كتفي الخالية ومشينا معاً نحو تل الجلجثة وما أحسست إذ ذاك بثقل الصليب وإنما أحسست بيده وكانت أشبه بجناح الطائر فوق كتفي، ثم أدركنا قمة الجبل حيث كانوا يزمعون أن يصلبوه. عندها أحسست بثقل الصليب وما فاه بكلمة حينما أنفذوا المسامير في يديه وقدميه كما لم تصدر عنه همسة وما ارتجفت أطرافه تحت طرق المطرقة” (يسوع ابن الإنسان، جبران خليل جبران، تعريب د. ثروت عكاشة، ص 216).
ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يصلب سمعان بدلاً عن المسيح لما يلي:
1. بعد ساعات طويلة من المعاناة النفسية والجسدية وعملية الجلد القاتلة حمل المسيح صليبه إلى موضع تنفيذ عملية الصلب وكان الصلب يتم عادة خارج المدن لكي يكون المصلوبون عبرة للجماهير التي تحتشد حوله حيث أن الصلب في الدولة الرومانية كان عقوبة لقطاع الطرق والثوار، لذلك صلب المسيح خارج أروشليم. يقول بلوتارخ – حجة التاريخ القديم: “إن قوانين الرومان كانت تفرض على المحكوم عليه بالصلب أن يحمل صليبه بنفسه إلى موضع الصلب مسوقاً بأربعة حراس غير أن الآلام النفسية والجسدية كانت قد أخذت من المسيح كل مأخذ فأنهكت جسده الرقيق فلما رأوا ضعفه “أمسكوا سمعان رجلاً قيروانياً كان آتياً من الحقل ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع” وهذا الأمر ليس بدعة وليس قاصراً على المسيح
.2. بعد الوصول إلى مكان عملية الصلب أنزل سمعان الخشبة التي حملها وتم صلب المسيح، وليس من السهل بل من المستحيل أن يُصلب سمعان بدلاً من المسيح، فهناك الشهود وهناك الجنود. وحتى لو قلنا بإلقاء شبه المسيح على سمعان فالخلط بينهما مستحيل حيث أن المسيح يحمل على ظهره آثار الجلد وعلى رأسه آثار إكليل الشوك
.3. إن الأحداث التي تلت تؤكد أن المصلوب هو المسيح وذلك من خلال أقوال المصلوب على الصليب ومن خلال شهود العيان عند الصليب
.4. إن قيامة المسيح من الموت وظهوراته المتكررة ورؤية التلاميذ لآثار عملية الصلب والجنب المطعون هي البرهان الأكيد على حقيقة أن المصلوب هو المسيح وليس أي شخص آخر
.5. إذا كانت هذه أقوال بدعة وهرطقة قد اندثرت منذ خمسة عشر قرناً فلماذا ينكر البعض حقيقة صلب المسيح؟ نجد الإجابة فيما كتبه د. محمد كامل حسين: “التعمق في بحث الحقائق الابدية يدلنا على مواضع اتفاق بين الأديان يخفيها اختلاف التعبير ويدلنا كذلك على مواضع اختلاف أعمق مما يبدو لأول وهلة من ذلك الاختلاف بين المسلمين والمسيحيين في أمر المسيح، هل صلب حقاً أو شبه للناس أنهم قتلوه، والخلاف واضح ولكنه كان خلافاً على حدث تاريحي لأن الأمر والناس يختلفون في أمر الأحداث دون أن يثير فيهم هذا الاختلاف شقاقاً كبيراً.
وحقيقة الخلاف أن المسيحيين يؤمنون بالتكفير والفداء وأصل ذلك أن يستشهد برئ طاهر فيحمل عن الناس خطاياهم وهذا هو لب العقيدة المسيحية ومغزاها العميق حين يتحدثون عن الصلب، والمسلمون لا يروقهم الفداء ولا يؤمنون بالتكفير عن الذنوب بما يقع على غير المذنب، وعندنا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا نستطيع أن نتطهر بما لا نؤمن به. هذا هو المغزى العميق لما نشعر به من إنكار الصلب (الوادي المقدس د. محمد كامل حسين ص 138)
إن عقيدتنا في موت المسيح الكفاري نؤمن بها لأن وحي الله قد أعلنها والأحداث التاريخية تشهد لها واختبارنا المسيحي الإيماني يؤيدها، فالملايين على مدى عشرين قرناً اختبروا وتأكدوا من غفران خطاياهم نتيجة لإيمانهم بموت المسيح الفدائي على الصليب، وهذه دعوة لكل شخص لكي يأتي ويعترف بخطاياه مؤمناً بموت المسيح البدلي عنه فينال الغفران والحياة الأبدية.
د/ فريز صموئيل
جريدة الطريق والحق
ابريل 2008 عدد 31