لماذا لم يتجسد الله بهيئة تليق به؟
لماذا لم يتجسد الله بهيئة تليق به؟
لماذا لم يتجسد الله بهيئة تليق به؟
أما إساءة بعض الناس إلى المسيح بسبب وجوده في هيئة الوداعة والتواضع التي ظهر بها، فلا يقوم دليلاً على أنه كان من الواجب أن يظهر بمظهر القوة والجبروت، لأن القوة وإن أخضعت الناس حسب الظاهر ردحاً من الزمن، لا تستطيع أن تصلح اعوجاجهم أو تهذّب أخلاقهم. والدليل على ذلك أنه عندما يضعف تأثيرها عليهم، يعودون إلى الحالة التي كانوا عليها من قبل
السؤال : إن كان ولا بد من تجسُّد الله، فلماذا لم يظهر بالهيئة التي تليق بمجده وبهائه، حتى تهابه الناس وتخضع له؟ .
الرد: (أ) إن غرض الله من التجسد، لم يكن إظهار عظمته أو إثارة إعجاب الناس به (لأن تصرّفاً مثل هذا لا يصدر إلا من الناقص، الراغب في تعظيم الناس له)، بل هو جمعهم من حوله ليمتِّعهم بحبه وعطفه، ويخلِّصهم من خطاياهم وضعفاتهم، حتى تكون لهم معه حياة روحية سعيدة. وبما أنه لو كان قد ظهر بهيئة تتناسب مع مجده الأزلي لارْتعب الناس منه، وما استطاع واحد منهم أن يدنو إليه، كان البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، وهي الهيئة البشرية، لتتحقق أغراضه هذه. كما أنه لو كان قد تجنّب الظهور بمجده الخاص الذي يرعب الناس، وظهر فقط بإحدى مظاهر العظمة الأرضية، لحُرم متوسطو الحال والفقراء من التمتع به، وهم السواد الأعظم من البشر، وهم في جملتهم أكثر من الأغنياء استعداداً لمعرفته والسير في سبيله. لذلك كان من البديهي أيضاً ألا يظهر بأي مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية، بل بالمظهر العادي الذي ظهر به فعلاً، لأنه هو الذي يفسح المجال أمام جميع الناس للاقتراب إليه والاتصال به والإفادة منه.
ويبدو لي أن المسلمين يعتقدون في الحقيقة المحمدية ما نعتقده نحن في أقنوم الابن من حيث تجسّده. جاء في (كتاب الدين والشهادة ص 187) لو أن الحقيقة المحمدية قد صاغها الله على شكل ملائكي، أو قد لبست ثوباً ملائكياً، ثم كان داعياً إلى الله، لكان للناس أن يقولوا إنه مَلَك، إنه من غير جنسنا، ومن غير طينتنا وطبيعتنا، وهكذا يرون أعماله وصفاته وكمالاته، وينصرفون عن كل ذلك بداعي المخالفة .
أما إساءة بعض الناس إلى المسيح بسبب وجوده في هيئة الوداعة والتواضع التي ظهر بها، فلا يقوم دليلاً على أنه كان من الواجب أن يظهر بمظهر القوة والجبروت، لأن القوة وإن أخضعت الناس حسب الظاهر ردحاً من الزمن، لا تستطيع أن تصلح اعوجاجهم أو تهذّب أخلاقهم. والدليل على ذلك أنه عندما يضعف تأثيرها عليهم، يعودون إلى الحالة التي كانوا عليها من قبل، فتثور ثورتهم ويطلقون العنان لشهوتهم، كما نعلم بالاختبار.
أما المحبة فهي الوسيلة الوحيدة لإصلاح النفس وتهذيبها. ومتى صلحت النفس وتهذّبت. أطاعت الله وسلكت في سبيله من تلقاء ذاتها. ولذلك إذا رجعنا إلى تاريخ المسيح وجدنا أنه بسبب احتماله إساءة المسيئين إليه ومعاملته إياهم بالمحبة والعطف، قد شعروا بكماله ونقصهم، ولذلك ثارت ضمائرهم ضدهم، فقرع بعضهم على صدره متألماً نادماً، وبكى البعض الآخر بكاءً مراً. أما من غلبه اليأس على أمره، عندما تبيَّنت له شناعة خطيئته إزاء محبة المسيح الكاملة له، فقد انطلق وخنق نفسه شاهداً بنفسه عليها، أنها لا تستحق الحياة بعد أن أساءت إلى من غمرها بالعطف والإحسان (متى 27: 5).
(ب) لا ننكر أنه لو كان المسيح قد ظهر بمجده الخاص لكان الناس قد قدَّموا له السجود والإكرام، واعترفوا به رباً وإلهاً. لكن بما أنه لا يريد إكراماً أو سجوداً منهم، بقدر ما يريد إنقاذهم من خطاياهم وضعفاتهم، وإعطائهم حياة روحية أبدية، كان من البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، ليستطيعوا الاتصال به والحصول على هذه الحياة منه.
لقد كان المسيح بعيداً كل البعد عن الاهتمام بمظاهر الحفاوة التي يميل إليها الناس، كما أن إقناعه إياهم بلاهوته مع انحراف قلوبهم عنه لا يُرضي كماله ولا يعود عليهم بفائدة ما. فما أكثر الذين يؤمنون بالله في كل دين من الأديان، ومع ذلك يحيون حياة تتعارض مع كمال الله، الأمر الذي يجعلهم في نظره اكثر شراً واسوأ حالاً من الوثنيين الذين لا يعرفون شيئاً عنه. وإذا أضفنا إلى ذلك أن معظم الذين شاهدوا بأعينهم عظمة الله وتعهدوا بالطاعة الكاملة له (كاليهود وغيرهم من الشعوب القديمة) ونقضوا العهود التي قطعوها على أنفسهم، وعادوا إلى شرورهم وآثامهم بعد مرور ساعات قليلة على هذه العهود (اقرأ مثلا خروج 32: 4) اتضح لنا أن إيمان الناس بالله إيماناً حقيقياً لا يتوقف على ظهوره لهم بمظهر العظمة، بل على مقدار تأثُّر قلوبهم بنعمته ومحبته. ولذلك كان من البديهي ألا يظهر في تجسُّده بحالة تبهر عقول الناس وتخطف أبصارهم، وترغمهم على الإذعان لحقه وسلطانه، بل أن يظهر بحالة تؤثر على ضمائرهم وقلوبهم، وتجعلهم يميلون للاقتراب إليه والتوافق معه من تلقاء أنفسهم. وهذه هي الحالة التي ظهر بها لهم في تجسده.
ومع ذلك فقد ظهر من خلال حياة المسيح الناسوتية كمال ومجد أدبييْن لا يقلَّان في شيء عن ذاك الذي يُنتظر ظهوره من الله نفسه.
وكان من الطبيعي ألا يختفي كمال الله الأدبي أثناء تجسّده لحظة واحدة، بل أن يظهر بكل وضوح وجلاء لجميع الناس في كل الظروف والأحوال، لأن هذا الكمال هو من خصائص كيانه، بل هو عين خصائصه. ولا يمكن أن يخفي كائن خصائص كيانه. كما أن اختفاء مجده الظاهري عن الناس أثناء تجسّده يرجع إلى رغبته السامية في تقريبهم إليه. ولذلك فإنه بإخفائه هذا المجد عنهم، قد تصرف أيضاً بحسب الكمال الذي يتميز به، لأن من خصائص هذا الكمال العطف على الناس والنزول إلى مستواهم والأخذ بناصرهم، ليستطيعوا الاقتراب منه والتمتّع به.
ومع كل فقد أعلن المسيح مرة شيئاً من مجده الظاهري عندما وجد أن الحاجة تستدعي ذلك. فمثلاً عندما أراد أن يزيد بعض تلاميذه إيماناً به أخذ ثلاثة منهم وصعد بهم إلى جبل عال، وهناك تغيَّرت هيئته قدامهم وضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور (متى 17: 1-2)، فاستطاع أحدهم أن يشهد للناس قائلاً: لأننا لم نتبع خرافات مصنعة… بل قد كنا معاينين عظمته… في الجبل المقدس (2بطرس 1: 16-18).
و استطاع المخلصون من تلاميذه وغير تلاميذه أن يؤمنوا أنه ابن الله أو الله معلناً، فقد قال له نثنائيل: أنت ابن الله (يوحنا 1: 49)، وقالت له مرثا: آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم (يوحنا 11: 27)، وقال له التلاميذ: بالحقيقة أنت ابن الله (متى 14: 33)، وقال له بطرس: آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي (يوحنا 6: 69)، وقال له توما: ربي وإلهي (يوحنا 20: 28). وقال أتباع كهنة اليهود عنه: لم يتكلّم قط إنسان مثل هذاالإنسان (يوحنا 7: 46)، وقال له أحد اللصين اللذين صُلبا معه: أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك (لوقا 23: 42)، وأخيراً قال قائد المئة والجند الذين صلبوا المسيح: حقاً كان هذا ابن الله (متى 27: 54)، وبذلك تحققّت كل مقاصد الله من التجسّد.
عوض سمعان
الله طرق اعلانه عن ذاته