وجود أقنوم الإبن الأزلي – هل يوجد دليل على وجود المسيح أزلياً؟
وجود أقنوم الإبن الأزلي – هل يوجد دليل على وجود المسيح أزلياً؟
في سلسلة من البيانات المتتابعة والهامة جدا، يبلغنا السيد المسيح أمورا جوهرية عن نفسه. لقد حرص كل الحرص على أن يعرفنا أن وجوده لم يبدأ عند ولادته في بلدة بيت لحم، إنما هو «أتى» أو «نزل» من السماء إلى الأرض، وأنه «أرسل من قبل الآب».
في سلسلة من البيانات المتتابعة والهامة جدا، يبلغنا السيد المسيح أمورا جوهرية عن نفسه. لقد حرص كل الحرص على أن يعرفنا أن وجوده لم يبدأ عند ولادته في بلدة بيت لحم، إنما هو «أتى» أو «نزل» من السماء إلى الأرض، وأنه «أرسل من قبل الآب». فمن الواضح أنه كان موجودا قبل ذلك. تلك البيانات التي نحن بصددها لا تمثل مجرد شهادة فريدة لمهمته الإلهية على الأرض، بل أنها تشهد أيضا لأصله السماوي.
إنها تقدم المسيح لنا ليس فقط كأعظم بني البشر، بل كمن سبق وجوده تجسده. إنها إشارات أزليته وسرمديته واضحة، وتؤكد أنه لم يكن لوجوده بداية ولن تكون له نهاية. إنه هو البداية والنهاية. وقد نبعث تصريحات السيد المسيح هذه عن وعيه وإدراكه لوجوده الأزلي. وهكذا فإن المسيح يضع نفسه في مكانة أعلى وأهم من مكانة أصله البشري والأرضي. وهذا ما يفسر لنا كلام المسيح للبشر عن الأمور الروحية السامية، طالبا إليهم أن يكيفوا حياتهم بمقتضى تعاليمه الهامة. وهذه بعض النصوص الكتابية التي تدعم وجهة نظرنا:
- «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل».
- «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته». (متى 5: 17 و10: 34 – 36). ليس المقصود هنا تسبيب الخصام، بل أن حياة الإيمان الجديدة تتسبب في عداء ومعارضة لأصحابها، لدرجة أن ينبذهم أهلهم ومجتمعهم غير المؤمن.
- «لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضا، لأني لهٰذا خرجت».
- «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة».
- «لأن ابن الإنسان أيضا لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين». (مرقس 1: 38 و2: 17 و10: 45).
- «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك» (لوقا 19: 10).
ومن بشارة يوحنا النصوص الكتابية التالية:
- «ليس أحدٌ صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء».
- «الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضي، ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد،… لأن الذي أرسله اللٰه يتكلم بكلام اللٰه».
- «فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا…».
- «لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب… لأني لست وحدي، بل أنا والآب الذي أرسلني».
- «أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هٰذا العالم، أما أنا فلست من هٰذا العالم».
- «خرجت من عند الآب، وقد أتيت إلى العالم، وأيضا أترك العالم وأذهب إلى الآب» (3: 13، 3: 31 – 34، 6: 62، 8: 14 و16، 8: 23، 16: 28).
ولم يصرح المسيح فقط بوجوده قبل مجيئه إلى العالم، بل أيضا أنه كان موجودا منذ الأزل. هذا ما نراه في النصوص الإنجيلية التالية كما رواها القديس يوحنا:
- «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائنٌ».
- «والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم».
- «لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (8: 58، 17: 5، 17: 24).
هنا نجد دلالة قاطعة أن علة وجوده هي من ذاته وليست من مصدر خارجي. هذا يذكرنا بما ورد في التوراة في سفر الخروج 3: 14 «أهيه الذي أهيه» وهو تعبير يشير إلى عظمة الله وجلاله، وليس فقط إلى وجوده. «أهيه» أو «يهوه» هو الاسم العبري لله، والمترجم في العربية ب «الرب». والترجمة الحرفية للتعبير «أهيه الذي أهيه» هي: «الكائن الذي هو كائن». وهو الاسم الذي يشدد على كون الله هو وحده الكائن الأزلي، بمطلق ما في ذلك من تعبير.
فهو وحده الذي يتصرف بحرية واستقلالية مطلقتين. هذا ما أراد الله أن يعرف نفسه به لعبده موسى. ويسوع هنا ينسب لنفسه ذات الاسم «الكائن الذي هو كائن» أي الله الكائن بذاته منذ الأزل. ونجد نفس المعاني فيما ينسبه سفر الرؤيا للمسيح حيث يتكلم يوحنا الرائي على لسان يسوع فيقول: «أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر» (سفر الرؤيا 22: 13).
لم يكشف يسوع إذن عن وجوده السابق للتجسد فحسب، بل أيضا كشف عن أن ذلك الوجود هو أزلي. هذا يطابق تماما بيانات الآخرين عنه في الإنجيل (العهد الجديد)، فيوحنا المعمدان قال عن المسيح: «يأتي بعدي، رجلٌ صار قدامي، لأنه كان قبلي» (يوحنا 1: 30). بالطبع لم يكن المقصود هنا أن يسوع ولد قبل يوحنا المعمدان، لأن يوحنا كان قد ولد قبل يسوع ببضعة أشهر، ولكن المقصود بالتعبير «صار قدامي» الإشارة إلى رتبة المسيح الأسمى من رتبة يوحنا.
فالمسيح هو الكلمة ذو الكيان السابق، المعادل للآب من جهة كل شيء، بما في ذلك عملية الخلق. يسوع المسيح هو الأساس الذي «صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدا كما لوحيد من الآب، مملوءا نعمة وحق» (يوحنا 1: 14).
أما بولس الرسول فيعطينا ما يمثل قمة الحق الإلهي المكشوف للبشر فيقول: «صادقةٌ هي الكلمة ومستحقةٌ كل قبول: أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة» (1 تيموثاوس 1: 15)، ويكتب أيضا إلى المؤمنين في كولوسي: «فيه (أي في المسيح) خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواءٌ كان عروشا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل» (كولوسي 1: 16، 17) وكتب بولس أيضا عن المسيح إلى تلميذه تيموثاوس قائلا: «اللٰه ظهر في الجسد» (1 تيموثاوس 3: 16).
أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيقول: «يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد» (عبرانيين 13: 8)، فالمسيح بقي «هو هو» دون تغيير، مع كل تغيير طرأ على غيره. «هو هو» في هذا الجيل الحاضر كما في الماضي القريب أو البعيد. «هو هو» في المستقبل أيضا. وفي هذا المسيح الثابت، الذي لا يعتريه تغيير ولا ظل دوران، يجد المؤمن سنده وملجأه الأبدي الأكيد.
ولا تقتصر هذه البيانات على كتابات العهد الجديد (الإنجيل). فهناك نبؤات كتبها أنبياء العهد القديم بخصوص المسيح المنتظر والتي سبقت مجيئه بمئات السنين، ولم تتحدث عن مجرد ولادته المتوقعة كإنسان كامل، بل أنها أيضا أكدت حقيقة وجوده قبل مجيئه إلى الأرض، فأظهرت أن وجوده السابق يرجع إلى الأزل وقبل أن يوجد الزمن نفسه. هذا ما وضحه النبي ميخا الذي كتب سفره حوالي سبعمائة عام قبل مجيء المسيح.
ففي معرض نبوته عن مكان مولد المسيح يقول: «أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرةٌ أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 5: 2). والنبي أشعياء الذي عاش في نفس الفترة التي عاش فيها النبي ميخا، وصف المسيح، بروح النبوة فقال إنه يكون «عجيبا، مشيرا، إلها قديرا، أبا أبديا، رئيس السلام» (إشعياء 9: 6).
يبرز يسوع المسيح عبر كل التاريخ البشري كالمنتظر مجيئه قبل مئات السنين. لم تكن هناك نبؤات ولا توقعات بمجيء غيره من الشخصيات التاريخية لأنه لم يكن كالإسكندر الكبير أو نابليون أو غيرهما من القادة الذين لم ينتظرهم أحد في أوقات وأمكنة ظهورهم. وحتى قبل وجود الأنبياء أنفسهم قطع الله الوعد بمجيئه، فبمجرد أن وقع أبوانا الأولان آدم وحواء في خطية العصيان، وكسرا وصية الله، جاء الوعد بقدوم المخلص، فقد أخبر الله إبليس المتمثل بالحية الخادعة بأن نسل حواء «هو يسحق رأسك» (تكوين 3: 15).
وهذا ما تحقق في عمل المسيح الكفاري وانتصاره التاريخي الساحق على إبليس. ولكن على مر الزمن توالت المواعيد والبيانات على فم أنبياء الله بمجيء المسيا والمخلص المنتظر، حتى أنه في عصر ولادة المسيح من مريم العذراء ومجيئه إلى العالم كان هناك شعور وتوقع عام بقرب مجيئه، وكان أسلوب وموضوع ولادته واضحين لمنتظري تحقيق مواعيد الله، فقد وصف في الأسفار المقدسة كمن «نزل» من السماء إلى الأرض.
وكمن شارك الآب في مجده منذ الأزل، لا بل وكمن «خرج من عند الآب» (يوحنا 16: 28). أي كمن هو في أوثق وأهم المعاني، واحد مع الله. كلماته ذاتها لا تترك مجالا للشك في أنه يعتبر نفسه زائرا للأرض من عالم أسمى، وأنه جاء في مهمة سماوية خاصة على الأرض لخلاص البشر وفدائهم.
قال أحد كبار اللاهوتيين: «في دراستنا ليسوع المسيح، من المهم جدا أن نتفهم حياته على ضوء وجوده السابق لقدومه إلى عالم البشر، فتجسده لم يكن مجرد ولادة رجل عظيم، لأن تجسد المسيح يعني دخول الله إلى حيز ومحيط الوجود البشريين. وهكذا نكون على إدراك مستمر أنه في يسوع المسيح نلتقي وجها لوجه مع الإله المتجسد. ومن جهة أخرى فإن إدراكنا لهذا الأمر يولد فينا تقديرا لائقا بالخدمة التي جاء للقيام بها من أجلنا. من باب المستحيلات أن يكون مفهومنا للمسيح يتفق مع عظمة ما قام به، ما لم ندرك أن ابن الإنسان قد جاء لا ليخدم بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين» (متى 20: 28).
من كتاب: هل تجسد الله؟ بقلم مجموعة من خدام الرب