الكنيسة مسؤولة عن مقدار كبير من الظلم
الكنيسة مسؤولة عن مقدار كبير من الظلم
الكنيسة مسؤولة عن مقدار كبير من الظلم
قالت هيلين (Helen) موكدة، وهي طالبة حقوق: “على ان اشك في أي دين يضم كثير من المتعصبين والمرائين. هناك كثيرون ليسوا متدينين ابدا وهم الطف- بل ايضا أفضل اخلاقيا- من كثيرين من المسيحيين الذين اعرفهم”.
وردت جيسيكا (Jessica)، وهي طالبة حقوق اخرى: “للكنيسة تاريخ حافل بدعم الظلم وتقويض الحضارة. فان كانت المسيحية هي الدين الصحيح، فكيف يمكن ان يحصل هذا؟”.
كتب مارك للا، وهو استاذ بجامعة شيكاغو، مقالة نشرتها مجلة نيويورك تايمز (new York times magazine)، وقد وصف فيها اختباره بشأن “الولادة الثانية” في سن المراهقة. وفي اثناء دراسته في الجامعة، “رجع عن اهتدائه” وتخلى عن ايمانه المسيحي. فكيف حدث ذلك؟ بعد انتقاله من دترويت الى ان أربور، في ميشيغن، دخل جماعة مسيحية مشهورة بحيويتها الروحية، ولكن الامر ال الى معاناة “خيبة ساحقة”. فقد كانت الجماعة استبدادية وهرمية، وكان اعضاؤها “دوغماتيين (متصلبين في آرائهم) … تواقين الى اخضاعي عقائديا”، كما قال. واذ خاب امله من الطريقة الهجومية والاستغلالية اعتقد انهم بها إستخدموا الكتاب المقدس للسيطرة على حياة الناس، قال: “اخترقت ذهني هذه الفكرة: قد يكون الكتاب المقدس على خطا… وكانت تلك هي خطوتي الاولى الى خارج عالم الايمان”[1].
ان كثيرين ممن يقفون موقفا فكريا ضد المسيحية يقومون بذلك على خلفية خيبة امل شخصية من جهة المسيحيين والكنائس. ونحن جميعا نأتي الى المسائل باستعدادات عقلية مؤسسة على اختباراتنا. فان كنت قد تعرفت بكثير من المسيحيين الحكماء واللطفاء والمحبين والمتبصرين؛ وان كنت قد رأيت كنائس ملتزمة نحو العقيدة المستقيمة بورع، ومع ذلك مهتمة باحتياجات الناس وسخية، فإنك ستجد الدعوى العقلانية لمصلحة المسيحية أكثر اقناعا بكثير. اما إذا كان القسط الاكبر في اختبارك مع مسيحيين اسميين (يطلق عليهم الاسم ولكنهم لا يمارسون مقتضياته)؛ او متعصبين يحسبون أنفسهم ابرارا، فعندئذ يجب ان تكون الحجج المؤيدة للمسيحية بالغة القوة حتى تقر بان فيها شيئا من الاقناع فعلا. فان استقرار راي مارك للا على ان الكتاب المقدس “قد يكون…على خطا”، لم يكن فعل تفكير فلسفي خالصا، بل أن مارك للا كان يقاوم الطريقة التي بها حاول شخص معين، باسم المسيحية، ان يمارس السلطة عليه.
لذلك ينبغي لنا ان نتطرق الى سلوك المسيحيين- فرديا وجماعيا- ذاك الذي هدم إقناعية المسيحية في نظر اشخاص كثيرين جدا. فهنالك اولا مسالة العيوب الاخلاقية الفاضحة لدى بعض المسيحيين: ان كانت المسيحية هي الحق، فلماذا يعيش كثيرون جدا من غير المسيحيين حياة أفضل من تلك التي يعيشها المسيحيون؟ وهنالك ثانيا مسالة الحرب والعنف: ان كانت المسيحية هي الحق، فلماذا ايدت الكنيسة القائمة الحرب والظلم والعنف على مر السنين؟ ثم هنالك ثالثا مسالة التعصب: لئن كان لدى المسيحية الكثير مما تقدمه، فلماذا نرغب في ان نكون مع عدد كبير جدا من المتعصبين الخطرين المعتدين بأنفسهم والمعتقدين انهم اقوم خلقيا من الاخرين؟
العيوب الخلقية
لابد لكل معني بحياة الكنيسة ان يكتشف سريعا العيوب الكثيرة في خلق عامة المسيحيين المعترفين بالإيمان مجرد اعتراف شكلي. فالأوساط الكنسية، ان بدت على شيء، تبدو متصفة بالشجار وروح التحزب أكثر من المنظمات التطوعية الاخرى. ثم ان الاخفاقات الاخلاقية لدى بعض القادة المسيحيين امر مشهر ايضا. وربما صح ان وسائل تستسيغ نشرها استساغة بالغة، الا انها لا تختلقها. فان اصحاب الوظائف الكنسية يبدون على الاقل فاسدين مثل القادة في العالم ككل (ان لم يكونوا أفسد منهم).
وهناك في الوقت نفسه كثيرون من غير المتدينين شكليا يعيشون حياة مثالية على الصعيد الاخلاقي. فان كانت المسيحية هي كل ما تدعيه فعلا، افلا ينبغي ان يكون المسيحيون على العموم قوما أفضل بكثير من كل شخص سواهم؟
ان هذا الافتراض مؤسس على اعتقاد غير صحيح بشأن ما تعلمه المسيحية فعليا عن ذاتها. فاللاهوت المسيحي علم دائما ما يعرف بانه نعمة عامة (common grace). اذ يقول يعقوب في رسالته: “كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق… من عند ابي الانوار” (يعقوب 1:17). ومعنى هذا ان كل فعل من افعال الصلاح والحكمة والعدل والجمال، بصرف النظر عمن يؤديه، يمده الله بالتمكين. فان الله يعطي “بسخاء” هبات حكمة وموهبة وجمال ومهارة، أي بطريقة لا نستحقها كليا. وهو يوزعهن في اوساط البشر جميعا، بغض النظر عن المعتقد الديني او العرق او الجنس، او أي اعتبار اخر، لكي يضفي على العالم الغنى المعنوي والالق والبقاء.
كذلك يتحدث اللاهوت المسيحي ايضا بشأن الخلل الخلقي الخطير لدى المسيحيين الحقيقيين. فالكتاب المقدس يتضمن رسالة جوهرية مؤداها اننا نستطيع ان ندخل في علاقة بالله فقط عبر النعمة المحض. ومجهوداتنا الخلقية هي أضعف واسوا دافعا من ان نستحق الخلاص أدنى استحقاق. انما يسوع المسيح، بموته وقيامته، وفر لنا الخلاص، ونحن ننال الخلاص هبة من لدنه. وجميع الكنائس تؤمن بهذا بشكل او باخر. ثم ان النمو في الخلق والتغيير في السلوكيات يجريان في عملية تدريجية بعد ان يصير الشخص مسيحيا حقيقيا. اما الاعتقاد غير الصحيح بان على المرء ان “ينظف” حياته ويرتبها لكي يستحق حضور الله فهو ليس من المسيحية. غير ان هذا يعني ان الكنيسة ستمتلئ بأشخاص غير ناضجين وضعفاء ما يزال عليهم ان يسلكوا طريقا طويلة عاطفيا وخلقيا وروحيا. حتى لقد صدق القول: “الكنيسة مشفى للخاطئين، وليست متحفا للقديسين”.
يمكن أن يعزى الخلق الصالح عموما الى بيئة عائلية واجتماعية تتميز بالمحبة والامان والاستقرار- الى احوال لسنا مسؤولين عنها. ولكن كثيرين كانت لهم بالأحرى خلفية عائلية غير مستقرة، وقدوة سيئة، وتاريخ حافل بالمآسي والاحباط. ونتيجة لذلك، يرزحون تحت احمال ثقيلة من عدم الاستقرار، وفرط الحساسية، والافتقار الى الثقة بالنفس. وقد يخوضون بالنتيجة صراعا مع الغضب غير الخاضع للسيطرة، ومع الخجل، والإدمانات، وغير ذلك من المصائب.
والان تصور إمرأة ذات ماض محطم تصير مسيحية حقيقية وتتحسن اخلاقها تحسنا مهما عما كانت عليه. ومع ذلك، فقد تكون اقل استقرارا وضبطا للنفس من إمرأة جيدة التكيف بحيث لا تشعر باي احتياج خاص الى الانتساب الديني اصلا. وإفترض أنك قابلت كلتها هاتين المرأتين في الاسبوع نفسه. فما لم تعرف نقطة الانطلاق ومسيرة الحياة لدى كلتيهما، يسهل ان تستنتج ان المسيحية غير جديرة كثيرا، وان المسيحيين لا يلتزمون نحو معاييرهم الخاصة السامية. وغالبا ما يكون واقع الحال ان الاشخاص الذين كانت حياتهم أقسى، والذين هم “أدنى على سلم الاخلاق” يرجع ان يدركوا احتياجهم الى الله ويهتدوا الى الايمان بالسيد المسيح. لذلك لا تتوقع ان تكون حياة كثير من المسيحيين قابلة للمقارنة جيدا بحياة المتدينين[2] (مثلما تكون صحة نزلاء المستشفى اسوأ نسبيا من صحة زوار المتاحف).
الدين والعنف
ألا يفضي الدين المتوارث الى العنف؟ يحاول كريستوفر هتشنز (Christopher Hitchens)، مؤلف كتاب “الله ليس عظيما: كيف يسمم الدين كل شيء” (God Is Not Great: How Religion Poisons Everything) ان يبرهن ان الدين يفضي الى العنف. ففي فصله المعنون “الدين قتال”، يورد وقائع شخصية عن العنف الذي يحركه الدين في بلفاست وبيروت وبومباي وبلغراد وبيت لحم وبغداد. وحجته هي ان الدين يتناول الفوارق العرقية والحضارية ويفاقمها. وقد كتب: “لا يختلف الدين عن العنصرية في شيء. فان صنفا منه يلهب الاخر ويثيره. وطالما كان الدين مضاعفا هائلا للارتياب والبغض القبليين…”[3]
إن وجهة نظر هتشنز تبدو معقولة. فالدين “يسامي” الفوارق الحضارية المألوفة بحيث يشعر الافرقاء بأنهم في معركة كونية بين الخير والشر. ولهذا يحاول هتشنز ان يبرهن ان “الدين يسمم كل شيء”. فهكذا قد يبدوا الامر فعلا. اذ ان الامم المسيحية نظمت الامبريالية والعنف والطغيان من خلال محاكم التفتيش وتجارة العبيد في افريقيا. والإمبراطورية اليابانية ذات الاستبداد والعسكرة في اواسط القرن العشرين طلعت من حضارة متأثرة بالبوذية والشنتوية (Shintoism) تأثراً شديدا. وبينما يقال ان الاسلام هو التربة الخصبة للكثير من الارهاب في ايامنا، ماتزال القوات الاسرائيلية ايضا عديمة الرحمة كل حين تقريبا. والقوميون الهندوسيون باسم ديانتهم، يشنون ضربات دامية على الكنائس المسيحية والمساجد الاسلامية جميعا. فهذه البينات كلها تبدو مؤشرة على ان الدين يفاقم الفوارق البشرية الى ان تنفجر حربا وعنفا واضطهادات للأقليات[4].
غير ان هذا الراي ينطوي على اشكالات. فالأنظمة الشيوعية في روسيا والصين وكمبوديا ابان القرن العشرين رفضت كل دين منظم وايمان بالله. وكانت رائدة لهذه كلها الثورة الفرنسية، اذ رفضت الدين المستقيم بذريعة انسانية. وقد كانت هذه المجتمعات كلها عقلانية ولا دينية، غير ان كلا منها أنتج عنفا هائلا ضد اهله دون تأثير الدين. لماذا؟ يبين ألستر مكغراث انه حين تتبدد فكرة الله، فان المجتمع سوف “يسامي” شيئا اخر، مفهوما اخر، في سبيل ان يظهر تفوق اخر على الصعيد الاخلاقي والروحي. فالماركسيون جعلوا الدولة هي الفكرة المطلقة، فيما جعل النازيون العرق والدم اياها. حتى مثالا الحرية والمساواة يمكن ان يستخدما بهذه الطريقة في سبيل إنزال العنف بالمناهضين. وسنة 1793م، لما سيقت مدام رولان (Madame Roland) الى المقصلة بتهم ملفقة، انحنت امام التمثال الذي يشخص الحرية في “ساحة الثورة” وقالت: “ايتها الحرية، اية جرائم ترتكب باسمك!”[5]
ان العنف المرتكب باسم المسيحية هو حقيقة رهيبة، ويجب التصدي له واصلاحه معا. فلا عذر له. ولكن في القرن العشرين كثيرا ما الهبت الطائفية العنف مثلما الهمته الاستبدادية المعنوية. فالمجتمعات التي تخلصت من كل دين مارست الطغيان كما مارسته تلك الغاطسة في الدين. ولا يسعنا الا ان نستنتج ان في القلب البشري نزعة عنف متجذرة في اعماقه بحيث تعبر عن ذاتها بصرف النظر عن اية معتقدات قد تكون سائدة في مجتمع محدد- سواء أرأسمالياً كان ام اشتراكيا، متدينا ام غير متدين، فردانيا ام هرميا. وعليه فان واقع وجود العنف والقتال ليس في جوهره تفنيدا للمعتقدات السائدة في ذلك المجتمع.
التعصب
ربما كان أكبر عائق امام المسيحية عند الشخص العادي اليوم ليس الكثير من العنف والقتال، بل شبح العصب. فكثيرون من غير المؤمنين لهم اصدقاء او اقرباء صاروا مسيحيين “مولودين ثانية” ويبدون بالغي التطرف. اذ لا يلبثون ان يعبروا بمنتهى الصراحة عن استهجانهم لجماعات وقطاعات شتى في المجتمع الغربي- ولاسيما السينما والتلفزيون، والديمقراطية الطاغية، والمثليين ذكورا واناثا، والقائلين بالتطور، والطغاة الذين يسوغون القوة، واهل الاديان الاخرى، والقيم التي تعلم في المدارس الرسمية. وحين يدافع اولئك بالحجة عن حق ايمانهم، فكثيرا ما يبدون غير متسامحين وابرارا في نظر أنفسهم. وهذا هو ما يميل كثيرون الى وصفه بالتعصب.
ان كثيرين يحاولون ان يفهموا المسيحيين على طول طيف يتدرج من “الاسمية” في أحد طرفيه الى “التعصب” في طرفه الاخر. فالمسيحي الاسمي شخص مسيحي بالاسم فقط، لا يمارس المسيحية حقا ولا يكاد يؤمن بها. والمتعصب شخص يعد متطرفا في ايمانه بالمسيحية وفي ممارستها. وحسب هذا المعيار المتدرج، يكون أفضل نوع من المسيحيين هو ذاك الذي لا يتماشى مع المسيحية طوال الطريق، من يؤمن بها ولكن لا يلتزمها بصرامة زائدة. ولكن الاشكال في هذا الطرح هو انه يفترض ان الايمان المسيحي هو جوهريا نوع من التحسين الخلقي. لذلك يعد المسيحيون المتشددون دعاة اخلاق متزمتين، فريسيين كما كانوا يدعون في ايام السيد المسيح. فالمتمثلون بالفريسيين يفترضون انهم في موقف صحيح امام الله بفضل سلوكهم الاخلاقي وعقيدتهم القويمة. ويؤدي هذا طبيعيا الى مشاعر التفوق على اولئك الذين لا يشاركونهم في تدينهم، ومن ثم الى اشكال شتى من التعسف والانغلاق والطغيان. وهذا هو جوهر ما نفكر فيه على انه تعصب.
ولكن ما الحال ان كان جوهر المسيحية هو الخلاص بالنعمة- الخلاص لا بسبب ما نفعله نحن، بل فضل ما فعله السيد المسيح من اجلنا؟ ان ايمانك بانك مقبول عند الله بمحض النعمة امر يدفعك الى الاتضاع الجم. فالأشخاص الذين هم متعصبون إذا ليس هم هكذا لأنهم ملتزمون نحو الانجيل بصرامة زائدة، بل لأنهم غير ملتزمين نحوه التزاما كافيا.
فكر في اشخاص تعتبرهم متعصبين. انهم متغطرسون، ابرارا في نظر أنفسهم، متشبثون في آرائهم، غير حساسين، قساة. لماذا؟ ليس لأنهم مسيحيون فوق الحد، بل لأنهم ليسوا مسيحيين كفاية. انهم متحمسون وجسورون على نحو تعصبي، ولكنهم ليسوا على نحو جذري متواضعين او حساسين او محبين او مشجعين او مسامحين او متفهمين- مثلما كان السيد المسيح. ولأنهم يفكرون بالمسيحية كما لو كانت برنامج تحسين ذاتي، فهم يحاكون يسوع الذي حمل السوط في الهيكل، لا يسوع الذي قال: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها اولا بحجر” (يوحنا8: 7). فان ما يصدمنا بصفته تعصبيا بإفراط هو بالفعل اخفاق في الالتزام الكلي تجاه السيد المسيح وانجليه.
نقد الكتاب المقدس للتدين الزائف
ان التعصب والتطرف اللذين يؤديان الى الظلم والطغيان يشكلان خطرا دائما داخل أي كيان يضم مؤمنين دينيين. ولكن الترياق بالنسبة للمسيحيين ليس ان يلطفوا ايمانهم او يخففوه، بل بالأحرى ان يحوزوا ايمانا اوفى واصدق بالسيد المسيح. وقد فهم انبياء الكتاب المقدس هذا حق الفهم. وفي الواقع أن العالم مرولد وستفال (Merold Westphal) يوثق كيف Hن تحليل ماركس للدين بوصفه اداة طغيان قد سبقه انبياء العهد القديم إشعياء وارميا وعاموس، بل سبقته ايضا رسالة الاناجيل في العهد الجديد. فان ماركس، كما يقول وستفال، كان غير أصلي في نقده للتدين الزائف، اذ سبقه اليه الكتاب المقدس![6]
لقد وجه السيد المسيح نقدا رئيسيا للدين. فان الموعظة المشهورة على الجبل (متى، الأصحاحات 5 و6 و7) لا تنتقد اشخاصا غير متدينين، بل تنتقد بالأحرى متدينين. وفي حديثه المشهور هذا، يتبين ان القوم الذين ينتقدهم يصلون ويتصدقون على الفقراء، ويلتمسون ان يعيشوا حسب التوراة، غير انهم يفعلون ذلك كله لكي يكسبوا الاستحسان والسلطان لأنفسهم. وهم يعتقدون ان كفتهم سترجح على الاخرين، بل على الله ايضا، بفضل ادائهم الروحي (“يظنون انهم بكثرة كلامهم يستجاب لهم” متى6: 7). وهذا يجعلهم مصدري احكام ومجرمين مسرعين الى الانتقاد، غير مستعدين لتقبله. انهم متعصبون.
وقد دأب السيد المسيح في تعليمه ان يقول للمحترمين والمستقيمين: “ان العشارين والزواني يسبقونكم الى ملكوت الله” (متى21: 31). وهو يشجب بلهجة شديدة ناموسيتهم، وحسبانهم أنفسهم ابرارا، وتعصبهم الاعمى، وحبهم للثروة والسلطة (“تنقون خارج الكأس والقصعة، واما باطنكم فمملوء اختطافا وخبثا…وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله…تحملون الناس احمالا عسرة الحمل، وأنتم لا تمسون الاحمال بإحدى اصابعكم” لوقا 11: 39-46). كما قال عنهم ايضا انهم “يأكلون بيوت الارامل، ولعلة يطيلون الصلوات” (لوقا 20: 47). ولا ينبغي ان نفاجأ حين نعلم ان المؤسسة الدينية المؤمنة بالكتاب المقدس هي التي قتلت يسوع. وعلى حد تعبير اللاهوتي السويسري كارل بارت (Karl Barth)، فان “الكنيسة”- لا العالم- كانت هي التي صلبت السيد المسيح[7].
إن السيد المسيح سار على خطى الانبياء العبريين، مثل إشعياء الذي قال لأهل زمانه:
“واياي يطلبون يوما فيوما ويسرون بمعرفة طرقي كاملة عملت برا ولم تترك قضاء إلهها. يسألونني عن أحكام البر. يسرون بالتقرب الى الله 3 يقولون لماذا صمنا ولم تنظر. ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ. ها انكم في يوم صومكم توجدون مسرة وبكل اشغالكم تسخرون… اليس هذا صوما اختاره حل قيود الشر. فك عقد النير وإطلاق المسحوقين احرارا وقطع كل نير. 7 اليس ان تكسر للجائع خبزك وان تدخل المساكين التائهين الى بيتك. إذا رأيت عريانا ان تكسوه وان لا تتغاضى عن لحمك” (اشعياء58: 2-7).
أي شيء كان الانبياء والسيد المسيح ينتقدون؟ انهم لم يكونوا ضد الصلاة والصوم واطاعة وصايا الكتاب المقدس بشأن الحياة. ولكن لدى المتدينين ميلا لاستخدام الشعائر الدينية كرافعة لإحراز السلطة على الاخرين والحظوة لدى الله، مسترضين اياه عبر الطقوس والاعمال الصالحة. وهذا يؤدي في ان معا الى التشديد على المظاهر الدينية الخارجية، والى الجشع والمادية والطغيان في انماط التعامل الاجتماعية. فأولئك الذين يعتقدون انهم قد ارضوا الله بنوعية تقواهم وصلاحهم الادبي يشعرون بأنهم وجماعتهم يستحقون الاحترام والتسلط على الاخرين. غير ان الاله الذي نادى به السيد المسيح والانبياء يخلص كليا بالنعمة. فلا يمكن التأثير فيه بالاحتيال عبر الاداء الديني، والخلقي، بل يمكن الوصول اليه فقط من خلال التوبة، والتخلي عن النفوذ. وما دمنا نخلص بالنعمة فقط، فلا يمكن الا ان نصير خداما شاكرين لله وكل من حولنا. وقد اوصى السيد المسيح تلاميذه بهذا: “من اراد فيكم ان يصير عظيما يكون لكم خادما، ومن أراد ان يصير فيكم اولا يكون للجميع عبدا” (مرقس10: 43-45).
ففي المعيار النقدي لدى السيد المسيح والانبياء، تتميز ديانة البر الذاتي دائما بعدم الحساسية حيال شؤون العدالة الاجتماعية، اما الايمان الحقيقي فيتميز بالاهتمام الشديد بالفقراء والمهمشين. وقد قال اللاهوتي السويسري جون كالفن (John Calvin)، في شروحه وتعليقاته على الانبياء العبريين، ان الله يتوحد مع الفقراء بحيث يعبر صراخهم عن الوجع الالهي. فالكتاب المقدس يعلمنا ان معاملتنا لهم تساوي معاملتنا لله[8].
ولئن كانت الكنيسة بلا عذر مشاركة في ظلم الناس احيانا، فمن المهم ان ندرك ان الكتاب المقدس يزودنا بأدوات التحليل والنقد غير المتردد للظلم المدعوم دينيا من داخل الايمان. ويذهب المؤرخ سي. جون سمرفيل الى انه حتى النقاد اللادينيون الاقوياء الذين انتقدوا المسيحية يستخدمون بالحقيقة موارد من داخلها للتنديد بها[9]. فكثيرون ينتقدون الكنيسة على كونها متعطشة الى لسلطة ومهتمة بمصالحها الذاتية، ولكن هناك حضارات كثيرة فيها يعد النزوع إلى حيازة السلطة والاحترام امرا خيرا. فمن اين إذا حصلنا على لائحة الفضائل تلك التي بموجبها نستطيع تمييز خطايا الكنيسة- كما سال سمرفيل؟ لقد حصلنا عليها بالفعل من داخل الايمان المسيحي!
ولكي يشرح سمرفيل هذه النقطة لطلابه، دعائهم الى اجراء اختبار فكري. فقد اشار الى ان القبائل الاوروبية السابقة للمسيحية، مثل الأنغلوسكسونيين (Anglo-Saxons)، كانت لها مجتمعات مؤسسة على مفهوم الشرف. انها كانت حضارات مركزة على تجنب العيب، حيث شغل كسب احترام الاخرين والاصرار عليه مكانة مهمة جدا. وكان لدى الرهبان المسيحيين الذين حاولوا هداية اهل تلك القبائل مجموعة قيم مؤسسة على المحبة، أي على طلب الافضل للآخرين. فلكي يلمس طلابه الفرق، طلب منهم ان يتصوروا رؤية سيدة مسنة ضئيلة تسير في الشارع ليلا وهي تحمل حقيبة يد كبيرة. فلماذا لا نهاجمها ونقهرها ونأخذ حقيبتها ومالها؟ ان جواب الحضارة المركزة على مفهوم العيب هو إنك لا تأخذ حقيبتها؛ لأنك إذا اخترت سلب الضعفاء تكون شخصا جديرا بالازدراء. فلن يحترمك أحد، ولن تحترم انت نفسك. وهذا المفهوم الاخلاقي معني طبعا بالمصلحة الشخصية. فانت مركز على كيفية تأثير هذا الفعل في شرفك وسمعتك. غير ان هنالك مجرى اخر من التفكير يمكن ان يسلك. فلك ان تتصور كم يمكن ان يكون مؤلما لهذه المرأة ان تهاجم وتسلب، وكيف يمكن ان يضر فقدان مالها اشخاصا تعيلهم. وعليه، فانت لا تأخذ المال لأنك تريد الافضل لها ولعيالها. وهذا مفهوم اخلاقي معني بمصلحة الاخرين؛ اذ أنك تفكر كليا في خير تلك المرأة.
وعلى مر السنين، تبين لسمرفيل ان اغلبية طلابه عللوا الامور فكريا بمقتضى المفهوم الاخلاقي الثاني المراعي لخير الغير. ومن حيث كونه مؤرخا، بين لهم من ثم كيف كان توجيههم الخلقي مسيحيا. فان الايمان المسيحي غير تلك الحضارات المركزة على الشرف، حيث كانت الكبرياء تقدر بدل التواضع، والهيمنة بدل الخدمة، والشجاعة بدل المسالمة، والفخر بدل الاحتشام، وولاء المرء لقبيلته بدل الاحترام المتساوي للجميع[10].
ان الانتقادات النموذجية من قبل اللادينيين بشأن طغيان الكنيسة المسيحية وضروب ظلمها مستمدة في الواقع من مصادر الكنيسة الشخصية لنقد ذاتها. فيمكن فهم نقائص الكنيسة تاريخيا باعتبارها التبني والممارسة الناقصين لمبادئ الانجيل المسيحي. ويقول سمرفيل ان الأنغلوسكسونيين لما سمعوا رسالة الانجيل المسيحي للمرة الاولى ساورتهم الشكوك بشأنها. فانهم لم يستطيعوا ان يدركوا كيف يمكن ان يقوم ويدوم مجتمع لا يخشى القوة ولا يحترمها. ولما اهتدوا الى الايمان المسيحي، باتوا بعيدين عن التزامه كما ينبغي. اذ مالوا الى ادماج المفهوم الخلقي المسيحي المعني بالآخرين في طرقهم القديمة. وقد ساندوا الحملات الصليبية باعتبارها سبيلا إلى الحفاظ على كرامة الله وكرامتهم. وسمحوا للرهبان والنساء وعبيد الاقطاعيين أن يتعهدوا فضائل المحبة والاحسان، ولكن هذه الفضائل لم تعد مؤاتية لرجال الشرف والاقدام الفعلي. فلا عجب ان كان تاريخ الكنيسة حافلا بكثير مما ينبغي شجبه. ولكن من شأن التخلي عن المعايير المسيحية ان يحرمنا الاساس الصالح للقيام بالنقد[11].
فما الرد إذا على الانتقادات البالغة الانصاف والشدة، تلك التي تتناول سجل الكنيسة المسيحية؟ ليس الرد ان ننبذ الايمان المسيحي؛ لأن من شأن ذلك ان يحرمنا المعايير والموارد اللازمة لإجراء التصحيح. انما ينبغي لنا بالأحرى ان نتقدم الى استيعاب اوفى وأعمق لماهية المسيحية الحقيقية. وقد علمنا الكتاب المقدس نفسه ان نتوقع حصول تعسفات دينية، كما بين لنا ايضا ما ينبغي ان نفعله بشأنها. لهذا السبب يزودنا تاريخ المسيحية بأمثلة رائعة كثيرة على الاصلاح الذاتي. فلنتأمل ربما أبرز مثلين على هذا.
العدالة باسم السيد المسيح
تتمثل وصمة بارزة على التاريخ المسيحي في تجارة العبيد الافريقية. فلما كانت المسيحية سائدة في البلدان التي كانت تشتري العبيد وتبيعهم في اثناء ذلك الزمان فلا بد ان تتحمل الكنائس المسؤولية الى جانب مجتمعاتها عما جرى. ولئن كانت العبودية بشكل او بآخر منتشرة بالفعل في كل حضارة بشرية على مر القرون، فقد كان المسيحيون هم اول من خلصوا الى انها غير صحيحة. وقد كتب المؤرخ المجتمعي ردني ستارك (Rodney stark):
مع ان العادة درجت على انكار الامر، فان التعاليم المناهضة للعبودية بدأت تظهر في اللاهوتية المسيحية بعيد انحطاط روما، وقد صحبها تلاشي العبودية التدريجي في جميع اجزاء اوروبا المسيحية ما عدا اطرافها النائية. ولما شرع الاوروبيون في ما بعد العبودية في “العالم الجديد”، فقد فعلوا ذلك رغم المعارضة البابوية الشديدة، وهي حقيقة “غيبت” عن التاريخ حتى عهد قريب ليلائم ذلك المؤيدين للعبودية. وفي اخر المطاف، فان دعاة العمل المسيحيين هم من بدأوا الغاء العبودية في “العالم الجديد” وانجزوها حتى النهاية[12].
لقد بدأ المسيحيون يعملون في سبيل الغاء العبودية لا بسبب الغاء مفهوم عام معين لحقوق الانسان، بل لأنهم رأوا فيها انتهاكا لمشيئة الله. ان اشكال الاستخدام والاسترقاق القديمة التي شاعت في ازمنة الكتاب المقدس كانت قاسية، ولكن دعاة الإبطال المسيحيين خلصوا الى ان عبودية الاسترقاق ذات الاساس العنصري والمستمرة طوال الحياة، تلك التي ترسخت من طريق الخطف، لا يمكن ان تتآلف مع تعاليم الكتاب المقدس في كلا العهدين، القديم والجديد[13]. فان ناشطين مسيحيين أمثال وليام ولبرفورس (William Wilberforce) في بريطانيا، وجون وولمان (John Woolman) في الولايات المتحدة، وآخرين كثيرين جدا، كرسوا حياتهم** كلها، باسم المسيح، لإبطال العبودية. وقد كانت تجارة العبيد، او النخاسة، مربحة الى اقصى الحدود، حتى توافر حافز هائل داخل الكنيسة على تسويغها. ومن ثم دافع كثيرون من القادة الكنسيين عن نظام الاسترقاق. وقد كان الكفاح في سبيل الاصلاح الذاتي مريراً جداً[14].
ولما أفلح من اجل الابطال اخيرا في توجيه اهل المجتمع البريطاني الى الغاء الاسترقاق في إمبراطورتيهم، تنبأ المستعمرون في مستعمراتهم بأن الاعتاق سيكلف المستثمرين مبالغ ضخمة، وان اسعار السلع سترتفع فجأة ارتفاعا كارثيا. ولكن ذلك الامر لم يثن المنادين بالأبطال في مجلس العموم. فقد تمت الموافقة على تعويض المستعمرين عن جميع العبيد المحررين، وكانت الكلفة مذهلة اذ بلغت نصف الميزانية السنوية لدى الحكومة البريطانية. وقد اجيز مرسوم الاعتاق سنة 1833م.
وكانت نفقاته باهظة بالنسبة الى الشعب البريطاني حتى ان أحد المؤرخين دعا ابطال الاسترقاق البريطاني “انتحارا اقتصاديا طوعيا”.
ويلاحظ ردني ستارك كيف عكف المؤرخون بلا هوادة على محاولة تخمين السبب الذي حمل المنادين بالإبطال على الاستعداد للتضحية الى اقصى الحدود في سبيل انهاء العبودية. وهو يقتبس ما قاله المؤرخ هوارد تمبرلي (Howard Temperley) من ان تاريخ ابطال الاسترقاق محير لان معظم المؤرخين يعتقدون ان كل سلوك سياسي تحفزه المصلحة الشخصية. ولكن على الرغم من حقيقة كون مئات الدارسين على مدى اخر خمسين سنة قد فتشوا عن طرق لتفسير الامر، يقول تمبرلي: “لم يفلح أحد في اثبات ان الذين كافحوا الى النهاية في سبيل انهاء النخاسة توخوا الربح بأية طريقة ملموسة…او ان تلك الاجراءات لم تكن الا باهظة الكلفة على البلد اقتصاديا”. انما ابطلت العبودية لأنها كانت غير صحيحة، وكان المسيحيون هم السباقين الى قول ذلك[15]. فان عدة الاصلاح الذاتي في المسيحية، أي نقدها لأفعال الظلم المدعومة دينيا، قد اثبتت ذاتها.
وتتمثل حالة كلاسيكية اخرى تؤيد ما نحن بصدده في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الامريكية في اواسط القرن العشرين. وفي تاريخ مهم لهذه الحركة، يبين ديفيد ال. تشابل (David L. Chappel) انها لم تكن حركة سياسية في الاساس، بل كانت حركة دينية وروحية. فان الليبراليين البيض الذين كانوا حلفاء لقادة الحقوق المدنية الامريكيين الأفريقي الاصل لم يكونوا انصارا للعصيان المدني، ولا لهجوم مباشر على التمييز العنصري. وبسبب اعتقادهم اللاديني بصلاح الطبيعة البشرية، ظنوا ان التعليم والتنوير سيؤولان الى تقدم اجتماعي وعرقي حتمي. ويحاج تشابل بأن القادة السود كانوا أكثر تأصلا في المفهوم المستمد من الكتاب المقدس لخاطئية القلب البشري، وفي التنديدات بعدم العدالة تلك التي قرأوها في اسفار الانبياء العبريين. كذلك ايضا يبين تشابل ان الايمان الحي لدى عامة الامريكيين الأفارقة هو الذي امدهم بالقوة للإصرار على المطالبة بالعدالة على الرغم من المعارضة العنيفة التي قوبلت بها مطالبهم. ومن ثم يقول تشابل انه ليس من سبيل الى فهم ما حدث حقا الى ان ترى حركة الحقوق المدنية بوصفها نهضة دينية[16].
ولما تصدى مارتن لوثر كنغ الابن (Martin Luther King. Jr) للعنصرية في كنائس البيض بجنوب اميركا، لم يدع الكنائس الجنوبية لان تصير اكثر علمانية. فما ان تقرا مواعظه ورسالته من سجن برمنغهام، حتى ترى كيف ناقش الامور. اذ انه استلهم شريعة الله الادبية والكتاب المقدس. وقد دعا كنغ المسيحيين البيض لان يكونوا أكثر وفاء نحو معتقداتهم الخاصة، ويدركوا ما يعلمه الكتاب المقدس حقا. وهو لم يقل: “الحقيقة نسبية، وكل امرئ حر في ان يقرر لنفسه ما هو حق وما هو باطل”. فلو كان كل شيء نسبيا، ما توفر للبيض في جنوب الولايات المتحدة حافز للتخلي عن نفوذهم. ولكن الدكتور كنغ بالأحرى استلهم النبي عاموس اذ قال: “وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم” (عاموس5 :24). فان أعظم نصير للحق في القرن العشرين عرف ان ترياق العنصرية لم يكن مسيحية اقل، بل كان مسيحية أعمق واصدق.
ان ولبرفورس وكنغ لم يكونا قط القائدين الوحيدين اللذين حولا التيار ضد عدم العدالة باسم المسيح. فبعد الغاء سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، توقع الجميع حصول حمام دم فيه ينتقم الضحايا السابقون انتقاما داميا من مضطهديهم، ولجوء ظالميهم السابقين الى الدفاع عن أنفسهم بالقوة. غير ان قادة مسيحيين من امثال دسموند توتو (Desmonf Tutu) انشأوا في اواسط تسعينيات القرن العشرين تلك اللجنة الرائعة المسماة “لجنة جنوب افريقيا للحق والمصالحة”. وقد عبر اسمها عن مبدئها ورسالتها. وهي دعت الضحايا لان يتقدموا كي يرووا قصصهم علانية. ودعت ايضا مرتكبي الطغيان والظلم السابقين لان يتقدموا ويحكوا الحقيقة ويطلبوا الصفح. ولم يعف اي الجانبين من المثول امام اللجنة. وقد سمعت اللجنة اخبار انتهاكات حقوق الانسان، ونظرت في اجراءات الصفح من قبل الجميع، من دولة التمييز العنصري السابقة، ومن الكونغرس الافريقي الوطني ايضا. وعلى الرغم من بعض التقصيرات والانتقادات، اسهمت اللجنة في تحقيق تحول حكم الاكثرية بسفك دم اقل كثيرا جدا مما كان يمكن ان يتوقعه أحد.
وفي اواخر القرن العشرين ابت الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا الشرقية ان تموت تحت هيمنة الشيوعية. فبواسطة “الصبر والشموع والصلبان”، أطلقت الكنيسة سلسلة الاحداث التي اسقطت جميع تلك الانظمة الديكتاتورية المستبدة. ثم ان الكاهن البولندي جرزي بوبيلوجكو (Jerzy Popieluszko)، بوعظه ونشاطه الفعلي، وقاد الحركة الهادفة الى انشاء اتحاد عمالي حر في بولندا في اوائل ثمانينيات القرن العشرين. ولما لقي مصرعه على ايدي الشرطة السرية، حضر جنازته 250،000 شخص، بينهم ليش فاليسا (Lech Walesa) الذي اسهمت حركة التضامن التي قادها لاحقا في اسقاط الحكومة الشيوعية. وكثيرون ممن شاركوا في الجنازة ساروا متجاوزين مقر الشرطة السرية الرئيسي حاملين راية كتب عليها “نحن نغفر”[17]. فأساس حركة المقاومة المسيحي لم يكن ملتبسا فيه.
وثمة لائحة طويلة من الشهداء الذين ناصروا المظلومين، باسم يسوع، مثل رئيس الاساقفة اوسكار روميرو (Oscar Romero) في السلفادور (Elsalvador). وكان روميرو قد قلد منصب رئيس الاساقفة بفضل آرائه العقائدية المحافظة القويمة. وفي منصبه الجديد رأى بينات لا تدحض على الانتهاكات المتمادية والعنيفة لحقوق الانسان من قبل الحكومة. فباشر التحدث بشأن تلك البينات بلا خوف أو تردد، ونتيجة لذلك أطلقت عليه النار فقتل في ثمانينيات القرن العشرين وهو يقيم القداس.
ثم ان الشهيد اللوثري الشهير ديترتش بونهويفر (Dietrich Bonhoeffer) كان يتولى رعاية كنيستين ناطقتين بالألمانية في لندن حين تسلم هتلر (Hitler) السلطة. فأبى بونهويفر ان يبقى على بعد آمن، وعاد الى بلده ليتولى رئاسة معهد لاهوتي غير شرعي تابع للكنيسة المعترفة بالإيمان (The Confessing Church)، تلك المكونة من جماعات مسيحية ابت ان توقع على قسم بالولاء للنازيين. وقد كتب بونهويفر أثره الادبي الممتاز “كلفة التلمذة” (the cost of discipleship)، وفيه أجري نقدا للدين والكنيسة في ايامه. ففي اصداء ترجع اقوال السيد المسيح والانبياء، كشف بونهويفر الموت الروحي والرضى الذاتي الاناني اللذين يسرا للكثيرين ان يتعاملوا مع هتلر ويغمضوا عيونهم حيال اولئك الذين كان النازيون يهمشونهم ويدمرونهم منهجيا. واخيرا اعتقل بونهويفر وشنق.
وفي رسائل بونهويفر الاخيرة من السجن، يبين كيف امده ايمانه المسيحي بالموارد التي مكنته من التخلي عن كل شيء لأجل الاخرين. وكان ماركس قد حاول ان يبرهن أنك إذا كنت تؤمن بحياة بعد هذه الحياة فلن تعنى بجعل هذا العالم أفضل. الا ان في وسعك ايضا ان تقيم الدليل على العكس. فان كان هذا العالم هو كل ما في الوجود؛ وان كانت بضائع هذا العالم هي وحدها كل ما سأناله من حب وعزاء وثراء، فلماذا ينبغي ان أضحى بها من اجل الاخرين؟ غير انه كان لبونهويفر فرح ورجاء بالله يسرا له ان يفعل ما فعله:
ليس هو فعلا دينيا ما يجعل المرء مسيحيا. بل معاناته الام الله في الحياة اللادينية. ذلك هو مؤدى ميتانويا (Metanoia)، أي التوبة: ليس في المقام الاول التفكير في حاجات المرء الذاتية ومشاكله وخطاياه ومخاوفه التي تخصه. بل ان يدع نفسه تجتذب الى طريق يسوع المسيح… ان الالام ملاك طاهر. بواسطته صار الناس أعظم مما صاروه بواسطة افراح العالم كلها… ان الم الاشتياق. ذلك الذي غالبا ما يمكن الشعور به جسميا، يجب ان يوجد. ولا ينبغي لنا- كما لا يعوزنا- ان نهمله ونقلل من شأنه. ولكن ينبغي ان يقهر كل مرة. وهكذا يكون لدينا ملاك اطهر بعد ملاك الالم. الا وهو ملاك الفرح بالله[18].
ما الداعي الى ذكر هذه الامثلة كلها؟ انها بينات على ان الدكتور كنغ كان على حق. فمتى انزل الناس الظلم، باسم السيد المسيح، لا يكونون اوفياء لروح ذاك الذي مات هو نفسه ضحية للظلم ودعا الى الغفران لأعدائه. وعندما يبذل الناس حياتهم لتحرير الاخرين، على غرار ما فعله السيد المسيح، يحققون المسيحية الصحيحة التي دعا اليها مارتن لوثر كنغ الابن وديرترتش بونهويفر وأصوات مسيحية اخرى.
[1] MarkLilla, “Getting Religion: My Long-lost Years as a Teenage Evangelical,” in the New York Times Magazine,September 18, 2005,p.94-95.
[2] وإن كان مانبتغيه حجة ضد المسيحية، فمن السهل أن تجد مسيحياً مغفلاً وغير مرضوتقول:”إذا هذا هو الانسان الجديد الذي تفاخرون به ! أعطوني الصنف القديم “. ولكن ما إن تكون قد بدأت تدرك أن المسيحة محتملة على اسس اخرى، حتى تعلم في قلبك بأن ذلك ليس إلا تجنباً للمسألة.فماذا يسعك فعلاً أن نعرف عن نفوس الآخرين–عن تجاربهم وفرصهم وصراعاتهم ؟ ثمة نفس واحد ة في الخليقة موجوداً فأنت-بمعنى ما- في مواجهته وحدك.فليس في وسعك دفعه بعيداً بتخمينات تخص جيرانك الأقربين، ولا بذكريات لما قرأته في الكتب.وماذا سيكون من أمر كل تلك الثرثرات والشائعات عندما يتلاشى الضباب المخدر الذي ندعوه ” الطبيعة ” أو ” العالم الواقعي” وتصير الحضرة الالهية التي وفقت فيها كل حينملموسة ومباشرة ولامفر منها؟”
- S. Lewis ,Mere Christianity (Mcimillan,1965) ,p.168.
[3] Christopher Hitchens ,God is not Great: How Religion Poisons Everything (Hachette,2007) ,pp. 35-36.
[4] يصر بعض المفكرين العلمانيين اليوم على أن كل دين ينطوي على بذور الطغيان في داخله. غير أن هذا الرأي يخفق في النظر بعين الاعتبار إلى الفروق الهائلة بين المعتقدات الدينية في نظرة كل منها إلى الاهتداء. فالبوذية والمسيحية مثلاً تقتضيان تغييراً داخلياً جذرياً مؤسساً على قرار شخصي.والمراعاة الاكراهية للقواعد الخارجية ترى أنها مميتة روحياً .ومن ثم فإن أدياناً من هذا القبيل يرجح جداً أتنشد مجتمعاً يقدر الحرية الدينية، حتى يتاح للأفراد أن يتعلمواالحقيقة وينذروا أنفسهم لها بسخاء.
بين ماكس وبير وآخرون أن العقدة المسيحية ، لاسيما بصورتها الانجيلية،توفر أساساً
لحقوق الفردية والحرية يساعد على نمو الديمقراطية والرأسمالية كلتيهما. وتضفي فلسفات وأديان أخرى قيمة أدنى بكثير على حرية على حرية الاختيار الفردية. فالفرق بين المسيحية والاسلام بشأن معنى الاهتداء مسألة وثيقة الصلة بالموضوع .
ذلك أن الاهتداء المسيحي يشتمل على الانتقال من مجرد “المعرفة عن الله” إلى “معرفة الله شخصياً” . ومن شأن معظم المسلمين أن يحسبوا التكلم بشأن معرفة الله على نحو وثيق وشخصي تواقحاً. إن ولدا ينشأ في بيت مسيحيقد يتكلم بشأن اهتدائه في العاشرة من العمر أو الخامسة عشر ة أو العشرين. أما الولد الذي ينشا في بيت مسلم فلن يتكلم البتة بشأن اهتدائه إلى الاسلام. وهذا الفارق في الادراك يعني أن المسيحيين يرون أهمية ضئيلة في فرض ضغط اجتماعي على الناس كي يحافظوا على اعترافهم بالايمان المسيحي. غير أن الاسلام لايرى مشكلة في بذل ضغط اجتماعي قانوني لإبقاء المواطنين ملتزمين نحو فرائض الاسلام.
(أقدم شكري إلى دون كارسون على هذا التبصر).
[5] Alister McGrath, The Dawkins Delusion? Atheist Fundamentalism and the Denial of the Divine (Inter-Varsity press,2007) ,p.81.
[6] MeroldWestphal, Suspicion and Faith: The Religious Uses of Modern Atheism (Eerdmans ,1993),Chapters 32-34.See page 203:
أميل إلى اتهام كارل ماكس بالانتحال التأليفي.فإن نقده للرأسمالية هو ، في جوهره الاهتمام الذي يطلبه الكتاب المقدس بالأرامل والأيتام،مجرداً من أساسه اللاهوتي، ومطبقاً على أحوال العصر الحديث”.
[7] Westphal,Suspicion and Faith,p. 205.
[8] See Proverbs 14: 31; 19: 17; Matthew 25: 31 – 46.Calvin’s remark is from his commentary on Habbakuk 2: 6 andis quoted in Westphal, Suspicion and Faith, p.200.
[9] C.John Sommerville ,The Decline Of the Secular University(Oxford University press,2006) ,p.63.
[10] Ibid., pp. 69-70.
[11] Ibid., p.70.
[12] Rodney Stark, For the Glory of God: How Monotheism Led to Reformations, Science, Witch-Hunts, and The End of Slavery (Princeton University press, 2004) ,p. 291. See pp. 338-53 for an overview of abolition movements.
[13] راجع تثنية 24: 7 و1تيموثاوس 1: 9 -11، حيث ينهى عن خطف الناس والمتاجرة بهم. ولكن كثيرين داخل الكنيسة وخارجها ) يفترضون أن الكتاب المقدس يؤيد الاستعباد ويدعمه. بشأن المزيد عن هذا الموضوع. راجع الفصل السادس من هذا الكتاب.
[14] See Mark Noll’s The Civil Waras a Theological Crisis (University of North Carolina press, 2006)
راجع هذا الكتاب من أجل بحث شامل يبين كيف تناول المسيحيون موضوع الاسترقاق من خلال تفسيرات شتى للكلمة المقدسة .
كما يبين كتاب ُنل كيف استخدم بعض القادة الكنسيين آليات من الكتاب المقدستتطرق إلى
العبودية كي يبرروا النخاسة (المتاجرة بالعبيد). ولكنهم كانوا عمياناً من الفروق المبينة بين الاسترقاق التملكي الإفريقي، وخدمة العبيد أو الخدام التعاقدية التي يتطرق إليها الكتاب المقدس.
[15] Stark, For the Glory of God (priceton,2004) ,pp. 350ff.
[16] David L. Chappell, a Stone of Hope: propheticReligion and the Death of Jim Crow (University of North Carolina press,2003).
[17] Anarrative of the Catholic church’s resistance toCommunism in the 1970s and 1980s is given in Chapter 17in”Between Tow Crosses,” in Charles Colson andEllen Vaughn,The Body (Thomas Nelson,2003).
[18] Dietrich Bonhoeffer, Letter and papers from prison: Enlarged Edition ,EberhardBethge,ed.(Macmillan,1971),p.418.