مشكلة الشر والألم في الحياة – كيف يمكن أن يسمح إله صالح بالألم؟
مشكلة الشر والألم في الحياة – كيف يمكن أن يسمح إله صالح بالألم؟
مشكلة الشر والألم في الحياة – كيف يمكن أن يسمح إله صالح بالألم؟
قالت هيلاري (Hillary)، وهى طالبة جامعية تدرس الأدب: “إني حقا لا أومن بأن إله المسيحية موجود. إن الله يسمح بمعاناة رهيبة في العالم. وهكذا فإنه قد يكون إما كلي القدرة لكن غير صالح بما يكفي لملاشاة الشر والألم، وإما كلي الصلاح لكن غير قادر بما يكفي ليلاشي الشر والألم. وفي كلتا الحالين، لا يعقل أن يكون إله الكتاب المقدس الكلي الصلاح والقدرة موجودا”.[1]
وأضاف رب (Rob)، صديق هيلاري: “ليست هذه مسألة فلسفية بالنسبة إلي، فهي شخصية. فما كنت الأومن بإله يسمح بالألم، حتى لو كان هو- أو هي أو ذلك- موجودا. ربما كان الله موجودا، وربما كان غير موجود. ولكن إذا كان موجودا، فلا يمكن الوثوق به”.
إن المشكلة الكبرى، في نظر كثيرين، لاتكمن في حصرية المسيحية، بل في وجود الشر والألم في العالم. فمنهم من يرون أن التألم ظلما هو معضلة فلسفية، ويلقون الشكوك حول وجود الله بحد ذاته. ومنهم من يعد المسألة مسألة شخصية صرفا. فلا يعنيهم السؤال المجرد: أموجود الله أم غير موجود؟ إذ يرفضون أن يثقوا أو يؤمنوا بأي إله يسمح للتاريخ والحياة أن يستمرا على ما هما عليه.
في كانون الأول (ديسمبر) 2004، قتل أكثر من 250,000 شخص من جراء أمواج تسونامي هائلة ضربت ساحل المحيط الهندي. وعلى مدى الأسابيع التالية غصت الصحف والمجلات برسائل ومقالات تطرح السؤال: “أين كان الله؟” وقد كتب أحد المراسلين: “إذا كان الله هو الإله، فهو غير صالح. وإذا كان الله صالحا، فهو ليس إلها. ولا يعقل تقبل الأمر في كلتا الحالين، خصوصا بعد كارثة المحيط الهندي المفجعة”[2].
إنما على الرغم من التأكيد الواثق من قبل كاتب المقال، فإن الجهد المبذول للبرهنة بأن الشر يدحض وجود الله “بات الآن معترفا به لدى جميع الفرقاء تقريبا بأن هذا الجهد قد أفلس كليا”.[3] لماذا؟
الشر والألم ليسا دليلا ضد الله
يقيم الفيلسوف جاي. أل. ماكي (J. L. Mackie) هذه القضية ضد الله، في كتاب له بعنوان “معجزة توحيد الله” (The Miracle of Theism, Oxford, 1982). وهو يبسطها على هذا النحو: إذا كان إله صالح وقدير موجودا، فما كان يسمح بالشر العديم الجدوى؛ ولكن لأن في العالم بالفعل كثيرا من الشر العديم الجدوى والذي لايبرر، لايعقل أن يكون الإله التقليدي الصالح والقدير موجودا. قد يكون موجودا إله آخر، أو لا إله، ولكن ليس الله التقليدي[4].
غير أن فلاسفة آخرين كثيرين تبينوا في هذا التعليل عيبا رئيسيا. ففي صلب التوكيد بأن العالم ملان بالشر العديم الجدوى تمكن مقدمة مفترضة، ألا وهي أنه بدا الشر عديم الجدوى بالنسبة إلي فلا بد عندئذ أن يكون هو عديم الجدوى.
وهذا التعليل ينطوي طبعا على مغالطة. فإن مجرد عدم قدرتك على أن ترى أو تتصور سببا وجيها لسماح الله بحصول شيء ما، لا يعني أنه لا يمكن أن يوجد سبب فعلا. وهنا أيضا يلوح لنا في صلب الشكوكية، التي يفترض أنها متمسكة بالمنطق، إيمان هائل لدى المرء بقدراته الإدراكية. فإن كانت عقولنا عاجزة عن سبر أغوار الكون للاهتداء إلى أجوبة جيدة عن الألم، فلا يعقل إذا أن يوجد أي جواب! إن هذا إيمان أعمى من الصنف الأعلى.
وقد أوضح المغالطة الكامنة في لب هذه الحجة الفيلسوف آلفن بلانتنغا بمثل البعوض غير المرئي. فإن فتشت داخل خيمتك عن سان برنار (St. Bernard)، وهو صنف من الكلاب ضخم وذكي، ولم تر واحدا، يكون منطقيا أن تفترض عدم وجود واحد منها في الخيمة. أما إذا فتشت داخل خيمتك عن نوسيومة (no-see-um)، وهي حشرة بالغة الصغر تأثير لسعتها أكبر من حجمها بكثير، ولم تجد واحدة، فليس من المنطق أن تفترض عدم وجود واحدة هناك.
وسبب ذلك، رغم كل شيء، أن أحدا لا يستطيع رؤيتها. فإن كثيرين يفترضون أنه لو وجدت أسباب وجيهة لوجود الشر لكانت في متناول عقولنا، أشبه بالكلب منها بالحشرة. ولكن لماذا ينبغي أن تكون الحال على هذا المنوال[5]؟
إن هذه الحجة ضد الله لا تقوم، ليس فقط بالنسبة إلى المنطق، بل أيضا بالنسبة إلى الاختبار. فبصفتي راعيا، وعظت كثيرا عن قصة يوسف في سفر التكوين. وقد كان يوسف شابا شامخا أبغضه إخوته. وفي غضبهم عليه، حبسوه في بئر، ثم باعوه إلى حياة عبودية وبؤس في مصر. لا شك أن يوسف صلى مستغيثا طالبا الإنقاذ، ولكن لم تأته أية معونة في الحال، ومضى بذلك إلى العبودية.
ومع أن يوسف عانى سنى عبودية وبؤس، فإن تجاربه صقلت خلقه وشددته. وفي آخر المطاف ارتقى ليصير الوزير الأكبر في مصر، منقذا آلاف النفوس من المجاعة، ومنهم أيضا إخوته. فلولا سماح الله بسني معاناه يوسف، لما كان على الإطلاق عاملا فعالا جدا في سبيل العدالة الإجتماعية والشفاء الروحي. وكلما وعظت على أساس ذلك النص، أسمع تعليقات من أشخاص يتوحدون مع القصة. إذ لا يرى كثيرون بدا من الاعتراف بأن معطم ما كانوا يحتاجون إليه حقا للنجاح في الحياة جاءهم من خلال اختباراتهم الأكثر صعوبة وإيلاما.
ومنهم من يلتفتون إلى مرض سبق أن ابتلوا به، ويدركون أنه كان فصلا لا يستبدل في الحياة أدى بهم إلى نموهم الشخصي والروحي. وأنا خرجت سالما من منازلة مع السرطان، في حين ما تزال زوجتي تعاني مرض كرونز (Crohn’s)[i] (داء كرونز هو إلتهاب يصيب الأمعاء وقد يؤثر في أي من أجزاء القناة الهضمية من الفم إلى الشرج) طيلة سنين، ومن شأننا كلينا أن نشهد لصحة هذا الأمر. وقد تعرفت في رعيتي الأولى برجل فقد معظم بصره بعد إطلاق النار على وجهه في أثناء قيامه بصفقة مخدرات كشف أمرها.
وقال لي إنه كان شخصا أنانيا وفظا جدا، أنه ألقى باللوم على الآخرين بشأن مشاكله القانونية والعلائقية الدائمة. ثم إن فقدان بصره دمره، إلا أنه جعله أيضا يتضع اتضاعا شديدا. ومما قاله: “إذا أغمضت عيناى الطبيعيتان، فتحت عيناى الروحيتان، إذا جاز التعبير. فقد رأيت أخيرا كيف كنت أعامل الناس، وقد تغيرت. ولي الآن، للمرة الأولى في حياتي، أصدقاء- أصدقاء حقيقيون. كان الثمن الذي دفعته رهيبا، ومع ذلك يجب أن أقول إن الأمر كان يستحق عناءه. فأنا الآن أملك ما يجعل الحياة ذات شان وجدوى”.
ومع أن أحدا من هؤلاء لا يحبذ المآسي يحد ذاتها، فإنهم جميعا ما كانوا ليستبدلو أي شيء بما آتتهم من بصيرة وخلق وقوة. ومع مرور الوقت والمنظور الصحيح، نستطيع بمعظمنا أن نرى أسبابا خيرة، على الأقل لبعض من الآلام والمآسي التي تحدث في الحياة. فلماذا لا يحتمل أن تكون لها جميعا أسباب خيرة، من موقع الله المشرق؟
فإذا كان لديك إله عظيم ومتعال بما يكفي لأن تثور عليه لأنه لم يوقف الشر والألم في العالم، فإن لديك عندئذ (في الوقت نفسه) إلهأ عظيما ومتعاليا بحيث تكون لديه أسباب خيرة لسماحه باستمرارهما وأنت لا تعرف تلك الأسباب. حقا إنك لا تستطيع أن تصل إلى النتيجة عينها في كلتا الحالين!
الشر والألم قد يكونان (في حقيقة الأمر) دليلا لمصلحة الله
رغم أن الألم المروع الذي يتعذر تعليله لا يمكن أن يدحض الله، فهو مع ذلك مشكلة بالنسبة إلى المؤمن في الكتاب المقدس. غير أنه ربما كان مشكلة أكبر بعد بالنسبة إلى غير المؤمنين. وقد وصف سي. أس. لويس كيف رفض في الأصل فكرة وجود الله بسبب قسوة الحياة. ثم بات يدرك أن الشر أكثر إشكالا بالنسبة إلى إلحاده الجديد. وفي الأخير أدرك أن الألم يشكل حجة لمصلحة وجود الله أفضل من تشكيله حجة ضده.
كانت حجتي ضد الله أن العالم بدا غاية في القساوة والظلم. ولكن كيف حصلت على مفهوم الظلم والعدل هذا؟ … بماذا كنت أقارن هذا العالم لما دعوته غير عادل؟ … كان من شأني طبعأ أن أتخلى عن مفهومي للعدل بقولي إنه ليس شيئا سوى فكرة خاصة من بنات أفكاري. ولكن لو فعلت ذلك، لانهارت أيضا حجتي ضد الله؛ لأن ركن تلك الحجة كان القول إن العالم غير عادل فعلا، وليس فقط أنه لم يرض ميولي قبل الآن… وبناء على ذلك يتبين أن الإلحاد ساذج جدا[6].
لقد أدرك لويس أن الاعتراضات الحديثة على الله مؤسسة على مفهوم للعدل والإنصاف. فنحن نعتقد أن الناس لا ينبغي أن يتألموا وينبذوا ويموتوا جوعا أو ظلما. غير أن آلية الانتخاب الطبيعي التطورية (The Evolutionary Mechanism of Natural Selection) تعتمد على القتل والإفناء والعنف من جانب القوي تجاه الضعيف- وهذه كلها طبيعية تماما. فعلى أي أساس إذا يحكم الملحد على العالم الطبيعي بأنه ظالم ومجحف وغير عادل على نحو رهيب؟ ليس لدى غير المؤمن بالله أساس جيد لكونه ساخطا على اللاعدل الذي كان- كما يبين لويس- سبب الاعتراض على الله في المقام الأول.
فإن كنت متيقنا بأن هذا العالم الطبيعي ظالم وملآن بالشر، فأنت تفترض حقيقة معيار ما خارج الطبيعة (أو فوق طبيعي) بموجبه تصدر حكمك. وقد عبر الفيلسوف آلفن بلانتنغا عن ذلك على النحو التالي: هل يعقل أن يوجد حقا أي شيء مثل الشر المروع ]لو كان الله غير موجود ومحن نشأنا من طريق التطور (النشوء والارتقاء) (يستخدم البعض مصطلح “التطور” والبعض الآخر “النشوء والارتقاء” في ترجمة الكلمة الإنكليزية (Evolution)، وكلاهما صحيحان.
وقد ارتأينا استخدام المصطلح الأول في ما تبقى من الكتاب. ويكون بذلك عالم الأحياء الذي يدرس التطور (Evolutionist) عالما تطوريا) فحسب [؟ لست أرى كيف يكون ذلك. لا يمكن أن يوجد شيء كهذا إلا إذا كانت ثمة طريقة بها يفترض أن تعيش الخلائق العاقلة، بل تلزم أن تعيش… إن أية طريقة لادينية في النظر إلى العالم تخلو من أي مجال للالتزام الخلقي مهما كان نوعه.
ومن ثم فلا سبيل إلى القول بوجود شيء من قبيل الشر الفعلي والبغيض. وعلى ذلك، فإن اعتقدت أن هنالك حقا شيئا مثل الشر المروع (لا مجرد وهم من نوع ما). تكون لديك إذا حجة قوية ]لحقيقة وجود الله[7][.
وبالاختصار، فإن مشكلة المأساة والمعاناة والإجحاف هي مشكلة عامة تواجه الجميع. إنها على الأقل مشكلة كبيرة أمام عدم الإيمان كما هي أمام الإيمان. ولذلك كان من الغلط والشطط، رغم تفهم الأمر، أن تحسب أن نبذك للإيمان بالله سيجعل مشكلة الشر أسهل تقبلا وعلاجا بطريقة أو بأخرى.
وقد واجهتني مرة امرأة في كنيستي بان الأمثلة الإيضاحية المستعملة في العظات وفيها حوادث شر آلت إلى الخير. كانت تلك المرأة قد فقدت زوجها بفعل عنف جرى في أثناء سرقة. وكان لها أيضا بضعة أولاد يعانون مشاكل عقلية وعاطفية حادة. وقد أصرت على أنه مقابل كل قصة واحدة فيها يؤول الشر غلى الخير هنالك مئة ليس فيها جانب مشرق يمكن تصوره.
على هذا المنوال قد يبدو كثير من النقاش في هذا الفصل حتى الآن باردا وغير ذي موضوع بالنسبة إلى شخص يعاني في الحياة الفعلية. فإن شخصا كهذا قد يقول: “وماذا يعنيني إن كان الألم والشر لا يدحضان الله منطقيا؟ إني ما أزال غاضبا. فهذا التعليل الفلسفي كله لا يعفي إله المسيحية من شرك المسؤولية عن شر العالم ومعاناته!” ردا على احتجاج كهذا، يشير الفيلسوف بيتر كريفت (Peter Kreeft) إلى أن إله المسيحية جاء إلى الأرض لكي يضع نفسه عمدا في شرك المعاناة البشرية.
ففي يسوع المسيح، عانى الله أعمق أعماق الألم. ولذلك، فمع أن المسيحية لا تمدنا بالسبب الكامن وراء كل معاناة للألم، فهي تزودنا بموارد غنية كي نواجه فعليا الألم برجاء وشجاعة بدلا من المرارة واليأس.
مقارنة السيد المسيح بالشهداء
يبين سرد الأناجيل أن السيد المسيح لم يواجه موته المقترب بأي شيء شبيه برباطة الجأش وعدم التهيب اللذين كانا يتوقعان عموما من قبل بطل روحي. أما الشهداء المكابيون المشهورون الذين قاسوا الويلات تحت حكم أنطيوخس إبيفانيس (Antiochus Epiphanes) لسوريا قديما، فكانوا نماذج للشجاعة الروحية في مواجهة الاضطهاد. وقد اشتهروا بتحدثهم بشأن الله على نحو يتسم بالتحدي والثقة حتى حين كانت أطرافهم تقطع.
فقارن هذا بسلوك السيد المسيح، إذ يصور غاية في الانزعاج حيال موته الوشيك، حيث “… ابتدأ يدهش ويكتئب” وقال: “نفسي حزينة جدا حتى الموت” (مرقس 14: 33و 34). ويصف لوقا السيد المسيح قبل موته بأنه “كان في جهاد” ويصور إنسانا تظهر عليه جميع أمارت من يعاني صدمة بدنية (لوقا 22: 44). ويظهر متى ومرقس ولوقا كلهم الرب يسوع كمن يحاول أن يتجنب الموت، سائلأ الآب عن سبيل للتفادي منه (“إن شئت أن تجيز هذه الكأس” مرقس 14: 36؛ لوقا 22: 42).
أخيرا، على الصليب نفسه، لم يدع المسيح الناظرين بثقة لأن يكونوا أمناء تجاه الله، على غرار الشهداء المكابيين، بل بالأحرى صرخ بصوت عظيم معبرا عن ترك الله له (متى 27: 46).
فعلى الصليب قاسى يسوع موتأ على مدى ثلاث ساعات بالاختناق البطيء وفقدان الدم شيئا فشيئا. ولأن كان ذلك مؤلما على نحو رهيب، فقد حصلت ميتات أشد عذابا وهولا واجهها الشهداء بقدر من الثقة والهدوء أكبر بكثير. ولنا على ذلك مثلان شهيران في هيو لاتيمر (Hugh Latimer) ونيكولاس ردلي (Nicholas Ridley) اللذين أحرقا مشدودين إلى سارية في أكسفورد عام 1555 من أجل قناعاتهما الإنجيلية.
وبينما تصاعدت ألسنة اللهيب، سمع لاتيمر يقول بهدوء: “استرح وتعز، يا سيد ردلي، وكن رجلا بكل ما تحمل الكلمة من معنى! إننا اليوم سنضيء في إنكلترا، بنعمة الله، شمعة أثق بأنها لن تطفأ أبدا”. ترى، لماذا اضطرب السيد المسيح إزاء موته على نحو فاق فيه الآخرين، حتى أتباعه أيضا؟
معاناه الله
حتى نفهم تألم الرب يسوع كما يوصف في آخر كل إنجيل، علينا أن نتذكر كيف يقدم في البداية. فيوحنا كاتب الإنجيل في فصله الأول، يعرفنا بالمفهوم العجيب، لكن المهم، بشان الله من حيث كونه ثلاثي الأقانيم. فإن ابن الله لم يخلق، بل شارك في الخلق، وهو مقيم منذ الأول “في حضن الآب” (يوحنا1: 18) – أي في علاقة مودة ومحبة مطلقتين. غير أنه عند نهاية حياته على الأرض فصل عن الله أبيه.
ربما لا يوجد كرب داخلي أقسى من فقدان علاقة نحتاج إيها أمس الاحتياج. فإذا انقلبت عليك فتاة تعرفها معرفة سطحية، ونددت بك وانتقدتك، وقالت إنها لا تريد البتة أن تراك مرة أخرى، يكون ذلك مؤلما. وإذا فعلت مثل ذلك شابة تواعدها، كان الأمر أشد إيلاما على المستوى النوعي. ولكن إذا فعلت بك ذلك زوجتك، أو إذا فعله بك أحد أبويك وأنت صغير السن بعد، فإن الضرر النفسي يكون أسوأ بصورة غير محدودة.
غير أننا لا نستطيع أن نسبر أغوار ما يعنيه ليس فقدان الحب الزوجي فحسب، أو محبة الأب أو الأم بعد دوام سنين معدودة، بل محبة الآب غير المحدودة التي تمتع بها السيد المسيح منذ الأزل. فإن آلام السيد المسيح كانت لا تطاق حتما على نحو أزلي أبدي. وما تزال اللاهوتيات المسيحية تقر دائما بأن السيد المسيح، بصفته البديل الذي أخذ مكاننا، قد عانى الإقصاء اللانهائي عن الله ذاك الذي استحقه الجنس البشري.
ففي بستان جثسيماني، بدأت حتى بوادر هذا الاختبار تضع يسوع في حالة صدمة. وقد كتب العالم بالعهد الجديد بل لاين (Bill Lane): “أقبل يسوع ليختلي مع الآب في لقاء يسبق تسليمه، ولكنه وجد جنهم، لا السماء، منفتحة أمامه، فصعق[8]”. وعلى الصليب، كانت صرخة يسوع من جراء الهجران- “إلهي، إلهي، لماذا تركتتي؟”- عبارة علائقية في العمق. وقد كتب لاين أيضا: “تشتمل هذه الصرخة على أصالة لا هوادة فيها… فالسيد المسيح لم يمت منكرا الله.
فحتى في جحيم التبذ لم يتخل عن إيمانه بالله، بل عبر عن صلاة ضيقه بصرخة توكيدية “إلهي، إلهي”[9]. إنه استخدم لغة المودة بعد- “إلهي”- حتى عندما عانى الانفصال اللانهائي عن الله أبيه.
الفداء والآلام
كان موت السيد المسيح مختلفا على المستوى النوعي عن أي موت آخر. ولم يكن الألم البدني شيئا مقارنة بالاختبار الروحي للنبذ الكوني[10]. فالمسيحية وحدها بين أديان العالم تقول إن الله صار إنسانا في يسوع المسيح، على نحو فريد وكامل، ومن ثم اختبر مباشرة اليأس والرفض والوحدة والفقر والحرمان والعذاب والسجن. وعلى الصليب جاوز حتى أسوأ المعانيات البشرية وقاسى رفضا كونيا وألما يفوق ألمنا كما تفوق معرفته وقدرته معرفتنا وقدرتنا على نحو غير محدود.
ففي موته، تألم الله في محبة عجيبة، متوحدا مع حال المنبوذين و”الذين تخلى الله عنهم[11]”. ولماذا فعل ذلك؟ يقول الكتاب المقدس إن السيد المسيح جاء في مهمة إنقاذ للخليقة. وكان عليه أن يدفع ثمن خطايانا حتى يتسنى له ذات يوم أن يلاشي الشر والألم بغير أن يهلكنا.
فلنر على أين أتى بنا هذا. إن سألنا ثانية: “لماذا يسمح الله بأن يستمر الشر والألم؟” ونظرنا إلى صليب السيد المسيح، فلسنا نعرف ما هو الجواب بعد. غير أننا نعرف الآن ما ليس الجواب. فلا يمكن أن يكون أنه لا يحبنا. ولا يمكن أن يكون إنه لا مبال أو غير معني بحالنا. فالله يأخذ بؤسنا ومعاناتنا على محمل الجد فعلا، حتى إنه كان على استعداد لأن يأخذهما على عاتقه.
وقد فهم ألبر كامو (Albert Camus) هذا لما كتب: إن السيد المسيح، الإله- الإنسان، يتألم أيضا بصبر. فالشر والموت ما عاد ممكنا بعد أن ينسبا إليه كليا، إذ تألم ومات. والليل الذي اكتنف الجلجثة مهم جدا في تاريخ الإنسان، فقط لأن الألوهية، في ظلال ذلك الليل، تخلت ظاهريا عن امتيازها التقليدي، وعاشت أوجاع الموت، بما فيها اليأس، حتى النهاية. هكذا تفسر صرخة السيد المسيح “لما شبقتني؟” وارتيابه المروع في كربه[12].
وهكذا، فإذا اعتنقنا التعليم المسيحي بأن الرب يسوع هو الله، وأنه مضى إلى الصليب، تكون لنا عندئذ تعزية وقوة عظيمتان في مواجهة الحقائق القاسية المنوطة بالحياة على الأرض. إن في وسعنا أن نعلم أن الله هو حقا عمانوئيل- الله معنا- حتى في أشد آلامنا هولا.
القيامة والآلام
أعتقد أننا نحتاج إلى ما هو أكثر من المعرفة بوجود الله معنا في بلايانا. إذ نحتاج أيضا إلى رجاء بأن معاناتنا “ليست عبثا”. ألاحظت يومأ كيف تستميت أسر الأحباء المفقودين للإفصاح عن ذلك؟ فهي تجتهد لإصلاح القوانين أو تغيير الأحوال التي أدت إلى الوفاة. إنهم يحتاجون إلى التيقن بأن مصرع أحبائهم قد أدى إلى حياة جديدة، بأن الظلم أدى إلى عدالة أقوى.
فالإيمان المسيحي يقدم إلى المتألم موردا لا يتمثل فقط في تعليمه بشأن الصليب، بل أيضا في حقيقة القيامة. ويعلم الكتاب المقدس أن المستقبل ليس “فردوسا” لاماديا بل سماء جديدة وأرض جديدة. ففي الأصحاح الحادي والعشرين من سفر الرؤيا، لا نرى كائنات بشرية تؤخذ من هذا العالم إلى السماء، بل نرى بالأحرى السماء نازلة إلى هذا العالم المادي، مطهرة ومجددة ومكملة إياه. إن الرؤية اللادينية إلى الأمور لا ترى بالطبع أي إصلاح شامل في المستقبل بعد الموت أو التاريخ.
والديانات الشرقية تؤمن بأننا نفقد فردانيتنا ونعود إلى الروح الكلي، وهكذا تتبدد إلى الأبد حياتنا المادية في هذا العالم. حتى الأديان التي تؤمن بفردوس سماوي، تحسبه تعزية عن خسائر هذه الحياة وآلامها وجميع الأفراح التي كان يمكن أن تحصل فيها.
أما الرؤية التي يتضمنها الكتاب المقدس إلى الأمور فهي القيامة. إذ لا يرى مستقبل يكون مجرد تعزية عن الحياة التي لم نتمتع بها قط، بل استرداد للحياة التي طالما أردتها دائما. وهذا يعني أن كل أمر رهيب حدث أصلا لن يبطل ويصلح فحسب، بل أيضا- بطريقة من الطرق- سيجعل المجد والفرح النهائيين أعظم بعد.
منذ بضع سنين راودني كابوس رهيب إذ حلمت أن جميع أفراد أسرتي ماتوا. ولما استيقظت كان الانفراج عظيما- ولكن حصل ما يتعدى مجرد الانفراج بكثير جدا. فقد تعزز على نحو فائق فرحي بكل فرد في أسرتي. إذ نظرت إلى كل منهم وأدركت كم أني شكور من أجلهم، وكم أحببتهم حبا شديدا.
لماذا؟ لقد كبر كابوسي الفرح الذي انتابني أي تكبير. وبهجتي عند الاستيقاظ التهمت ذعري، إذا جاز التعبير، حتى إن محبتي لهم في الأخير كانت أعظم لمجرد أني فقدتهم ثم وجدتهم من جديد. وهذا العنصر الفعال عينه ينشط حين تفقد ممتلكا من الممتلكات كنت تقبله كأمر مسلم به. فعندما تجده من جديد (بعدما حسبته ضاع الى الأبد)، تعزه وتقدره على نحو أعمق بكثير.
اشتملت الفلسفة اليونانية (لا سيما الفلسفة الرواقية) على معتقد يحسب التاريخ دورة لا تنتهي. فمن شأن الكون، في أدوار متكررة أن ينهار ويحترق في حريق هائل يدعى “بالينجينيسيا” (Palengenesia)، على أثره يبدأ التاريخ من جديد بعدما يطهر. ولكن في متى 19: 28، تحدث السيد المسيح بشأن عودته إلى الأرض باعتبارها ال “بالينجينيسيس” (Palengenesis): “الحق أقول لكم… في التجديد (بالينجينيسيس في اليونانية) متى يجلس ابن الإنسان على كرسي مجده”.
فهذا كان مفهوما جديدا على نحو جذري. إذ أكد السيد المسيح أن عودته إلى الأرض ستكون ذات قوة فائقة حتى إن الكون والعالم الماديين بذاتهما سيظهران من كل فساد وضعف. فإن الكل سوف يشفى، وكل ما كان ممكنا أن يكون سوف يكون.
بعيد الذروة في ثلاثية سيد الخواتم (The Lord of the Rings)، يكتشف سام غامجي (Sam Gamgee) أن صديقه غاندالف (Gandalf) لم يكن قد مات (كما اعتقد سام) بل هو حى. إذ ذاك يهتف سام: “ظننت إنك مت! ولكن عندئذ حسبت أني أنا نفسي قد مت! فهل كل ما هو محزن سيتبين أنه غير صحيح[13]؟ وجواب المسيحية عن هذا السؤال هو نعم! سوف يتبين أن كل ما هو محزن ليس صحيحا، وسيكون أعظم بطريقة أو بأخرى لأنه كان في ما مضى قد انهار وبدد.
إن اعتناق عقيدتي التجسد والصليب المسيحيتين يأتي بتعزية عظيمة في مواجهة المعاناة. وفي وسع عقيدة القيامة أن تمدنا برجاء فعال جدا. فهي تعد بأننا سننال الحياة التي تقنا إليها أكثر الكل، ولكنها ستكون في عالم أمجد على نحو لا نهائي- عالم أمجد مما كانت عليه الحال لو لم تدع الحاجة قط (الرب يسوع) إلى الشجاعة أو الثبات أو التضحية أو الخلاص[14].
وقد أجاد دوستويفسكي (Dostoevsky) التعبير حين كتب:
اومن كطفل بأن الألم سوف يشفى ويعوض عنه، وأن سخف التناقضات البشرية المذل كله سوف يتلاشى كسراب هزيل، كالاختلاقات الخسيسة التي ينشئها عقل الإنسان الأقليدسي (نسبة إلى عالم الرياضيات الإغريقي إقليدس الذي وضع مبادئ الهندسة المسطخة (الجيومترية). ويقصد به هنا العقل الذي يؤمن بالعالم المادي المنظور والمحدود بأبعاده الثلاثة، دون الإيمان بالأبعاد اللامادية مثل الزمن والنفس والروح).
العاجز والصغير صغرا لامتناهيا، وأنه في خاتمة العالم، في لحظة التناغم الأبدي، سوف يحدث شيء ثمين جدا بحيث يكون مشبعا لكل قلب، وكافيا للتعزية عن جميع الاستياءات، وللتفكير عن جميع جرائم البشر، وعن جميع الدماء التي سفكها البشر، بحيث يصير ممكنا ليس الصفح عن كل ما قد حصل فحسب، بل تبريره أيضا[15].
وبمزيد من الإحكام، كتب سي. أس. لويس:
يقولون عن معاناه وقتية ما: “لا سعادة مستقبلية يمكن أن تعوض عنها”، غير عالمين أن السماء ما إن تبلغ حتى تعمل بأثر رجعي وتحول حتى ذلك الكرب إلى مجد[16].
هذه هي هزيمة الشر والألم النهائية. فهما لن يتلاشيا فحسب، بل سوف يقهران قهرا جذريا حتى إن ما قد حصل لن يعمل إلا على جعل حياتنا وفرحنا المستقبليين أعظم على نحو لا نهائي.
- انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
- هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!
- مختصر تاريخ ظهور النور المقدس
- عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث
- ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان
[1] Dialogues Concerning Natural Religion,ed. RichardPopkin (Hackett, 1980).
هذه المحاجة عرضها في شكلها الأكثر كلاسيكية ديفيد هيوم في المرجع التالي:
تبقى أسئلة أبيقور القديمة مفتقرة إلى الإجابة:
هل الله راغب في منع الشر ولكنه غير قادر على ذلك؟ إنه إذا غير كلي القدرة .
أهو قادر ولكنه غير راغب؟ إنه إذا غير محسن. أهو قادر وراغب معا ؟ فمن أين الشر إذا
[2] Ron Roosenbaum,”Disaster lgnites Debate: Was God In the Tsunami?” New York Observer, January 10, 2005 .
طبعا، إنما كان ماكي يفضل سؤالا قديما جدا، من أبيقور حتى ديفيد هيوم. راجع الحاشية 1 أعلاه
[3] W. P.Alston, “The Indective Argument from Evil and the Human Cognitive Condition, ” PhiliosophicalPrespectives 5: 30- 67. See also The Evidential Argument From Evil, Daniel Howard-Snyder, ed., (Indiana University Press, 1996) for an extensive survey of the a- theological argument from evil.
[4] خلاصة محاجة ماكي مؤسسة على محاجة دانيال هوارد- سنايدر في :
“God ,Evil, and Suffering,” in Reason for the HopeWithin, ed.M.J.Murray (Eerdmans, 1999),p.84.
ومقالة هوارد –سنايدرمقالة مراجعة ممتازةبحكم حقها الذاتي (الذي لايحتاج إلى تأييدمن خارجها) ، وهي تبين لماذا لايوجد حاليا توكيد ات جازمة بين الفلاسفة أن الشر والألم يبطلان برهان وجود الله.وبالحقيقة أن الكتاب الذي ألفه ماكي (1982) قد يكون آخر نتاج مهم قام بذلك
[5] The “no-see-um” argument and related issues to the problem of evil are treated in Alvin Plantinga, Warranted Christian Belief ( Oxford,2000) ,pp. 466-67. See Also Alvin Plantinga, “A Christian Life PartlyLived” in Philosophers Who Believe,ed .KellyJames Clark (I V P,1993),P.72.
[6] C. S. Lewis ,Mere Christianity(Macmillan,1960) ,p31.
[7] Alvin Plantinga, ” A Christian Life Party Lived,” Philosophers Who Believe, ed..Kelly James Clark (IVP,1993) ,P.73.
[8] William Lane, Tha GospelAccording to Mark (Eedrmans,1974), p.516.
[9] Ibid, p.573.
[10] يخلص جوناثان إدواردز إلى القول: ” أن الآلام التي احتملها المسيح بجسمه على الصليب
كانت الجزء الأقل بعد من آلامه الأخيرة ….فلو اقتصر الأمر على الآلام التي احتملها بجسمه، رغم كونها مروعة،ماكان في وسعنا أن نتصور أن مجرد توقعها كان له مثل هذاالتأثير في المسيح. لقد احتمل كثيرون من الشهداء عذابات في أجسامهم توازي آلام المسيح حدة وشدة …غير أن نفوسهم لم تعان ما عانته نفسه من انسحاق غامر.
See “Christ’s Agony,” The Works of Jonathan Edwards, vol.2, E. Hickman, ed.( Banner of Truth,1972).
[11] شهد تاريخ علم اللاهوت كثيرا من النقاش حول إمكانية أن يحوز إله سرمدي لامحدود “مشاعر” وتاليا يختبر الألم والحزن ويجادل جانب بامتناع الله من الألم، مصرا على أن كل لغة الكتاب المقدسمن هذا القبيل مجازية.اما الجانب الآخر مثل يورغنمولتمانفي كتابه “الإله المصلوب” فيجادل بخضوع الله للألم.
وهناك رأي متوازن في هذا الشأن يزودنا به
Don Carson, in The Difficult Doctrine of the Love of God (IVP,2000), PP. 66-73.
فإن كارسون يحاج بأن الله يعاني بالفعل الألم والحزن، غير أنه يتحفظ لهذه المواقف بمواصفات دقيقة وتوكيدات موازية .
[12] Essais (Gallimard,1965),p.444. Translated and quoted by Bruce Ward in “Prometheus or Cain? Albert Camus’s Account of theWestern Quest for Justic,” Faith and Philosophy (April 1991): 213.
[13] J. R . R.Tolkien, “The Field of Cormallen,” The Returne of the King (various editions).
[14] قد يكون هذا السببالذي يسر على جورج مكدونالد أن يقول :” لسنا نعلم أي قدر من المسرات تدين به للأحزان المتداخلة. فالفرح (وحده) لا يستطيع أن يكشف النقاب عن أعمق الحقائق، مع أن الحق الأعمق يجب أن يكون الفرح الأعمق “.
Phantastes : A Faerie Romance (Eerdmans,1981) ,p67.
[15] Fyodor Dostoevsky, The Brothers Karmazov, Chapter 34.
أعتقد أنه ينبغي أن نذكر أن دوستويفسكي لايقول إنه سيكون ممكنا أن نبرر الشر بحد ذاته. ربما استعمل الله الشر للاتيان بخير أعظم بعد مما يكون لو لم يحدث الشر، غير أنه رغم ذلك يتبقى شرا ومن ثم فهو غير قابل للتبرير والتسويغ.
[16] C. S. Lewis, The Great Divorce (Macmillan, 1946), p.64.
[i] داء كرونز هو إلتهاب يصيب الأمعاء وقد يؤثر في أي من أجزاء القناة الهضمية من الفم إلى الشرج.