هل الله عنيف ومنتقم ؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم
هل الله عنيف ومنتقم ؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم
“في البدء…” كان العنف، هكذا عبّر الفيلسوف الفرنسي روچيه دادوون في عرضه لسفر التكوين[1]. في واقع الأمر يبدو أن صورة الله، منذ بداية الكتاب المُقدّس. قد اختلطت بسلوكيات عنيفة. ألا يبدو الأمر كذلك بطريقة ما في حادثة القتل الأولى في حياته البشرية؟ القراءة الأوليّة لقصة قايين وهابيل الذائعة الشهرة يبدو أنها ترسخ هذا الانطباع.
مولد العنف: قايين وهابيل
مع الإصحاح الرابع من التكوين، وضعت الرواية الكتابيّة العنف والقتل في مصاف البدايات؛ فالتكوين ليس قصة بسيطة عن أسرة، إنما هي رواية تسعى وراء شرح أصل العنف. لقد كُتبت رواية قايين وهابيل تبعاً لخبرة عنف موجود في كل مكان وتحاول إمداد القارئ بإجابة فيما يخص أصل العنف وإرادته. قبل التعامل مع هذا النص الصعب. لنلاحظ أيضاً أن تكوين ٤ يقدم موقفاً مختلفاً عن ذلك الموجود في الرواية السابقة والذي يسرد قصة خلق الإنسان وطرد الزوجين الأولين في البشرية من الجنة. بحسب تكوين ٣، كان يجب أن يكون قايين وهابيل، مع والديهما البشر الوحيدين الموجودين على الأرض، بينما يذكر تكوين ٤، كما سوف نرى، أرضاً كثيرة السكان. إذن فقصة قايين وهابيل تمّ إدراجها في قصص بدايات البشرية؛ لأن قارئ هذا النص كان قد فهم أن العنف مرتبط برباط لا ينفصم بحالة البشرية ربما كان ذلك القارئ يعيش في حوالي القرن السابع ق. م. وهي مرحلة شهدت تنامياً للعنف في ظلال احتلال الآشوري. ولفهم تكوين ٤ بصورة جيدة، من المناسب قراءة الإصحاح في جملته وعدم التوقف أمام عدد ١٦ كما نفعل دائماً.
1 وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ». 2 ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَخَاهُ هَابِيلَ. وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلاً فِي الأَرْضِ. 3 وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، 4 وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، 5 وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. 6 فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ 7 إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا». 8 وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. 9 فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» 10 فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. 11 فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. 12 مَتَى عَمِلْتَ الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ». 13 فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. 14 إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي». 15 فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ. 16 فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ. 17 وَعَرَفَ قَايِينُ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَنُوكَ. وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ. 18 وَوُلِدَ لِحَنُوكَ عِيرَادُ. وَعِيرَادُ وَلَدَ مَحُويَائِيلَ. وَمَحُويَائِيلُ وَلَدَ مَتُوشَائِيلَ. وَمَتُوشَائِيلُ وَلَدَ لاَمَكَ. 19 وَاتَّخَذَ لاَمَكُ لِنَفْسِهِ امْرَأَتَيْنِ: اسْمُ الْوَاحِدَةِ عَادَةُ، وَاسْمُ الأُخْرَى صِلَّةُ. 20 فَوَلَدَتْ عَادَةُ يَابَالَ الَّذِي كَانَ أَبًا لِسَاكِنِي الْخِيَامِ وَرُعَاةِ الْمَوَاشِي. 21 وَاسْمُ أَخِيهِ يُوبَالُ الَّذِي كَانَ أَبًا لِكُلِّ ضَارِبٍ بِالْعُودِ وَالْمِزْمَارِ. 22 وَصِلَّةُ أَيْضًا وَلَدَتْ تُوبَالَ قَايِينَ الضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ. وَأُخْتُ تُوبَالَ قَايِينَ نَعْمَةُ. 23 وَقَالَ لاَمَكُ لامْرَأَتَيْهِ عَادَةَ وَصِلَّةَ: «اسْمَعَا قَوْلِي يَا امْرَأَتَيْ لاَمَكَ، وَأَصْغِيَا لِكَلاَمِي. فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلاً لِجُرْحِي، وَفَتىً لِشَدْخِي. 24 إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، وَأَمَّا لِلاَمَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ». 25 وَعَرَفَ آدَمُ امْرَأَتَهُ أَيْضًا، فَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ شِيثًا، قَائِلَةً: «لأَنَّ اللهَ قَدْ وَضَعَ لِي نَسْلاً آخَرَ عِوَضًا عَنْ هَابِيلَ». لأَنَّ قَايِينَ كَانَ قَدْ قَتَلَهُ. 26 وَلِشِيثَ أَيْضًا وُلِدَ ابْنٌ فَدَعَا اسْمَهُ أَنُوشَ. حِينَئِذٍ ابْتُدِئَ أَنْ يُدْعَى بِاسْمِ الرَّبِّ. (تك ٤: ١-٢٦)
النص غامض في أكثر من موضع، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى صعوبة ترجمته، ربما وتعكس هذه الصعوبة الإشكالية التي يواجهها القارئ في الوصول إلى ظاهرة العنف والدور الذي يلعبه الله فيها. بالتحديد تحتوي القصة على ثلاثة أجزاء يبدأ كل منهما بمقدمات متوازية في الأعداد ١، ١٧، ٢٥ (“وعرف آدم/ قايين امرأته”).
يبرز الجزء الأول (ع١- ١٦) جريمة قتل الأخ وتداعياتها. ويبدأ الجزء بطريقة مدهشة للغاية بإعلان حواء إذ تقول: “اقتنيت رجلاً من عند الرب”. يظهر الله هنا كالأب الثاني لقايين. كيف لنا أن نفهم مثل هذه العبارة؟[2] هل يتعلق الأمر هنا بوهم لدى حواء التي ابتغت الارتفاع إلى نفس مستوى الله (في تكوين 3 وعدها الشيطان بالفعل أنها وزوجها سيكونان مثل الله)؟
لكن كان يجب من البداية إضافة أصل مزدوج على قايين عن الله والأرض معاً. فمن جهة ابيه آدم. هو أبن الأرض (في العبرية آدماه Admah). فالعنف يبدأ انطلاقا من تباعد مزدوج لقايين. فلم يعد له علاقة مباشرة مع الله أو مع الطبيعة. بالإضافة إلى ذلك. تذكرنا كلمة “خلق” (قنا Qanah في العبرية) باسم قايين. فقايين القات لسوف يصبح كذلك خالقاً. خالقاً للحضارة. يشير اسم قايين في الواقع إلى كلمة “رمح” “حداد” أو “صانع” في مقابل قايين. يلعب هابيل. أخوه الأصغر دوراً باهتاً للغاية. لم يكن أحد ليرضى. في وقت تحرير هذا النص. تسمية ابنه باسم “هابيل”. إذ أن الكلمة العبرية كانت تعني “نجار”، “ريح خفيفة”، “باطل” (كانت الأباطيل، هي اللازمة التي انتشرت في كل سفر الجامعة: “باطل الأباطيل، الكل باطل”). كان اسم هابيل إذن يحم لكل خبرة هشاشة الوجود الإنساني. ويقول النص عن هابيل إنه قبل كل شيء كان أخاً. ويمثل صراع الأخوة موضوعاً متكرراً في الأدب العالمي، ويعتبر واحداً من القصص المتكررة في سفر التكوين (إسماعيل-إسحاق/ عيسو-يعقوب/ يوسف-إخوته). توفر قصة تكوين ٤ الافتتاحية الدموية لهذا الصراع، وهو لا يرتبط بمهنتي الأخوين المختلفتين (قايين المزارع ضد هابيل راعي الغنم) كما نردد دائماً، لكنه وُلد من رحم خبرة عدم المساواة.
هل يحرض الله على العنف؟
في واقع الأمر، قبل الله ذبيحة هابيل ورفض تلك التي قدمها قايين. كيف استطاع الأخوان إدراك هذا القرار الإلهي؟ لا يخبرنا النص شيئاً عن ذلك. كما أنه يبقى صامتاً كذلك حول الدافع وراء إختيار الله ذلك. لقد دأبنا دائماً على تشويه قايين بأن سلمنا على سبيل المثال بأن قايين قدم ذبيحة بمستوى أقل. أو أن الله قد فضّل هابيل لأن حواء كانت تفضل قايين. لكن الكاتب يُبقي الأمر مفتوحاً، وينبغي علينا قبول ذلك والالتفات إلى الحقيقة وهي أنه ليس هنال كأمر منطقي وراء التفضيل الإلهي. فهذا التفضيل يجد أساسه الوحيد في القول الإلهي في خروج ٣٣: ١٩ « فَقَالَ: «أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ». خلف هذا التوجه الإلهي، تختبئ الخبرة الإنسانية اليومية: الحياة ليست عادلة ودائما لا يمكن توقع ما تأتي به، كما أنها مؤسسة بجملتها على عدم المساواة الذي يكون دائما غير منطقي ولا يمكن تفسيره في تكوين ٤ يواجه الله قايين بهذه الخبرة التي على كل إنسان اجتيازه في حياته. وبحسب تكوين ٤: ٢٥، فقد تولّد العنف من عدم قدرة قايين على قبول عدم المساواة. إلا أن اختلاف المعاملة لا تعني أن الله قد رفض شخص قايين، لأنه تحدث إليه. فهو يخاطبه كأب عندما ينبهه في آية شديدة الغموض[3]. على عدم الخضوع للخطيئة. في تكوين ٤: ٧ تظهر كلمة “الخطيئة” لأول مرة على صفحات الكتاب المقدس. بحسب النص الكتابي. “الخطية الأصلية” إذن لم تكن “قصة التفاحة“. بمعنى عصيان النهي الإلهي في تكوين ٣[4] فالخطية الحقيقية هي ترك المجال للعنف. ولهذا الأمر يستنفر الله مسئولية قايين مشجعاً إياه على عدم ترك نفسه فريسةً لهذا العنف.
إلا أن قايين لم يتمكن من إدارة العنف؛ فالنص العبري يشير إلى انقطاع في العدد الثاني: “وكلم قايين هابيل أخاه…” لكن ليس هنالك سرد لمحتوى النقاش. تضيف بعض الترجمات القديمة عبارة: “لنذهب إلى الحقول”. لكن يمكننا فهم هذا الإنقطاع بصورة أخرى. فلا شك أن الراوي أراد الإشارة إلى أن قايين أراد الحديث مع شقيقه في أعقاب التحذير الإلهي، لكنه لم يتمكن من ذلك. إن جريمة القتل الأولى مرتبطة بعدم القدرة على التواصل. كما أنها ترمز في نفس الوقت إلى فشل الذبيحة؛ فبدلاً من أن تنتج السلام (أنظر تعبير “راحة طيّبة/ مرضيّة” المستخدم في النصوص الكهنوتية لوصف عمل الذبيحة). فإنها أدّت إلى انفجار العنف.
والله، كما في تكوين ٣، يحضر فجأة ليسائل ويعاقب. وتم تفسير إجابة قايين الشهيرة: “أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟” دائماً على كونها ساخرة، إن لم تكن تهكميّة” على شاكلة: “لم يطلب مني أحد ملاحظة أخي”. وكان الأمر متعلقاً بصرخة يائسة: كيف لي أن أكون حارساً لأخي؟ فيواقع الأمر ينطبق الجذر العبري الذي منه اشتقت كلمة “حارس” دائماً على طاعة القوانين. والحال هكذا، فإن رواية القتل لم يسبقها تحريم رسمي فيما يختص بالقتل على فم قايين يظهر اضطراباً سياسياً وأخلاقياً أمام العنف، وهذا الاضطراب يتصل بحاضرنا، فمثل قايين نحن لا نعلم دائماً كيفية مواجهة تفجر العنف، فرديا كان أم جماعياً.
إدارة العنف
كان قايين إذن مهدداً بفقدان كل سماته. لقد أعلن له الله أنه منذ ذلك الحين فصاعداً سيكون تائهاً، محروماً من كل علاقة له مع الأرض. أمام هذا الخطر عاد قايين إلى الله وتمت إعادة النظر في الدينونة. فقد صرخ القائل: “ذنبي awan أعظم من أن يحتمل” (ع١٣). الكلمة awon قد تشير إلى الخطية، أو الجريمة، أو العقاب. لقد أدرك قايين أنه قد أطلق دائرة العنف: “فيكون كل من وجدني يقتلني” (ع١٤). فذاك الذي قام بالقتل يخشى الآن أن يُقتل بدوره. وهنا تدخل الله ليحمي القاتل، وبطريقتين: بدايةً، بأن أعلن عقوبة انتقام كامل (سبع مرات) على أي شخص يقوم بقتل قايين، وثانياً، من خلال علامة تمنع قتله. لا يخبرنا النص بطبيعة هذه العلامة. ما يهم القارئ هو التنبير عن حقيقة أن الحياة الإنسانية، حتى لو كانت حياة قاتل، إنما هي مقدسة. فليس من حق أي كائن بشري أن يسلب حياة إنسان آخر. ويعارض كاتب تكوين ٤ فكرة انتقام الدم التي تظهر على سبيل المثال في تكوين ٩: ٦ ” سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ. “. يمكننا أن نرى في تكوين ٤: ١٥ دفاعاً من أجل إلغاء عقوبة الموت. فبكل طريقة ممكنة، يخلق الله هنا اوضاعاً ملائمة لمستقبلٍ آتٍ بالرغم من جريمة القتل الأولى. ورغم الإعلان عن تيهانه. فإن الله قد سمح لقايين بالسكن في أرض نود* وهو اسم. مبني على لعب بالكلمات بين الأسماء والفعل “يتوه”.
وقد سمح استقرار قايين بظهور الحضارة. كما يبين القسم الثاني من الرواية (ع ١٧- ١٤).
العنف والحضارة
خطي قايين القاتل بمستقبل، إذ تولد منه سبعة أجيال. ومع نهاية هذه الذرية. وُلد يابال وتوبال اللذان، كما يوضح التشابه في اسميهما. كانا توأمين يمتهنان مهنتين مختلفتين مثل قايين وهابيل. فهل يشي الأمر هنا بإمكانية وجود بداية جديدة. أم أن التاريخ سوف يعيد نفسه؟
بحسب الرواية الكتابية، بدأت الحضارة والتقدم التقني مع أحفاد قايين. لقد شيَّد قايين المدنية لأولى واخترع نسلها الموسيقى والتعدين. وهكذا فالعنف لم يمنع التطور أي الحضارة. ربما يمكننا الذهاب إلى ابعد من ذلك لنتساءل عما إذا كانت هنالك حضارة دون عنف، إن تكوين٤ لا يدين الثقافة. لكنه يوضح بالحري أنها تتأتى من خلال إدارة رشيدة حيث تبزغ الشمس، ترمز إلى الحياة، إلى الأمل فالحياة ظلت ممكنة بالرغم من العنف. لكنها ظلت هشة ومهددة كما يوضح لنا العددان ٢٣، ٢٤.
يقدم هذا العدد ان أغنية تباهٍ ينشدها واحد من نسل قايين الذي يشوه علامة قايين، فهو يتفاخر بأنه قتل لمجرد إصابته بجرح بسيط وبأنه قد أطلق دائرة العنف.
ولذلك يعود القسم الثالث من الرواية (ع ٢٥، ٢٦) إلى آدم وحواء اللذين قدما بديلاً عن هابيل. فسوف يصبح شيث أب اًلأنوش الذي يعني ببساطة “إنسانية“. فهل تنتهي القصة بأمل في إنسانية جديدة؟ يقول لنا الراوي إنه مع أنوش ابتدئ أن يُدعى باسم الرب. وهو هنا يجري مقابلة بين الدعوة باسم يهوه والتقدمة التي قدمها قايين وهابيل. وهكذا، ففي سبيل إدارة العنف، دُعيا الإنسان إلى عبادة أساسها الكلمة، تترجم فعلياً في العهد القديم من خلال قراءة الشريعة والسعي وراء منظومة أخلاقية مناسبة.
العنف والوضع البشري
يقدم لنا تكوين ٤ إذن تأملاً حول العنف كجزء من الوضع البشري بحسب راوي النص، وُلد هذا العنف من رحم حقيقة أن الإنسان لم يحتمل الاختلاف وعدم المساواة، إلا أن الله لم يكن غريباً عن هذا العنف بما أنه عرّض الإنسان لاختبار عدم المساواة. لكن الله يريد كذلك أن يكتسب الإنسان مهارة إدارة العنف من خلال مقاومة تصعيده. إن العنف، مع الحرية والمسئولية، يمثل جزءاً من الكائن البشري. وكما أن الله ليس غريباً عن أي من جوانب الحياة الإنسانية، فهو كذلك متداخل في العنف، مع إعطائه للإنسان دروباً للخروج منه. إن إدارة العنف لا تفترض أبداً إنكاره أو منعه من الوجود في الصراعات التي تزعزع حياتنا وعصرنا. إن مواجهة العنف تعني الاختلاط به. وقد عبرت آن سيلڤستر قائلة: “كيف يمكن حفظ شعلتك دون أن تحترق يدي؟”[5].
إله الإنتقام؟
ويمكن إدراك الدعوة إلى الانتقام على كونها عنف لفظي في غاية القوة. إن لم تكن صادمة. يحتوي سفر المزامير على بعض مزامير الانتقام التي تمثل صعوبة كبيرة أمام القارئ. في هذه النصوص، يتم توجيه الدعوة لله لكي يعاقب أعداء المرنم بقسوة وفي بعض المزامير نجد ألقاباً إلهية مثل “إله منتقم” (مز ٩٩: ٨) أو “إله النقمات” (مز ٩٤: ١) مرفقة بصور قاسية تماماً. هذه الدعاوى للانتقام تظهر من جهة في مزامير يتحدث فيها الفرد لله. ومن جهة أخرى، في مزامير تحتوي على صلوات جماعية.
الدعوة للانتقام في المزامير الجماعية
يُعدّ مزمور ١٣٧ الذي يعود تاريخه إلى الحقبة الفارسية (القرنين السادس والخامس قبل الميلاد) من المزامير الجماعية التي تسجل ذكرى الشعور باليأس الذي أصاب اليهود المسبيين في بابل: “على أنهار بابل[6] هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون” (ع١). هذا المزمور من مزامير صهيون؛ حيث نجد بؤرة التركيز هي الشوق للتواجد في أورشليم بالقرب من إله إسرائيل. تحمل الأعداد الأولى من هذه الأغنية جمالاً أخاذاً، مما يفسر استخدامها في الترانيم المسيحية. ولكن في المقابل، عندما نصل إلى نهاية هذا المزمور. لا يسعنا إلا أن نصاب بالصدمة بسبب الأمنية الأخيرة التي يعبر عنها الكاتب تجاه بابل: “يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا! 9 طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ!” (ع ٨، ٩). لم نكن لنصاب بالدهشة لو أن هذه الخاتمة قد تم التعبير عنها على طول مزمور ١٣٧. هل ينبغي علينا، أو هل يمكننا أن نلمس بعضاً لهذه الدعوات الانتقامية؟ إن محتوى مزمور ١٣٧: ٨، ٩ ينبغي فهمه على كونه تعبيراً عن ضيق عميق. فالله وعدالته قد ظهرا بعيدين جداً وقد عم الشعور بالانكسار أمام القوة الأجنبية. فماذا بقي أمام أولئك المقهورين الذين لم يمتلكوا مجرد وسائل ملموسة للثورة؟ لم يكن أمامه سوى إمكانية التمرد اللفظي. وهكذا ندرك أن الأمر لم يمكن أن يكون رغبة مدروسة أو صحيحة أخلاقياً وسياسياً، يعبر العدد ٩ عن الأمل في اختفاء قوة القهر. وألا تجد في الأجيال الجديدة من يستخدمها، بهذه الطريقة علينا أن نفهم هذه الدعوة القاسية: فهي تعكس موقفا من الضيق الشديد لم يكن ممكنا تجاهه سوى التعبير عن المعاناة بهذه الصرخة. لكن الانحراف يأتي عندما نحول صرخة اليأس هذه إلى برنامج سياسي من ظم للتخلص من الأعداء؛ فخارج السياق لا يمكن قبول هذه الدعوات الانتقامية، ومن الحكمة بمكان، دون شك، عدم قراءتها في احتفاليات ليست لها علاقة بموقف المرنم في المزمور.
هل يجوز لنا الحديث عن إله متصف؟
هذه ليست دعوة لحذف كل النصوص التي تتحدث عن إله عنيف ينتقم لشعبه من أعدائه. من الكتاب المقدس كما على سبيل المثال ما يرد في مزمور 136: ” اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ… ٱلَّذِي ضَرَبَ مُلُوكًا عُظَمَاءَ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. وَقَتَلَ مُلُوكًا أَعِزَّاءَ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.” (ع1، 17، 18).
وهكذا كان يمكن الغناء بعد سقوط الحكم الشيوعي الشمولي: اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ.. لأنه أباد نهائياً الجيش السادس الميداني أمام أبواب ستالينجراد لأن إلى الأبد رحمته…
لأنه أفضى بالنازية الألمانية إلى الدمار لأن إلى الأبد رحمته”[7].
هل لنا الحق في إدانة مثل هذه الرؤية المعاصرة؟ إذنا لأمر؟ إذن الأمر هنا ليس تحليلاً محايداً ومتباعداً عن الأحداث. إنما هو تعبير واضح يتركز على قناعة مركزية في التقليد الكتابي: إن الله يتدخل لصالح المظلومين من خلال مواجهته القاسية للظالمين {اُنظر أغنية حنة في العهد القديم (١صم ٢: ١-١٠) وأغنية مريم في العهد الجديد (لو ١: ٤٧-٥٥)}. بعض النصوص الكتابية التي تتحدث عن تدخل إلهي عنيف قد تكون مناسبة لمن يجدون أنفسهم في موقف ظالم أو الذين خرجوا لتوهم من تحت ظلم معين[8] وفي المقابل فمن غير المقبول استخدامه البناء لاهوت يقبل بطريقة عقائدية منظمة فكرة تدمير البعض في سبيل خلاص البعض الآخر.
حتى هذه النقطة قمنا بدراسة المزامير التي تعبر عن رأي جماعة، لكن هناك بالمثل دعوات انتقامية تعبر عن موقف فردي.
مزامير الانتقام الفردية
يعكس مزمور ٥٨ موقف فرد محاط بالأردياء الذين يستخفون بالعدالة وبحقوقه:
” اَللَّهُمَّ، كَسِّرْ أَسْنَانَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمِ.. يَفْرَحُ الصِّدِّيقُ إِذَا رَأَى النَّقْمَةَ. يَغْسِلُ خُطُواتِهِ بِدَمِ الشِّرِّيرِ. وَيَقُولُ الإِنْسَانُ: «إِنَّ لِلصِّدِّيقِ ثَمَرًا. إِنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ قَاضٍ فِي الأَرْضِ» ” (٥٨: ٦, ١٠, ١١).
من الصعب احتمال كلمات مثل هذا النص، ولا يغير من الأمر شيئاً حقيقة وجود صلوات شبيهة لدى جيران إسرائيل في البداية. نرى أن هنا، كما في مزامير أخرى، يعتبر الكاتب أعدائه أعداءً لله. وهنا يكمن الخطر إذ أن مثل هذا التوحيد بين مصالح البشر والله يمكن أن يكون مصدراً للتعصب لأعمال عنف مروعة. لكن يجب كذلك ملاحظة أن المرنم يلقي نفسه في حضن الله فيما يتعلق باختيار الانتقام على الله مما يسمح للإنسان بإجراء نوع من التنفيس عما بداخله. فهو يتمكن من التخلص من رغباته الشخصية في الانتقام مما لا يسمح بانفجار العنف. في قصة قايين وهابيل تحدث الله عن الانتقام ليحول دون أن يتعرض قايين القاتل للقتل بدوره. وقد استوعب الرسول بولس هذه الآلية جيداً؛ إذ يقول: ” لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. ” (رو ١٢: ١٩ مقتبساً من تث ٣٢: ٣٥).
إله الانتقام أم إله المحبة؟
لا تهدف هذه الملاحظات إلى الحط من قدر النصوص الكتابية التي تدعو إلى الانتقام الإلهي. علينا أن ندعم هذه النصوص، لكن علينا كذلك أن نبقى واعيين لحقيقة أن مثل هذه الكلمات ليست مناسبة لجميع المواقف، يوضح لنا الكتاب المقدس أننا لا يمكننا أن محد الله في مفهوم قياسي يكون فيه بمثابة المعارض لكل من لا يتفقون معه. وتظهر رواية الطوفان (تك ٦-٩) حراكاً ما في هذا الشأن. ففي البداية تعامل الله مع بشرية عنيفة من خلال عنف الطوفان، لكن في نهاية الأمر، منع الله عن نفسه إمكانية تكرار مثل هذا الإنتقام: “لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضاً أميت كل حي كما فعلت” (تك ٨: ٢١).
منذ البدء نبر الكتاب المقدس عن تفوق المحبة الإلهية في توازن عجيب مع النصوص التي تتحدث عن إنصاف الله. وهذا ما يعلن عنه هوشع بوضوح إذ نقرأ: “ لاَ أُجْرِي حُمُوَّ غَضَبِي. لاَ أَعُودُ أَخْرِبُ أَفْرَايِمَ، لأَنِّي اللهُ لاَ إِنْسَانٌ، الْقُدُّوسُ فِي وَسَطِكَ فَلاَ آتِي بِسَخَطٍ.” (هو ١١: ٩).
[1]R. DADOUN, La violence, Essi sur L» homo vicolens», Paris, 1933, p.0.
Quelques pistes sont développées dans Le Monde de la Bible 105, 1997, consacré a 1’histoire de Caïn et A bei.[2]
[3]يأتي غموض عدد ٧ على وجه الخصوص في أن كلمة “خطية” مؤنثة بينما باقي صيغا لأفعال تأت يفي الأسلوب المذكر.
[4]دون الرغبة في الدخول في تحليل هذا النص هنا، دعونا نلحظ فقط أن عصيانا لأمر الإلهي في تك ٣ لا يجب أبداً وصفه بالخطية الأصلية؛ فمن خلال القراءة المتأنية لهذه الرواية نستنتج أن عصيان حواء وآدم كان غالبا لأمر ضرورياً للتوكيد على هوية واستقلالية البشرية.
[5]أُعبر هنا عن إمتناني للأخ فرانسوا من دير الصخرة الدائرة الذي قام بتعريفي هذه الأغنية.
[6]كانوا يرنمون على ضفاف النهر.
[7] Je dois au Francois de 1>Abbaye de La Pierre-qui – Vire de m>avoir fait connaitre cette chanson
[8] يمكننا في هذا المجال أيضاً ذكر الدراسة التي قام بها اللاهوتي الأمريكي اللاتيني إنستو كاردينال حول مزامير الإنتقام.