Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

هل الله طاغية ومحارب؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

هل الله طاغية ومحارب؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

هل الله طاغية ومحارب؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

“Gottmituns” أي “الله معنا” إنتشر هذا الشعار، في زمن الحرب العالمية الأولى، على شفاه فيالق الجنود الألمان. فقد إقتنع هؤلاء، على أساس الإيمان بمحتوى العظات النارية لرجال الكنيسة، بأنهم كانوا يشنون حرباً عادلة أرادها الله. إن إضفاء الشرعية على الحروب وإبادة شعوب بأكملها يمثل خطاً تاريخياً ثابتاً للأسف في المسيحة ولا مجال هنا لسرد المزيد من الأمثلة.

فمنذ الحروب الصليبية و حتى الصراع في البوسنة، كانت المناداة بإله محارب يطلب الخضوع له، تجد الأساس السهل لها في العديد من نصوص العهد القديم، حيث كان موضوع الإله المحارب و السيد الوحيد يمثل جزءاً لا يستهان به، لكن سيكون الأمر كذلك عرضةً ابتذال تلك النصوص من خلال محاولة روحتنها (الله يدعو للمعركة ضد عبادة الأوثان) وسيكون الأمر كذلك عرضة للشك لاهوتياً إذا ما رفضنا إله الحرب في العهد القديم وقارناه بإله المحبة في العهد الجديد[33].

وتوجد المفاهيم الحربية والمستبدة التي ربطها الكثيرون بالله على وجه الخصوص في سفر التثنية وفي قصص الغزو في سفر يشوع: أي في أسفار تمثل جزءاً من لوحة تاريخية ممتدة في التثنية وحتى الملوك الثاني. يدعو المختصون هذه اللوحة بالتاريخ التثنوي. وكما رأينا قبلاً تعود أصول اللاهوت التثنوي إلى مملكة يهوذا في القرن السابع قبل الميلاد. وتتصف هذه الحقبة بهيمنة الإمبراطورية الآشورية على عالم الشرق الأدنى القديم.

منذ فترة حكم تغلث بلاسر (745 -727) تم إدراج منطقة سوريا وفلسطين في الإمبراطورية الآشورية، وكان على مملكة إسرائيل دفع الجزية منذ عام 738، وبداية من عام 722 (سقوط السامرة) فقدت إستقلالها وتحولت إلى مقاطعة آشورية. وبالنسبة لملك يهوذا، فقد أصبح تابعاً للملك الآشوري في عام 734. وتم إخضاع دويلات سوريا وفلسطين الصغيرة لما يسمى بالـ Pax assyrica، الذي كان نوعاً في السوق المشتركة وكان إنشاء بنية تحتية حقيقية (طرق صالحة للأغراض الحربية والتجارية، نظام يربط العاصمة بأطراف الدولة) مقدمة لحراك ليس له مثيل في تاريخ بلاد ما بين النهرين يضاف إلى ذلك تجديدات أخرى: ضم جنود الدول التابعة في الجيش الآشوري ونقل جزء من الشعوب المستعمرة.

وفي واقع الأمر كان هذا الإجراء يستهدف على وجه الخصوص طبقة المثقفين: (الموظفين، الكتبة، العسكريين ذوي الأهمية، الكهنة، العمال المهرة)[34] وذلك بهدف منع إحتمالات القيام بالثورات. وكان يتم إحلال أولئك المسبيين إما بموظفين آشوريين أو بمجموعات أخرى من الأغراب الذين لا يستطيعون التعاون مع الإدارة الآشورية في الموقع وقد فجرت العناصر الثقافية و الدعاية الآشورية “صدمة ثقافية”[35] في إسرائيل ويهوذا، كما في الممالك الصغيرة المجاورة، التي كانت حتى تلك اللحظة في مأمن من السياسة الدولية الضخمة. وقام الآشوريون بإصدار منشورات قضائية يطالب فيها ملك أشور بالخضوع الكامل من جانب رعاياه ويحتفي بالإنتصارات الآشورية والقضاء على جميع أعداء آشور.

ويمثل إنتشار الأيديولوجية الآشورية النموذج الأول لعولمة ثقافة سائدة، ويمكننا القول دون مبالغة إن تلاقي المفكرين اليهود مع الفكر الآشوري قد أثر بشدة وبطريقة حاسمة على تكوين العهد القديم.

في القرن السابع قبل الميلاد، شهدت أورشليم إزدهاراً إقتصادياً باهراً ونما عدد سكانها نمواً كبيراً، ويمكننا أن نرى في ذلك تأثير آشور للسامرة [36] ويمثل حكم يوشيا (640 -609 ق.م) في غالب الأمر ذروة هذا التطور فقد إستفاد من الضعف المتزايد للحضور الآشوري في فلسطين، وقام ومستشاروه بإصلاح سياسي ولاهوتي. فقد تم إعلان هيكل أورشليم مكان العبادة الشرعي الوحيد مما سهل عملية التحكم في أفراد الإكليروس والضرائب. وفي تلك الحقبة، حيث الحس الوطني القوي، تم تحرير نسخة أولى من سفر التثنية. وقد رافقت هذه الخطوة وأيدت وبررت التغيرات التي قام بها البلاط الملكي وأيدتها وبررتها. وكما سنرى، فإن تأثير الأيديولوجية والآشورية وأسلوبها كان فاعلاً فيها بسهولة.

شعب يهوه كتابع حالة التثنية

إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ.” (تث 6: 4، 5) هذه الدعوة التي أصبحت قانون الإيمان الأساسي لليهودية والذي لا يزال المؤمنون يرددونه حتى اليوم، تمثل دون شك إفتتاحية سفر التثنية المناسبة في القرن السابع قبل الميلاد. لن ندخل هنا في مناقشة حول معنى “رب واحد”. فهذا التوكيد تم توجيهه لمتلقين كانوا يعبدون يهوه بأشكال كثيرة وفي هياكل كثيرة. يشدد التثنية على وحدانية يهوه. ويعود التوكيد على أن يهوه واحد غير منقسم، فيجب أن تكون المحبة له كاملة وغير مجتزئة.

لكن ما معنى القول: “تحب الرب إلهك”؟ هل يسوغ إصدار أمر بالحب؟ أي محب سوف يقول لك إن هذا مستحيل. من الواضح أن الفعل “يحب” هنا لها معنى لا يرتبط بالمشاعر أو العاطفة. ففي واقع الأمر في تثنية 10: 12 ترتبط الدعوة إلى محبة الله بأفعال مثل “تتقي” و”تسلك” و”تعبد”. تنتمي هذه المصطلحات بمعاني الإخلاص و الخضوع، ونجد توازيات مدهشة لوصية المحبة هذه في معاهدات التبعية الآشورية[37] حيث كان يجب أن يكون الملك الكبير موضوع محبة رعاياه.

“تحب آشور بانيبال …. إبن آسرحدون، ملك آشور كنفسك” (معاهدة آسرحدون 672 ق.م)

“نحب آشور بانيبال، ملك آشور ونبغض عدوه. من هذا اليوم وعلى مدى حياتنا، سيكون آشور بانيبال ملكنا وسيدنا. لن نملك علينا ولن نبحث عن ملك أو سيد آخر لنا” (معاهدة آشور بانيبال نحو 650 ق.م).

التوازيات واضحة مع وصية سفر التثنية المركزية: فالله يظهر في السفر في نفس صورة الملك الآشوري. ويمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك في هذا التوازي. إذ أن بنية سفر التثنية بأكمله يمكن فهمها من خلال معاهدات التبعية الآشورية. كانت تلك المعاهدات تحتوي على العناصر الآتية عامة:

دائماً “مقدمة تاريخية” تسرد اللقاء بين السيد والتابع.

– الوصية الأساسية (التبعية التامة للملك الآشوري).

– الشروط الخاصة (الضريبة، الإلتزامات الحربي، إلخ…).

– دعوة الآلهة الشاهدة التي تضمن صلاحية المعاهدة.

– البركات واللعنات لأولئك الذين يحترمون أو لا يحترمون شروط المعاهدة.

يمكننا أن نلمح وجود كل هذه العناصر بسهولة في سفر التثنية. وتتضن صياغات اللعنات في تثنية 28: 20 وما يليها تشابهات شديدة مع معاهدات آسرحدون لا يمكن شرها إلا بوجود إعتمادية أدبية، وحتى دعوة الشهود في سفر التثنية ولو بطريقة غير مباشرة، بما أن يهوه لا يمكنه دعوة آلهة أخرى، حيث نقرأ في تثنية 30: 19 “أشهد عليكم اليوم السماء والأرض”. وما هي الإستنتاجات التي يمكن التوصل إليها من خلال حقيقة أن كتاب التثنية يستخدمون نموذجاً لمعاهدة تبعية لوصف العلاقة بين يهوه وشعبه؟ في الواقع، الكلمة المركزية لسفر التثنية (بريت) والتي نترجمها “عهد” يمكن ترجمتها كذلك “معاهدة”. فهل نحن إذن أمام لاهوت تسلطي، يظهر فيه الله كطاغية يطالب رعاياه بتبعية عمياء معاقباً أي تعد على وصاياه بأقسى اللعنات؟

إذا وضعنا سفر التثنية في سياق الهيمنة الآشورية، فإن رسالته تتلخص كما يلي: نعم إسرائيل لها سيد تدين له بالولاء المطلق. إلا أن هذا السيد، ليس هو الملك الآشوري الكبير، لكن يهوه، إله الشعب. وكذا فإتخاذ النموذج الآشوري قد يكون له معنى مضاد لآشور. فإسرائيل لا تدين بخضوعها سوى لله. وليس لأحد آخر.

لكن مع هذا تبقى مشكلة: فالنصوص التثنوية دائماً ما تقدم هذا الإله في صورة الإله المحارب.

يهوه إله الغزو – حالة سفر يشوع

في الجزء الأول منه (إصحاحات 1- 12) يخبر سفر يشوع القارئ بأن إستقرار الشعب العبري في أرضه جاء نتيجة لغزوة عسكرية بدا يهوه قائدها. وقد قاد هذا الإله شعبه في إنتصارات متعددة وصلت في غالبيتها إلى حد إبادة أو طرد الشعوب الكنعانية. هنا يبدو الله كمحارب يقود شعباً يحب الحرب ومثل هذه النصوص هي التي تستخدمها اليوم بعض الأوساط اليهودية الأصولية لمعارضة عملية السلام بين الأسرائيليين والفلسطينيين. وللإصرار على طرد الشعب العربي. مثل هذه القراءة الأصولية لسفر يشوع يعتريها العوار من ناحيتين: فهي أولاً تعتبر نصوص يشوع نصوصاً تاريخية وثانياً فهي تعتم بالكامل على حقيقة أن عبادة إله محارب تمثل مشكلة كبيرة بالنسبة للأيمان الكتابي.

فيما يختص بالمرحلة التي يعتقد أنها شهدت إستقرار الأسباط في أرض الموعد (القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد)، فنحن نعلم اليوم بفضل جهود بعض علماء الحفريات الإسرائيليين. أن توطين العشائر والقبائل التي ستكون فيما بعد شعب إسرائيل كان يمثل تتويجاً لعملية طويلة ومعقدة من الغزو في يشوع. فبشكل كبير، تكونت إسرائيل من خلال هذه الغزوات التي ساعدت على ضم الكثير من الشعوب الكنعانية المستقلة. والأمر تعلق بمجموعات مهمشة وجدت نفسها دائماً في صراعات مع ملكيات كنعانية صغيرة كانت تعتمد على ملك مصر.

وقد دعيت تلك الشعوب الثائرة في الوثائق المصرية (Hap/bir). وهو تعبير تحول في النهاية إلى كلمة Hebreu أي عبراني. وقد عثر على شواهد تشير إلى وجود أولئك ال”عابيرو” خارج كنعان، وكذلك في مصر، وهكذا يمكننا تفسير تكوين إسرائيل على إتحاد تلك المجموعات المسماة بالعابير وكانت المجموعة القادمة من مصر هي التي أتت بخبرة الخروج من مصر نتيجة للتدخل الألهي: وخاطبت مثل تلك الخبرة بشكل طبيعي العابيرو الكنعانيين الذين كانوا يعانون بالمثل من السلطة المصرية.

إعادة البناء التاريخي هذه تعني إن جزءاً كبيراً من مستقبل إسرائيل سوف يتكون من خلال شعوب كنعانية مستقلة. وهكذا، فإن إستقرار الشعب العبري في كنعان لم يكن نتيجة لحرب خاطفة أو لغزوة قام بها جيش أتى من الخارج.

كيف وصل إلينا إذن تفسير الغزو كما يقدمه لنا سفر يشوع؟ مع إن المتخصصين يختلفون في الكثير من المشاكل في التفصيلات. إلا أن هناك إجماعاً ما حول أن مجموعة النصوص الأولية حول الغزو في يشوع 1-12 قد رأت النور في الحقبة الآشورية، وخاصة تحت حكم يوشيا (نحو عام 620 ق.م). نحن نعرف أن يوشيا إستطاع الإستفادة من ضعف الإمبرطورية الآشورية ليقود سياسة توسعية كانت تهدف لضم إراض من المملكة الشمالية القديمة، التي أصبحت مقاطعات آشورية، إلى مملكة يهوذا.

في هذا السياق، وفي سفر يشوع، نجد شرعية لاهوتية لسياسة يوشيا التوسعية. وقام الكتاب التثنويون، الذين كانوا قد أخرجوا للنور النسخة الأولى في سفر التثنية، ببيان التوازي بين يشوع ويوشيا، وفي نفس الوقت قدموا رؤية حربية لبدايات الشعب الإسرائيلي. وبتقديم يهوه كإله محارب يتدخل في حروب شعبه، فإن التثنويين لا يثبتون أصالتهم.

فهذه الفكرة كانت موجودة لدى الآشوريين، ثم لدى البابليين.[38]

لقد تأثر كتاب سفر يشوع كثيراً بالنصوص الآشورية ليقدموا يهوه كإله المعركة.

يفتتح سفر يشوع بخطاب طويل ينصب فيه الرب يشوع قائداً حربياً بوعده الذي يقول فيه: ” كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ…. لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ….. تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ ” (يش 1: 3، 5، 6). خطاب مشابه يوجد في يشوع 10: 8 في لحظة معركة فاصلة: “لاَ تَخَفْهُمْ، لأَنِّي بِيَدِكَ قَدْ أَسْلَمْتُهُمْ. لاَ يَقِفُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِوَجْهِكَ”.[39]

تبنى روايات الغزو الآشورية وفقاً لنموذج متكرر[40]. وقد تأثر الكتاب التثنويون بقوة بهذا النموذج وقاموا بتطوير أيديولوجية عن “حروب يهوه” (إنظر على سبيل المثال تثنية 20، يشوع 10، قضاة4، إلخ…..) في سفر العدد 21: 4 نجد إشارة إلى هذا العنوان “حروب الرب”، وهي مفاهيم غير مقنعة في سياق الحدث عن “الحرب المقدسة” كما تفعل دائماً، ففي المفهوم التقليدي للحرب المقدسة الشعب هو الذي يحارب من أجل إلهه، بينما في النصوص الآشورية وفي نصوص العهد القديم، الله هو الذي يحارب من أجل شعبه.

العناصر المؤسسة لهذه الأيديولوجية هي كالتالي:

– يوضع العدو في وضع مهاجمة إسرائيل.

– رد فعل إسرائيل: الإحباط، الخوف، الصراح (نحو يهوه)

– الدعوة لعدم الخوف من العدو لكن إلى الثقة بيهوه.

– يهوه يخرج أمام إسرائيل ويشن الحرب بنفسه.

– تدخل يهوه المعجزي يسبب الإحباط للعدو.

– وهذا يؤدي إلى الإنتصار الشامل على الأعداء.

– يتم تعقب الأعداء وإبادتهم عن بكرة أبيهم.

وتتضح التأثيرات الآشورية بجلاء على نص مثل يشوع 10[41]. فعلى شاكلة سرجون، ينبغي على يشوع وإسرائيل مواجهة تحالف قوي من ملوك الأعداء. وبفضل التدخل الإلهي، ينكسر الأعداء، وفي أثناء هروبهم يتدخل هدد ويهوه بطريقة معجزية:

رسالة إلى الله: “هرب بقية الشعب إنقاذاً لحياتهم ….هدد (= إله العاصفة) …. أطلق صرخة عظيمة نحوهم. وبإستخدام عاصفة من الأمطار والحجارة المتساقطة من السماء (= حبات البرد)، أفنى أولئك الذين بقوا منهم”.

يشوع 10: 11 “وَبَيْنَمَا هُمْ هَارِبُونَ مِنْ أَمَامِ إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي مُنْحَدَرِ بَيْتِ حُورُونَ، رَمَاهُمُ الرَّبُّ بِحِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى عَزِيقَةَ فَمَاتُوا. وَالَّذِينَ مَاتُوا بِحِجَارَةِ الْبَرَدِ هُمْ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالسَّيْفِ“.

وبإستخدام النموذج الآشوري في الحرب، ضخم كتاب يشوع 1- 12 من صورة يهوه كمحارب، صورة إله لا يتورع عن القضاء بصورة حاسمة على كل أعداء إسرائيل. يمكننا، بل أقول إنه يجب علينا التراجع عن هذه الصورة. غير أنه يجب علينا أن نفهمها في سياق الموقف التاريخي الذي ظهرت فيه. وذلك لأن كتاب سفر يشوع يسعون وراء هدف جدلي يشبه ذاك الذي في سفر التثنية. فبالنسبة لهؤلاء الكتاب الذين ينتمون لعصر الملك يوشيا. يتعلق الامر بإظهار أن يهوه أقوى من كل الآلهة الآشورية الحارسة: آشور وهدد وعشتار. وعندما ينبر سفر يشوع على أنه لم يكن للشعوب الأخرى أدنى حق في إمتلاك كنعان، فإن هذا الإستنتاج ينطبق بالمثل، وفي المقام الأول على الآشوريين الذين إحتلوا الأرض في القرن السابع ق.م، التي وعد بها الله شعبه. هنالك إذن رسالة تؤكد تفوق يهوه على آشور وآلهتها، لكن هذه الرسالة تكونت على حساب تقسية صورة يهوه الذي أصبح محارباً على غرار آشور.

تجريد وتحول إله المعركة

لا يمكننا إنكار الوزن الذي تمثله صورة إله محارب في العهد القديم. لكن ينبغي أيضاً الإلتفات إلى أن هذه الصورة قد وجدت بعض التوازن بسبب قراءات كثيرة قامت بتطويرها، إن لم يكن نقدها. عندما تعرضت أورشليم للدمار بواسطة الجيوش البابلية عام 587 ق.م، تزعزع المفهوم الحاكم للإله المحارب بشدة. وهكذا قام التثنويون الذين ينتمون للجيل الثالث والرابع بإعادة قراءة إفتتاحية سفر يشوع من قائد عسكري غلى معلم ديني: “لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً” (يش 1: 8). وأصبح إحترام التوراة يقرر حياة الشعب في الأرض وليس الفتوحات العسكرية.

محاولة مماثلة لعدم “العسكرة” توجد في النسخة الأولى من معجزة البحر في خروج 15. فمنذ زمن بعيد، كان المعروف أن القصة المركزية في خروج 14 تتكون من نسختين مختلفتين: نسخة كهنوتية وأخرى يمكن تسميتها تثنوية، حيث يبدو أن كتابها كانوا ينتمون إلى سلالة التثنويين الفكرية. هذه النسخة التي ظهرت في الحقبة الفارسية دون شك والتي تحتوي إجمالاً على الأعداد 5، 6، 9، 10ب، 13، 14، 21ب، 24، 25، 27ب، 30 أعادت إلى الحياة أيديولوجية حروب يهوه مرة أحرى. غير أنه يمكننا ملاحظة وجود إتجاه لنزع العسكرة عن هذا المفهوم.

فما تجر ملاحظته على وجه الخصوص في رواية خروج 14 هو الخطاب الموجه لإسرائيل بأن يبقوا هادئين. فيهوه فقط هو الذي يحارب، وليس على إسرائيل إلا أن ترى وتؤمن (ع 14″ الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون”) يركز كاتب خروج 14 التثنوي على قدرة يهوه في موقف أزمة، حيث يمكن معاينة هذه القوة بلا شك. في الواقع يعود هذا النص لخبرة السبي البابلي حيث سوف يشعر المسبيون بالقهر من خلال الثقافة والقوة والزهو البابلي. كانت هذه القصة موجهة إذن إلى قراء تم تجريدهم من كل قوة سياسية وحربية وأصبحوا غير قادرين على تحقيق حريتهم الشخصية. يبين خروج 14 إذن أن التحرير لا يمكن أن يأتي غلا بواسطة يهوه.

وفي نفس الوقت تضعف هذه القصة من تاريخية الحرت كحدث بشري خالص. فالحرب البشرية تذوب وتختفي في وسط العمل الإلهي المحرر. لذا، فليس من المبالغة في شيء التأكيد على أن مكان لاهوت حروب يهوه، في الشكل الذي تتخذه في هذا النص وكذلك في قراءة السبي لسفر يشوع، لا تقع في إطار إيديولوجي حزبي، لكن في سياق نوع من “لاهوت التحرير”.

 نص خروج 14

(خروج 13: 17) وَكَانَ لَمَّا أَطْلَقَ فِرْعَوْنُ الشَّعْبَ …. 21وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ. لِكَيْ يَمْشُوا نَهَارًا وَلَيْلاً. 22لَمْ يَبْرَحْ عَمُودُ السَّحَابِ نَهَارًا وَعَمُودُ النَّارِ لَيْلاً مِنْ أَمَامِ الشَّعْبِ.

(خروج 14: 5) 5فَلَمَّا أُخْبِرَ مَلِكُ مِصْرَ أَنَّ الشَّعْبَ قَدْ هَرَبَ، تَغَيَّرَ قَلْبُ فِرْعَوْنَ وَعَبِيدِهِ عَلَى الشَّعْبِ. فَقَالُوا: «مَاذَا فَعَلْنَا حَتَّى أَطْلَقْنَا إِسْرَائِيلَ مِنْ خِدْمَتِنَا؟» 6فَشَدَّ مَرْكَبَتَهُ وَأَخَذَ قَوْمَهُ مَعَهُ….. 9فَسَعَى الْمِصْرِيُّونَ وَرَاءَهُمْ وَأَدْرَكُوهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ وَفُرْسَانِهِ وَجَيْشِهِ، وَهُمْ نَازِلُونَ عَنْدَ الْبَحْرِ عَنْدَ فَمِ الْحِيرُوثِ، أَمَامَ بَعْلَ صَفُونَ.….13فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: «لاَ تَخَافُوا. قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ الَّذِي يَصْنَعُهُ لَكُمُ الْيَوْمَ. فَإِنَّهُ كَمَا رَأَيْتُمُ الْمِصْرِيِّينَ الْيَوْمَ، لاَ تَعُودُونَ تَرَوْنَهُمْ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ. 14الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ».20فَدَخَلَ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ وَعَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ، وَصَارَ السَّحَابُ وَالظَّلاَمُ وَأَضَاءَ اللَّيْلَ. فَلَمْ يَقْتَرِبْ هذَا إِلَى ذَاكَ كُلَّ اللَّيْلِ.21وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ. 22فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. 23وَتَبِعَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ وَدَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ إِلَى وَسَطِ الْبَحْرِ. 24وَكَانَ فِي هَزِيعِ الصُّبْحِ أَنَّ الرَّبَّ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ، وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ، 25وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ حَتَّى سَاقُوهَا بِثَقْلَةٍ. فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: «نَهْرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ».….. 27فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ، وَالْمِصْرِيُّونَ هَارِبُونَ إِلَى لِقَائِهِ. فَدَفَعَ الرَّبُّ الْمِصْرِيِّينَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ.…. 30فَخَلَّصَ الرَّبُّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ الْمِصْرِيِّينَ. وَنَظَرَ إِسْرَائِيلُ الْمِصْرِيِّينَ أَمْوَاتًا عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. 31وَرَأَى إِسْرَائِيلُ الْفِعْلَ الْعَظِيمَ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ بِالْمِصْرِيِّينَ، فَخَافَ الشَّعْبُ الرَّبَّ وَآمَنُوا بِالرَّبِّ وَبِعَبْدِهِ مُوسَى.

يظهر هذا الإتجاه لنزع التوجه العسكري عن التقاليد الحربية في سفري أخبار الأيام، فهذان السفران اللذان يعود تاريخهما إلى بداية الحقبة الهللينستية. يقومان بإعادة قراءة لتاريخ إسرائيل. كما يظهر في الاسفار من التكوين وحتى الملوك. وفي هذه القراءة الجديدة تم حذف كل الإشارات إلى الفتوحات العسكرية! فنحن ننتقل من قوائم النسب التي تعرض للعائلات المختلفة التي تناسلت من أبناء يعقوب (1أخ 1- 9) إلى تأسيس الملكية (1أخ10).

وكما أشارت سارة يافت Sara Japhet[42]، فإن أخبار الأيام تقدم صورة لإسرائيل المستقلة التي سكنت دائماً أرض الموعد ولم تكن في حاجة إبداً لإله محارب كي تشرح سبب إستقرارها في كنعان.

كذلك يغير كاتب سفر أخبار الأيام صورة الحرب الموجودة في أسفار الملوك. فالملوك أصبحوا قادة طقسيين وتحولت الحروب إلى طواف ديني. وهكذا يتعجب المفسر ج. فلهاوزن J.Wellhousen قائلاً: “ماذا فعلوا بأخبار داود؟…. أصبح البطل الذي يقود رفقاء السلاح مرنماً يقود جوقة من الكهنة واللاويين ذلك الوجه الذي طالما حفرت فيه المعاناة خطوطها لم يعد سوى صورة باهتة لقديس في وسط سحابة من البخور” [43]. هذا الإستنتاج، الذي يقطر أسى تحت قلم فلهازون، يهدف إلى أمر صحيح، فالملوك ليسوا هم، في المقام الأول، المنفذين لخطط إله محارب، فهم يسعون بالأحرى إلى الإحتفاء بالله من خلال العبادة والمزامير.

فإذا نادى منادي الحرب، فليس على الشعب الإنخراط في المعركة. فهو قد أصبح، كما في خروج 14، معايناً لأعمال يهوه. عندما تعرض يهوذا لتهديد جيرانه دعا واحد من الأنبياء الملك يهوشافاط والشعب بقوله: ” لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْتَاعُوا.. لأَنَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ لَكُمْ بَلْ للهِ… لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحَارِبُوا فِي هذِهِ. قِفُوا اثْبُتُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ مَعَكُمْ…” (2أخ 20: 15، 17). فالحرب إذن قد أخذت بصورة ما من البشر ولم تعد صورة الله المحارب ذات نفع لتبرير الحرب البشرية، لكن للتعبير عن الأمل في تدخل الله المخلص لصالح شعبه، توجد مسيرة مشابهة لذلك في ثنايا الأدب الرؤوي (على سبيل المثال، القسم الثاني من سفر دانيال) الذي يحاول وصف الأحداث السابقة لنهاية العالم. توصف هذه النهاية دائماً بواسطة إستعارات حربية. في اليوم الأخير سوف يتدخل الله ليقضي على قوى الشر التي تقاومه هو وشعبه.

وتعيد جماعة قمران إستخدام هذا المفهوم في “لفيفة الحرب”. كما أن هذا المفهوم سوف يؤثر كذلك على العهد الجديد، فالسفر الأخير من العهد الجديد، رؤيا يوحنا، يقدم صورة إله محارب يقوم، من خلال تحركه القوي بحماية شعبه: “ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم. وهو سيرعاهم بعصا من حديد، وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء” (رؤ19: 15). صورة الله المحارب موجودة إذن في الأدب الرؤيوي في العهد القديم والجديد على السواء. ومن الخطاً بمكان محاولة معارضة العهدين في هذه النقطة.

لا يمكننا إنكار أن قصص الحرب التي يتدخل فيها الله تأخذ مكاناً كبيراً في الكتاب المقدس، بل إن العكس من شأنه أن يكون مدهشاً، حيث إن الحرب موجودة على مر تاريخ البشرية. إلا أنه سيكون تبسيطاً مخلاً أن نكتفي بمثل هذا الإستنتاج أو أن نضع جانباً وبالإجمال كل الخطاب الكتابي عن الله. كما رأيناً سابقاً، كان قصوراً للقراءات الجديدة للتقاليد الحربية في وقت السبي أن يمنع تماماً كل إستخدام تفوقي لقصص الحرب. للأسف لم يكن هذا هو الوضع السائد، وساهم سفر يشوع في تبرير إفناء هنود أمريكا (الهنود الحمر) أو تفوق المستعمرين البيض في جنوب إفريقيا. السلاح الوحيد ضد مثل هذا الإستخدام للنصوص الكتابية يكمن في دراسة جادة لهذه النصوص تأخذ في الإعتبار تعقيد تاريخية تواترها.

في هذا الشأن يمكننا تذكر ان الجزء الأول من العهد القديم، التوراة أو الأسفار الخمسة، التي تمثل مركز الكتاب المقدس اليهودي، لا تفرد الكثير من مساحتها لهذه القصص سوى في بعض أجزاء من سفر يشوع. ورغم إن المفسرين حاولوا إدراج سفر يشوع في الأسفار الخمسة، فإن اليهودية إختارت أن تبقى نهاية التوراة مفتوحة ووضع قصص الحروب في مكان ثانوي.

لكن هذا لا يعني أن الأسفار الخمسة لا تحتوي على أية إشارة لإله الحرب. فنحن نجد في سفر التثنية على وجه خاص بعض النصوص التي تظهر وكأنها تقدم إله إبادة عرقية، ولا يمكننا في هذا المقام تجاهل تلك النصوص.

 

هل هو إله إبادة عرقية

يبدأ تثنية 7 بالوصية الآتية: 1«مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا، وَطَرَدَ شُعُوبًا كَثِيرَةً مِنْ أَمَامِكَ: الْحِثِّيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، 2وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِمْ، 3وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بْنَتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنتْهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ. 4لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى، فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا. 5وَلكِنْ هكَذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ: تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ، وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ، وَتُقَطِّعُونَ سَوَارِيَهُمْ، وَتُحْرِقُونَ تَمَاثِيلَهُمْ بِالنَّارِ. 6لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ.» (تث 7: 1- 6)

إذا ما فكرنا في المآسي التي شهدتها يوغسلافيا السابقة في غضون السنوات الأخيرة، فإن مثل هذا النص يمثل مفاجأة غير سعيدة. فالدعوة كانت لإسرائيل بالإنفصال الكامل عن بقية الشعوب، والواضح أن هذا الإنفصال كان يستدعي قتل الآخرين[44]. ويشق علينا كثيراً إحتمال مثل هذا النص. فلنسع على الأقل إلى فهمه: أولاً، يتعلق الأمر بوصية إيديولوجية لم يتم تطبيقها أبداً في حقبة العهد الجديد (لكن للأسف في فترات لاحقة على بد المسيحين الذين خرجوا للحرب ضد الهراطقة) كان الرهان على هوية إسرائيل والعبادة الخالصة ليهوه المطلوبة من الشعب.

يبني النص في واقع الأمر مقابلة في منتهى القوة بين يهوه، إله إسرائيل، وآلهة الشعوب الأخرى وكان كتاب هذا النص، الذين عاشوا في القرن الخامس ق.م، في غالب الأمر يخشون من فقدان إسرائيل لهويتها من خلال قبولها الإتصال مع الآخرين. لذلك فقد تبنوا موقفاً دفاعياً شديداً لم يكن من المستغرب أن تتم ترجمته في لفة متناهية العدوانية، يعكس هذا الخطاب العنيف إذن صورة جماعة تعيش أزمة طاحنة وتشعر بالتهديد في كل الأطراف. وقد إستمر هذا الإنعكاس حتى أيامنا هذه. فما أن يصاب مجتمع ما بأزمة إقتصادية أو فكرية، حتى يسعى للإنغلاق على نفسه مفضلاً إقصاء الغرباء.

تبين لنا نصوص مثل تثنية 7 أن إسرائيل ام تكن بمأمن دائماً في هذا الخطر. لنذكر كذلك أن قائمة الأمم السبع في عدد 1 لا تشير إلى شعوب معينة. أولا الرقم 7 يمثل الكمال، وغالبية الأسماء مثل الحثيين، الأموريين، الكنعانيين إنما هي ألفاظ عامة كان الأشوريون والبابليون يستخدمونها للإشارة إلى كل الشعوب الموجودة في منطقة سوريا وفلسطين. إذن فتثنية 7 لا يقصد شعوباً غريبة محددة، فالأسماء المستخدمة له قيمة رمزية للإشارة إلى أولئل الذين يستطيعون إزاغة إسرائيل عن العبادة الخالصة ليهوه. قد يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك وبذكر أنه في لحظة العودة من السبي، قام صراع كبير بين جزء من قدامى المسبيين والسكان الذين تمتعوا بالحكم الذاتي ولم يتعرضوا للسبي. فقد كان الفصيل المسبي نعتبر نفسه فقط “إسرائيل الحقيقي” وساوى بين غير المسبيين والأجانب.

وقد رغب كل من غزرا ونحميا في توثيق مثل تلك النظرة الإقصائية لدى إسرائيل ومنع أي إختلاط بين المسبيين وغير المسبيين. لذلك فالإصحاح التاسع من عزرا، لاذي يناقش هذه المسألة يستخدم قائمة من الشعوب مماثلة لتلك الموجودة في تثنية 7 للإشارة إلى “شعب البلاد”. يصوغ عزرا 9: 12 في كلمات مطابقة تقريباً لتلك الواردة في تثنية 7: 3 الأمر بمنع الزيجات المختلطة[45] (حول هذه النقطة، إنظر بالمثل ملاحظاتنا حول خروج 4 التي أشرنا إليها في الفصل السابق). يمكننا أن نستنتج من ذلك أن نص تثنية 7 يسعى إلى إعلاء نظرة في منتهى الضيق لشعب يهوه تقوم بإقصاء جزء كبير من الساكنين القدامى في مملكة يهوذا.

هذه النظرة التمييزية تظهر في كلمات تتسم بالعنف الشديد، ويمكن دون شك فهمها إنطلاقاً من موقف هيمنة أجنبية حيث تعرضت اليهودية للإبتلاع في الثقافة المحيطة. إلا أن هذا الإتجاه للإنكفاء على الذات لم يكن قابلاً للإستمرار. وقد قدم لنا العهد القديم الكثير من النصوص التي تدخل في صراع قوي مع النظرة التمييزية لله.

في العهد القديم يفتتح قصة الشعب العبري بتاريخ البطاركة الذين كان أولهم إبراهيم. وعلى عكس نصوص التثنية اوالأسفار التاريخية نلمح في قصص الآباء أسلوباً سلمياً نحو مسألة مواجهة الشعوب المجاورة نعود مرة أخرى إلى فلهاوزن الذي لاحظ فيما يتعلق بالآباء أنهم لم يكونوا يميلون إلى الحرب. ففي سفر التكوين قدم إسرائيل صورة مختلفة تماماً عن نفسه في وسط الأمم[46]. فلم يتم توجيه الإنتقادات للأمم الأخرى.

فلا حديث عن عبادتهم للأصنام، كما أن هذه الشعوب الأخرى كان بإمكانها الدخول في علاقة قريبة مع إله إسرائيل. وهكذا قابلت هاجر، أم القبائل العربية، في الصحراء ملاكاً من الله تدخل لنجدتها. وهاجر نفسها سنحت لها فرصة لا مثيل لها للحديث مع ممثلي الشعوب الأخرى، كما فعل الملك أبيمالك على سبيل المثال (تك20) وهكذا يظهر يهوه في سفر التكوين كـ”إله مساكنة”، إله إختار إبراهيم خاصة لنفسه، لكنه لم يطالبه بالإنفصال عن بقية ساكني كنعان.

يمكننا إذن قراءة قصة إبراهيم كرد فعل لمفهوم قومي للغاية. تبين لنا قصة إبراهيم كيف أن أبا الشعب صنع لنفسه ملكاً في وسط الشعوب المجاورة دون أن ينكسر ودون أن يمتلك الأرض وحده. إن الله في قصة إبراهيم إنما هو إله مسالم يبغي التفاهم بين الشعوب المختلفة، وليس من قبيل المصادفة أن تاريخ الشعب العبري يبدأ بمثل هذه الصورة عن الله التي قامت منذ البداية بإستبعاد كل حديث عن إله الحرب.

إله العهد القديم بين الحرب والسلام

على إمتداد دراستنا حول إبراز يهوه كإله الحرب، إستنتجنا أهمية ذلك المفهوم في العصر الآشوري. إرتبط أمر تقديم يهوه في صورة السيد الآشوري (في سفر التثنية) وكإله قوي وعنيف على شاكلة الآلهة الآشورية (في سفر يشوع) برؤية غير دقيقة: فقد أخذ الكتاب التثنويون في إعتبارهم أيديولوجية الإمبراطورية الآشورية الكبرى وقاموا بتطبيقها على يهوه بغرض بيان تفوق إله إسرائيل في مواجهة التهديد الآشوري. لكن الخطر تمثل في أن يهوه أصبح يحمل نفس ملامح الآلهة الآشورية، وساهمت النصوص التي أظهر الله كمحارب للأسف في إضفاء الشرعية على كل الفظائع التي إرتكبت على مر التاريخ المسيحي.

لا يمكننا حجب وجود النصوص الحربية في الكتاب المقدس. لكن علينا التأكيد على حقيقة أن الله المحارب لم يكن أبداً مرجعية مطلقة. فملحمة الشعب العبري تبدأ في واقع الأمر بصورة إله عالمي ضد الحرب. وينتهي العهد القديم في سفري أخبار الأيام بالتأكيد على نفس الإله العالمي الذي هو في نفس الوقت إله ملك الفرس والشعب  اليهودي (2أخ 36: 21)، الإله الذي يعد بمستقبل مليء بالسلام حول الهيكل الذي يعاد بناؤه.

 

[33] هذا المنهج مازال يمارس, إنظرG.BARBAGLIO, Dieu est-il violent? Une Lecture des. Ecitures juives et chretiennes, Paris, 1994

[34] كان المسبيون يستخدمون في أكثر من مجال. فكان بعضهم يشارك في تمدين آشور (بناء مدينة دور شاروكني). والبعض عمل في البلاط الملكي الآشوري, وآخرون تم بيعهم كعبيد, إلخ….

[35] Cf. a ce sujet N. LOHFINK, “Culture Shock and Theology: A

Discussion of Theology as a Cultural and Sociological Phenomenon Based on the Example of Deuteronomic Law” Biblical Bulletin 7, 1977, pp.12-22.

[36] لا يوجد تأكيد على أن الإنفجار الديمجرافي لأورشليم حدث مباشرة تحت تأثير عودة المجلوبين حسب دفاع الخاصة.

[37] هذه المعاهدات متوفرة في ترجمات فرنسية.

[38] بصوره عامة. كانت مثل هذه الفكرة تعود إلى مفهوم الإله القومي الذي ينتظر منه التدخلات لحماية شعبة في حالة الحرب. ولذلك, فعلى إحدى اللوحات الحجرية المشهورة جداً (القرن التاسع ق.م) يهدي ميشع ملك موآب شكره لكموش إله موآب الذي أعطاه النصرة على إسرائيل.

[39] (Cite d’apres le Supplement au Cahier Evangile 81, mentionne cidessus (note37

[40] Pour plus de details,cf.K.L., YOUNGER,jr., Ancient Conquest Accounts. AStudy in Ancient Near Eastern and Biblical History Writing, Journal for the Study of the Old Testament. Supplement Serics 98, Shefield 1990, pp.61- 124

[41] Le texte de reference est la “Lettre au Dieu” su roi Sargon II.cf.YOUNGER, pp.210- 211; pp.366- 367

[42] “L’historiographie postexilique. Cormment et pourquoi?, dans A.de PURY et T.ROMER (eds), Israel construit son histoire,Le Monde de la Bible, Geneve, 1996

[43] Prolegomena zur Geschichte Israles, Berlin, 1899,5 ed.,p.181

[44] نقرأ في تثنية 7: 2 “فإنك تحرمهم”. وفي هذا إشارة ألى ممارسة عسكرية كانيتم بحسبها التضحية بالغنائم المادية والبشرية حتى لا يغتني المرء من خلال إنتصاره العسكري.

[45] تثنية 7: 3 “ولا تصاهرهم. إبنتك لا تعط لإبنه. وإبنته لا تأخذ لإبنك” عزرا 9: 12 “والآن فلا تعطوا بناتكم لبنيهم ولا تأخذوا بناتهم لبنيكم”.

[46] نص وحيد في تك 14 يخبرنا عن دخول إبراهيم في حرب, لكن يتفق الجميع على أن تلك الحادثة تعتبر إستثناء في تاريخ الآباء.

هل الله طاغية ومحارب؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

Exit mobile version