يقول الملحد : لا يعقل أن توجد ديانة حقيقية واحدة فقط، فكيف نرد؟
يقول الملحد : لا يعقل أن توجد ديانة حقيقية واحدة فقط، فكيف نرد؟
قالت بلير (Blair)، ابنة العشرين المقيمة في منهاتن: “كيف يُعقل أنَّ يوجد إيمانَّ حقيقي واحد فقط؟ من العجرفة أنَّ تقول أنَّ ديانتك مُتفوقة . فتحاول أنَّ تهدي كل إنسان آخر إليها. يقيناً أنَّ جميع الأديان خيرة بالتساوي وفعالة لتلبية حاجات أْتباعها”.
وأضاف جيوف ( Geoff). وهو بريطاني في العقد الثالث يقيم في نيويوك أيضاً: “ليست الحصرية (Exclusivity) الدينية ضيقة الأفق فحسب، بل هي خطرة أيضاً. فإنَّ الدين قد أدى إلى ما لا يُوصف من النزاع والانقسام والصراع. وربما كان هو أكبر عدو للسلام في العالم فإن استمر المسيحيون في الإصرار على أنَّهم يملكون الحق- وإذا حذا حذوهم أيضًا الديانات الأخرى فإنَّ العالم لن يعرف السلام”.[1]
في أثناء قرابة العقدين اللذين قضيتهما في نيويورك، أُتيحت لي فرص كثيرة كي أسأل أشخاصًا: ” ما المُعضلة الكبرى التي تُواجِهُها في المسيحيَّة؟ ماذا يقلقك أكثر الكل بشأنَّ عقائدها أو كيفية ممَّارستها؟”
وواحدُ من أكثر الأجوبة تكرارًا بين ما سمعته على مر السنين يمكن تلخيصه بكلمة واحدة: الحصرية.
و قد دُعيتُ مرةً لأكون المُمثل المسيحي في مناقشة عامة بمعهد محلي مع حاخام يهودي وإمام مسلم، حيث طلب إلى المناقشين أن يبحثوا في الفوارق بين دياناتهم. وكانت المحادثة تتسم باللياقة و الذكاء والإحترام في آنٍ معًا. وقد أكد كل متكلم وجود فوارق مهمة بين الديانات الكبرى يصعب التوفيق بينها. وإتفقنا جميعًا على المقولة التالية: ” إنْ كان المسيحيون على حق بشأنَ كون المسيح هو الله، فإنَّ اليهود و المسلمين يخفقون إخفاقًا ذريعًا في محبة الله كما هو بالحقيقة. أما إذا كان اليهود والمسلمون على حق في قولهم أنَّ السيد المسيح ليس الله بل بالأحرى معلم أو نبي، فإنَّ المسيحين يخفقون إخفاقًا ذريعًا في محبة الله كما هو بالحقيقة”. وكانت النتيجة النهائية أنَّه لايمكن أن نكون جميعًا على حق بالتساوي في ما يتعلق بطبيعة الله.
وقد بلغ طلاب كثيرون غاية الانزعاج من ذلك. وأصرَّ أحدهم على أنَّ ما يهم هو أن تؤمن بالله وتكون أنت نفسك شخصًا مُحبًا. فلم يكن مقبولاً الإصرار على أنَّ ديانة واحدة تحوز فهمًا للحق يفوق ما تحوزه ديانة أخرى. كما أنَّ أحد الطلاب نظر إلينا نحن رجال الدين وقال محبطًا: “لن نصل أبدًا إلى اختبار السلام على الارض إن استمر القادة الدينيون في إصدار تصريحات حصرية كهذه!”
يُعتقَد على نطاق واسع أنَّ واحدًا من العوائق الرئيسية للسلام العالمي هو الدِّين، ولا سيَّما الأديان الكُبرى بدعواها الحصرية من حيث التفوق. وقد يدهشك أنَّي أوافق على هذا رغم كوني خادمًا مسيحيًّا. فإنَّ الدين، على وجه العموم، يميل إلى إنشاء منحدر زلق في القلب. وكل دين يُعلم أتباعه بأنَّ لديهم “الحقَّ”، الأمر الذي يؤدي بهم على نحو طبيعي إلى الشعور بأنَّهم متفوقون على ذوي المعتقدات المختلفة. ثُمَّ أنَّ كل دين يقول لأتباعه أنَّهم يَخلُصون ويرتبطون بالله من خلال ممَّارستهم المتفانَية لذلك الحق. ويدفعهم هذا للانفصال عن الذين هم أقل تقوى وطهارة في هذه الحياة. لذلك يَسهُل على جماعة دينية ما أن تُقَولِب غيرها من الجماعات وتظهرها بصورة كاريكاتورية. وما إن يوجد ذلك، قد تنحدر تلك الجماعة بسهولة إلى تهميش غيرها من الجماعات، بل أيضًا إلى معاملتها باضطهاد أو تعسُّف أو عنف.
وحالما نُدرك كيف يَطمُس الدين السلام على الأرض، فماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك؟ ثمَّة ثلاثة أساليب يستخدمها القادة المدنيون والثقافيون حول العالم في التصدِّي للانقسام الذي يُنشئه الدِّين. فهنالك دعوات إما إلى حظر الدِّين، ،وإمَّا إلى شجْبه، وإمَّا على الأقل إلى جعله مسألةً خاصَّة بصورة جذرية[2]. وكثيرون من الناس يُعلِّقون آمالاً كبارًا على هذه الأساليب. ولكنَّ النبأ غير المُسرِّ للكثيرين هو أنَّي لا أعتقد أنَّ أيًّا منها سيكون فعالاً. بل إنَي أخشى في الحقيقة أنَّها لن تزيد الوضع إلا تفاقمًا.
1 . حَظْر الدِّين
ما تزالُ إحدى الطُّرق في التصدي لما يسببه الدين من الخلاف والشقاق هي اللجوء إلى السَّيطرة عليه أو حتَّى إلى حظره بقبضة من حديد. وقد شهد القرن العشرون عددًا من المساعي الهائلة لإتمام ذلك. فإنَّ روسيا السوفياتيَّة والصِّين الشيوعيَّة و الخمير الحُمر (في كمبوديا) وألمانيا النازيَّة (بطريقة مختلفة) كانت جميعًا عاقدة العزم على ضَبْط الممَّارسة الدينيَّة بحَزْم، في محاولةٍ لمنعها من شقِّ المجتمع أو إضعاف سُلطة الدولة. غير أنَّ النتيجةَ لم تكنْ مزيدًا من السلام والوئام، بل كانت مزيدًا من الظُّلم والطُّغيان. ويُبرِز السُّخريةَ المأساويَّةَ في هذا الوضع ألِستَر مَكْغراث (Alister McGrath) في تاريخه عنِ الإلحاد:
أَّدى القرنُ العشرون إلى نشوءِ واحدةٍ من أعظم مُفارقات التاريخ البشريّ وأشدَّها مضايَقة: أنَّ أفدحَ تعصُّب وعُنفٍ في ذلك القرن مارَسَهما أولئك الذين كانوا يعتقدون أنَّ الِّدين يُسبِّب التعصُّبَ والعُنف.[3]
قد سار يدًا بِيَد مع تلك المساعي اعتقادٌ واسعٌ الانتشار في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أنَّ الدِّينَ سيَضعُفُ ويتلاشى إذ يصيرُ الجنسُ البشريُّ أكثرَ تقدُّمًا على الصَّعيد التكنولوجيّ. ورأى هذا الرأيُ أنَّ الدِّين قام بِدَورٍ ما في التَّنمية البشريَّة. فقد كُنَّا في ما مضى بحاجةٍ إلى الدِّين ليُساعدَنا على مواجهة عالَمٍ مُروِّعٍ مُبهَم. ولكنَّ إذ صِرْنَا أكثرَ تقدُّمًا على الصعيد العلميِّ وأقدرَ على فَهْم بيئتنا والتحكُّم فيها، تَتَضاءَلُ حاجتُنا إلى الدِّين، على حدِّ ما اعتَقدَ البعض.[4]
غير أنَّ ذلك لم يحدُثْ، و”طرْحُ العَلمانيَّة” (Secularization Thesis) هذا لم يَعُدْ يَلقى قبولاً رائجًا[5]. ففي الواقع أنَّ جميعَ الدِّيانات الرئيسيَّة يَزدادُ عددُ أتْباعها. ونموُّ المسيحيَّة، خصوصًا في العالَم النَّامي، هو نموٌّ انفجاريّ. فعدَد الأنكليكانييِّن في نجيريا وحدَها يبلغُ ستَّة أضعاف عددهم في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة. وفي غانا مَشيَخيُّون يفوقُ عددُهم في الولايات المتَّحدة وسكوتلندا معًا. أمَّا في كوريا فقد ارتفعتْ نسبة المسيحييِّن من 1% إلى 40%، في غضون مئة سنة، ويعتقدُ الخُبراءُ أنَّ الأمرَ عينه سيَحصلُ في الصِّين. فإنْ صارَ في الصِّين نِصفُ مليار مسيحيٍّ بعد خمسين سنة من الأنَّ، فإنَّ ذلك سيُغيِّرُ مجرى التاريخ البشريّ.[6] وفي أغلب الحالات، ليسَت المسيحيَّة التي تشهَدُ نُموًا مُمِّثلةً لنَماذجَ دُنيويَّةٍ وسطحيَّةِ الإيمان، كالتي تكهِّن بها علماء الاجتماع، بل هي بالأحرى نوعٌ حيٌّ من الإيمان فائقٌ للمألوف، يصحبُه إيمانٌ بالمعجزاتِ وسلطةِ الكتاب المقدَّس والولادةِ الجديدة الشخصيَّة.
وبفَضل حيويَّة الإيمان الدينيِّ في العالَم، فإنَّ المجهوداتِ المبذولةَ لقَمعه أو ضَبْطه غالبًا ما تؤولُ إلى جَعْله أقوى فحسْب. فلَمَّا طردَ الشُّيوعيُّون الصِّينيُّون المُبشِّرين الغربييِّن من الصِّين بعد الحرب العالميَّة الثانية، خُيِّلَ إليهم أنَّهم يُوجِّهون إلى المسيحيَّة في الصِّين ضربةً قاضيةً. ولكنَّ هذا التحرُّك لم يؤدِّ إلَّا إلى جَعْل قيادةِ الكنائس الصِّينيَّة محلَّيَّةً وطنيَّةً جدًّا، ومن ثَمَّ آلَ إلى تَقْويَتها.
ليس الدِّينُ مجرَّدَ أمرٍ وقتيٍّ ساعدَنا على التكيُّف مع بيئتنا، بل هو بالأحرى عنصرٌ ثابتٌ وجوهريٌّ بالنِّسبة إلى الوضع البشريّ. وهذا دواءٌ مُرٌّ يصعُب أنَّ يبتلعَه اللَّادينيُّون. فكلُّ امرئ يُريدُ أنَّ يحسبَ أنَّه يسيرُ في الاتِّجاه السائد، وأنَّه ليس مُتطرِّفًا أو مُتزمِّتًا. غير أنَّ المعتقداتِ الدينيَّة الناشطة تَسودُ العالَم. وليس من سببٍ يدعو إلى توقُّعِ حصولِ تغييرٍ في ذلك.
2 . شَجْبُ الدِّين
ليس الدِّينُ راحلاً، ولا يُمكن إضعافُ سُلطته بسَيطرة الحكومة عليه. ولكنْ، ألا نستطيع -من خلال التعليم والمُجادلة- أن نهتديَ إلى سُبُل بها نَعوق اجتماعيًّا الأديانَ التي تَزعمُ أنَّها تملك “الحقَّ”، والتي تُحاولُ أن تَهديَ الآخرين إلى عقائدها؟ ألا نستطيعُ أنَّ نعثُر على طُرقٍ بها نضطر جميع مواطنينا إلى الاعتراف بأنَّ كلَّ دينٍ يؤمنُ به الناس ما هو إلَّا واحدٌ من عدَّة سُبُلٍ صحيحة بالتساوي تؤدِّي كلها إلى الله، وواحدةٌ من طرائق مُتماثلة للعَيش في العالَم؟
إنَّ هذا الأسلوبَ يُوجِدُ بيئةً فيها يُعدُّ إدلاءُ المرء بتصريحاتٍ دينيَّة حصريَّة أمرًا مخالفًا للتَّنوُّر والتأدُّب، حتَّى في الأحاديث الشخصيَّة. ويتمُّ لهذا الأسلوبِ ذلكَ الأمر (إقصاءُ مَن يُدلون بتصريحات حصريَّة) بأنَّ يطرح بديهيَّات مُعيَّنة ويُعيدَ طرْحها ممَّا يؤولُ في الأخير إلى إشاعة حسٍّ فِطريٍّ عام. وأولئك الذين يَحيدون عن تلك البديهيَّات يُوصَمون بأنَّهم مجانين أو ذوو خطر. وعلى خلاف الاستراتيجيَّة الأولى، يُحقِّقَ هذا الأسلوب بعض النتائج في التصدِّي للتَّفرقة التي يُحدِثُها الدِّين. ولكنْ من غير المُمكِن أن يُحرز هذا الأسلوب النجاح في نهاية المطاف؛ إذ إنَّ في لُبِّه يكمن تضارُبٌ فتَّاك – بل ربَّما نوع من النِّفاق – سوف يؤدِّي في الأخير إلى انهيار طريقة التفكير هذه. وفي ما يلي بعضٌ من هذه البديهيَّات، تَصحبُها المُشكلة المتعلِّقة بكلٍّ منها.
“جميع الديأنَّات الرئيسيَّة صحيحة على السواء، وهي جوهريًا تُعلِّم تعليمًا واحدًا”
هذا التوكيد شائعٌ جدًّا بحيث إنَّ أحد الصَّحافيِّين كتبَ مؤخَّرًا أنَّ أيَّ شخصٍ يعتقد أنَّ “هناك أديانًا دُنيا” هو مُتطرِّف يمينيّ.[7] أتريد حقًا أنَّ تقولَ إنَّ “شعبة الداوُديِّين”* أو الأديان التي تطلب تقديم أضحيَّات من الأطفال ليست أدنى من أيِّ مذهب دينيٍّ آخر؟ من شأن الغالبيَّة العُظمى من الناس أن يُوافِقوا على كَون هذه أدنى من سواها موافقةً إجماعيَّة تقريبًا.
ومُعظم الذين يؤكِّدون تَساويَ الأديان يُضمِرون في أذهأنَّهم ديانات العالَم الرئيسيَّة، لا الفرَقَ الصغيرة. وقد كان هذا هو شكلَ الاعتراض الذي نالَني من ذلك الطالبِ ليلَة كنتُ في المناقشة العامَّة. فإنَّه حاجَّ (أدلى بحُجَّته) بأنَّ الفوارق العقائدية بين اليهوديَّة والإسلام والمسيحيَّة والبوذيَّة والهندوسيَّة هي سطحيَّة وغير مُهمَّة، وأنَّ هذه الدِّيانات كلَّها تؤمنُ بالإله الواحد. ولكن لمَّا سألتُه مَن يكونُ ذلك الإله، وصفه بأنَّه روح كلِّيُّ المحبَّة في الكون. أمَّا مشكلة هذا الموقف في تناقضها مع ذاتها. فهو يُصرُّ على أنَّ العقيدة غيرُ مهمَّة، ولكنَّه في الوقت نفسه يفترضُ مُعتقَداتٍ عقائديَّة بشأن طبيعة الله تتعارض مع معتقدات جميع الدِّيانات الرئيسيَّة. ذلك أنَّ البوذيَّة لا تؤمن بإلهٍ شخصيٍّ أبدًا. كما أنَّ اليهوديَّة و المسيحيَّة والإسلام تؤمن بإلهٍ يحسب الناس مسؤولين عن مُعتَقداتهم وممارساتهم، وسَجاياه لا يمكن اختصارها بالمحبَّة وحدها. ومن دواعي السُّخرية أنَّ الإصرار على كَون العقائد غير مُهمة هو عقيدة بحدِّ ذاته . فهو يتمسَّك بنظرة مُحدَّدة إلى الله، تُوصَف بأنَّها أكثر سموًا وتنوُّرًامن معتقدات معظم الأديان الرئيسيَّة. وهكذا، فإنَّ أنَّصار هذا الرأي يفعلون الأمر عينه الذي يحظرونه على الآخرين.
“كلُّ ديأنَّة تَرى جزءًا من الحقيقة الروحيَّة، ولكنْ لا تستطيع أيَّة منها أنَّ ترى الحقَّ كُلَّه”
أحيانًا تُمثَّل هذه النقطة بحكاية العميان والفيل، فإنَّ بضعة عميان كانوا يسيرون معًا وصادفَوا فيلاً سمح لهم بأن يتلمَّسوه ويتحسَّسُوه. فقال الأعمى الأوَّل الذي لمسَ خرطوم الفيل: “هذا المخلوقُ طويلٌ ومرن مثل الحيَّة”. وقال الأعمى الثاني الذي تحسَّس رِجْل الفيل: “كلَّا! إنَّه ثخين ومَبروم مثل جذع الشجرة”. وقال الأعمى الثالث الذي جسَّ جنب الفيل: “لا، بل هو كبير ومُفلطح”. فقد كان في وُسع كل أعمى أن يلمسَ فقط جزءًا من الفيل – ولكنَّ أحدًا من العميان لم يستطعْ أن يتصوَّر الفيل بكامله. وهكذا يُحاجُّ بالطريقة نفسها بأنَّه يمكن لكل واحدة من ديانات العالم أن تُلِمَّ بجزءٍ من الحقِّ بشأنَّ الحقيقة الروحيَّة، ولكنْ لا تستطيعُ أيَّة منها أن ترى الفيل كُلَّه أو تدَّعيَ أنَّها تحوز رؤية شامة للحق.
ولكنَّ هذا الإيضاح يرتدُّ على مُستخدِميه. فالقصَّة مرويَّة من وجهة نظرِ شخصٍ غير أعمى. وكيف يمكنُ أن تعرف أنَّ كل أعمى يَعي فقط جزءًا من الفيل إلَّا إذا زعمتَ أنَّت أنَّك قادرٌ على رؤية الفيل بكامله؟
ثمَّة مظهر اتِّضاع في المحاجَّة بأنَّ الحقَّ أكبر من أن يستطيع أي واحد منَّا أنَ يستوعبه. ولكنَّ إذا استُخدم هذا لتفنيد جميع الادَّعاءات بتمييز الحق. يكون بالحقيقة ادِّعاء مُكابرًا بنوع من المعرفة أسمى من باقي الأنواع… فعلينا أن نسأل: “ما الموقع الممتاز المُطلَق الذي منه تدَّعي أنَّك قادر على إضفاء النسبيَّة على كلِّ التصريحات المطلقة التي تُدلي بها شواهد مختلفة من الكتاب المقدَّس؟”[8]
فكيف يُعقَل أنَّ تعرف، على وجه الاحتمال، أنَّه ما من دين يستطيع أن يُلِمَّ بالحق كُلِّه إلَّا إذا كنتَ أنَّت حائزًا المعرفة المُتفوِّقة الشاملة بالحقيقة الروحيَّة، تلك التي زعمت توًّا أنَّ أيَّ دِين من الأديان لا يحوزُها؟
“المُعتقد الدينيّ أكثر تكيُّفًا مع الحضارة والثقافة والتاريخ من أنَّ يكون هو الحق”.
لمَّا قَدِمتُ إلى مدينة نيويورك أوَّلاً منذ عشرين سنة تقريبًا، سمعت أغلب الأحيان الاعتراض القائل إنَّ جميع الأديان صحيحة على السَّواء. وأمَّا الأن، فالأرجحُ أنَّ يُقال لي إنَّ جميع الأديان زائفة على السواء ويجري الاعتراض على هذه الشاكلة: “جميعُ المَقُولات الخُلُقيَّة و الروحيَّة هي حصيلة اللَّحظة التاريخيَّة والثقافيَّة المخصوصة التي نعيشُها. ولذلك لا ينبغي لأحدٍ أن يَدَّعي أنَّه يستطيع أن يعرف “الحقّ”؛ لأنَّه ليس ثّمَّة مَن يستطيعُ أنَّ يحكُم بشأنَّ توكيدٍ يتناولُ الحقيقة الروحيَّة والخُلُقيَّة أنَّ ذاك التوكيد أصحُّ من سواه”. ويكشفُ عالِمُ الاجتماع بيتر أل. بيرغر (Peter L. Burger) ما ينطوي عليه هذا الافتراضُ الشائعُ من تضارُبٍ خطير.
فإنَّ بيرغر في كتابه “شائعةُ ملائكة” (A Rumor of Angels) يحكي كيف كشف القرنُ العشرون ” سوسيولوجيَّة المعرفة” (The Sociology of Knowledge)، أي أنَّ الناس يؤمنون بما يؤمنون به إلى حدٍّ بعيد لأنَّهم مُكيَّفون اجتماعيًا كي يؤمنوا به. ونحن نودُّ التفكيرَ في أنَّنا نُفكِّر بالأصالة عن أنفسنا (نفكِّر في ما يمثِّل حالنا)، ولكنَّ المسألة ليست بهذه البساطة. إذ إنَّنا نُفكر على غرار الأشخاص الذين نُعجب بهم ونحتاج إليهم أكثر من سواهم. فكلُّ امرىءٍ ينتمي إلى جماعة مُشترَكة تُعزِّزُ امتداح بعض المعتقدات فيما تُقصي معتقدات أخرى. ويُشير بيرغر إلى أنَّ كثيرين استَنتَجوا من هذه الحقيقة أنَّه يستحيل البَتُّ في صواب المعتقدات المتضاربة أو خطئها؛ لأنَّنا جميعًا مُقيَّدون داخل مواقعنا التاريخيَّة والحضاريَّة والثقافيَّة.
غير أنَّ بيرغر يمضي ليقول إنَّ النسبيَّة المطلَقة لا يمكنُ أنَّ توجَدَ إلَّا إذا أعفى القائلون بالنِّسبيَّة أنَّفسهم من تطبيق منطقهم الخاصّ.[9] فإنَّ استنتجت من التكيُّف الاجتماعيِّ الذي يتَّصفُ به كلُّ مُعتقَد أنَّه “ما من مُعتقَد يمكنُ أن يُقبَل على أنَّه صحيح بالنِّسبة إلى كلِّ امرئ على نحوٍ شامل” – وهذا في ذاته تصريح شامل عن كلِّ امرئ هو حصيلةٌ للظُّروف الاجتماعيَّة – فلا يمكنُ أنَّ يكونَ ذلك المُعتقَد صحيحًا، حسب شروطه الخاصَّة. ويُضيف بيرغر أنَّ “النِّسبيَّة تضعُ نسبيَّة لنفسها”، ولذلك لا يمكن أن نحوز النسبيَّة مُطلقًا “على طول الطريق”.[10] ولا شكَّ أنَّ تحيُّزاتنا الثقافيَّة تجعل وَزْنَ دعاوى الحقِّ المُتنافسة عمليَّة أصعب. فإنَّ التكيُّف الاجتماعي للإيمان هو حقيقة، ولكنْ لا يمكن استخدامُه للمُجادلة بأنَّ الحق كلَّه نسبيٌّ، وإلَّا فإنَّ الحُجَّة عينَها تدحَضُ ذاتها. وينتهي بيرغر إلى أنَّنا لا نستطيع أن نتجنَّب وَزْنَ الدَّعاوى الروحيَّة والدينيَّة بالاختباء وراءَ الكليشيهات القائلة إنَّه “لا سبيل إلى معرفة الحق”. فما زالَ علينا أن نقوم بالعمل الصَّعب إذ نسأل: أيَّة توكيدات عن الله والطبيعة البشريَّة والحقيقة الروحيَّة هي صحيحة وأيُّها خاطئة؟ ولا بدَّ لنا من أنَّ نؤسِّس حياتنا على جوابٍ ما عن هذا السؤال.
وللفيلسوف آلفن بلانتنغا (Alvin Plantenga) نسختُه الخاصَّة لحُجَّة بيرغر. فالناس غالبًا ما يقولون له: “لو أنَّك وُلِدت في المغرب، لَمَا كنت حتَّى مسيحيًا، بل بالأحرى مُسلمًا”. وإليك جوابه:
فلنفترض أنَّنا سلَّمنا جدلاً بأنَّي لو وُلدتُ من أبوين مسلمين في المغرب لا من أبوين مسيحيين في ميشيغن. لكانت معتقداتي مختلفة تمامًا. ولكنَّ الأمر عينه يصحُّ بالنسبة إلى القائل بالَّتعُّدديَّة… فلو أنَّ التَّعدُّدي ولد في المغرب. لما كان تعدُّدياً على وجه الاحتمال. فهل يصح بالضرورة أنَّ معتقداته التَّعدُّدية تلك قد أنَّشأتها فيه عمليَّة إنَّتاج عقيدة غير جديرة بالثِّقة؟”
إنَّ بلانتنغا وبيرغر كليهما يؤكدان النُّقطة عينَها: ليس في وُسعك قَول إنَّ: ” جميع الدَّعاوى بشأن الأديان مُكيَّفة تاريخيًّا، ما عدا الدعوى التي أطلقُها أنا الآن”. فإنْ أصررت على أنَّ أحدًا لا يستطيع أنَّ يعرف العقائد الصحيحة من الخاطئة، فلماذا ينبغي أنَّ نُصدِّق ما أنت قائلُه؟ الحقيقة هي أنَّنا جميعًا نُطلِقُ دعاوى بشأن الحقِّ من نوع ما، ويَصعب جدًّا أن نَزِنَها على نحو موثوق به، ولكنْ لا بديل من أن نحاول القيام بهذا.[11]
“من العَجرَفة أنَّ تُصِر على أنَّ ديأنَّتك صحيحة وأنَّ تَهدي الآخرين إليها”.
كتب عالم الأديان الشَّهير جون هك (John Hick) أنَّه ما إن تُدرِكُ أنَّ في العالم أشخاصًا يعادلونك ذكاءً وصلاحًا؛ وأنَّ لديهم مُعتقدات تختلف عمَّا لديك، وأنَّك لن تقوى على إقناعهم بغيرها، حتَّى يكون من العجرفة أن تستمرَّ في محاولة هدايَتهم، أو محاولة إعلاء شأن رأيك حاسبًا إيَّاه الحقَّ الأسمى.[12]
نقع هنا أيضًا على تناقُض قائم في صُلب القضيَّة. فإنَّ معظم الناس في العالَم لا يَرَون رأي جون هك أنَّ جميع الأديان صحيحة على السَّواء، وأنَّ كثيرين منهم صالحون وأذكياء مثله سواء بسواء، وأنَّه لا يُرجَّح أنَّ يُغيِّروا آراءهم. فمن شأن هذا أن يجعل المَقولَة “جميعُ الدَّعاوى الدينيَّة القائلة بحيازة نظرة أفضل إلى الأمور هي مُتعجرفة وخاطئة”، بشُروطها الخاصَّة، مقولة مُتعجرفة وخاطئة.
ويقول كثيرون إنَّه تعصُّبٌ للعرْق أن ندَّعي أنَّ ديانتنا مُتفوِّقة على غيرها من الديانات. ولكنْ، أليس هذا الادِّعاء بحد ذاته مُتعصِّبًا للعِرْق؟ إنَّ مُعظم الحضارات غير الغربيَّة لا تَرى ضَيرًا في القول إنَّ ثقافتها وديانتها هما الفُضليان. والفكرة القائلة إنَّه من غير الصواب أن نفعل ذلك متأصِّلة في أعماق التقاليد الغربيَّة التي تُعنى بالنَّقد الذاتيِّ والفردانيَّة. فاتَّهام الآخرين “بخطيَّة” التعصُّب العِرقيِّ هو بالحقيقة طريقة في القول: “إنَّ الأسلوب الثقافي الغربي في النَّظر إلى الحضارات الأخرى مُتفوِّق على سواه”. إذ يكونَ المرءُ عندئذٍ ممارسًا لما يحظرُه على الآخرين[13]، وقد نبَّه المؤرِّخ سي. جون سُمرفيل (C.John Sommerville) إلى أنَّه “لا يمكن الحُكم على دين ما إلَّا بالاستناد إلى أساس دين آخر”. فليس في وُسعك أن تُقيِّم ديانة ما إلَّا على أساس بعض المعايير الأخلاقيَّة التي تَتَوازى في الأخير مع موقفك الدينيّ الخاص.[14]
إنَّما الآن ينبغي أن يتوضَّح بديهيًّا العَيب الفتاك في هذا الأسلوب بالنَّظر إلى الدِّين عمومًا وإلى المسيحيَّة خصوصًا. فالشُّكوكين يعتقدون أنَّ أيَّة ادعاءات حصريَّة بالمعرفة الأسمى للحقيقة الروحيَّة لا يمكنْ أنَّ تكون صحيحة. غير أنَّ هذا الاعتراض هو في ذاته مُعتقد ديني. فهو يفترض أنَّ الله لا يمكنُ أنَّ يُعرَف، أو أنَّ الله مُحبٌّ لكنْ غيرُ غضوب، أو أنَّه هو قوَّة لاشخصيَّة وليس شخصًا يتكلَّم في الأسفار المقدَّسة. وهذه كلُّها افترضات إيمانيَّة لا تُبرهَن. أضف إلى ذلك أنَّ أنصارها يعتقدون أنَّ لديهم طريقًا أسمَى للنظر إلى الأمور. فهُم يعتقدون أنَّ العالم سيغدو مكانًّا أفضل إنْ تَخلَّى كل امرئٍ عن آراء الدِّين التقليديَّة بشأن الله والحقِّ وتبنَّى آراءهم هم . وعليه، فإنَّ رأيهم هو أيضًا دعوى “حصريَّة” بشأن طبيعة الحقيقة الروحيَّة. فإذا وَجَبَ عدمُ التَّشجيع على آراءٍ من هذا النَّوع، يجب ذلك أيضًا بالنِّسبة إلى هذا الرأي. وإذا لم يَكُنْ من التَّزمُّت التمسُّك بهذا الرأي، فليس من تزمُّت صميميٌّ في التمسُّك بالمعتقدات الدينيَّة التقليديَّة.
وقد تحدَّث الأستاذ بجامعة شيكاغو، مارك لِلا (Mark lilla)، إلى طالب شابّ مُتفوِّق في كُليَّة وارتُن لإدارة الأعمال (Wharton Business School)**، كان ذاك الشاب قد حَيَّره إذ تقدَّم إلى الأمام في إحدى حملات بيلي غراهام (Billy Graham) التبشيريَّة كي يُسلِّم حياتَه للسيِّد المسيح وممَّا كتبه لِلا:
أردت أن ألقي الشكَّ على الخُطوة التي أوشك أنَّ يقوم بها، كي أساعده على رؤية أنَّ هنالك طرقًا أخرى للعيش، وطرقًا أخرى لالتماس المعرفة والمحبة، بل طرقًا لتغيير الذات أيضًا. أردت أن أقنعه بأنَّ كرامته تتعلق بمحافظته على موقف شكوكي متحرِّر تجاه العقيدة. أردتُ… أنَّ أخلِّصه…
إنَّ الشكَّ، مثل الإيمان، يجب أن يتعلَّمه المرء تعلمًا. إنَّه مهارة. ولكنَّ الأمر الغريب في ما يتعلق بالشُّكوكيَّة هو أنَّ أنصارها، القدامَى والجُدد، غالبًا ما كانوا من المبشِّرين بها. وعند قراءتهم (قراءة مؤلَّفاتهم). كثيرًا ما أردت أن أسأل الواحد منهم: “لماذا يهمُّك أمر التبشير بها؟” إنَّما شُكوكيَّتهم لا تُقدم إجابة جيَّدة عن هذا السؤال. وليس عندي أنا إجابة أدلي بها شخصيًّا.[15]
إنَّ معرفة لِلا تُبيِّن أنَّ شكوكه بشأنَّ المسيحيَّة هي مُعتقد بديل مُتعلَّم. فهو يعتقد أنَّ كرامة المرء بوصفه كائنًا بشريًا تعتمد على الشُّكوكيَّة العقائديَّة، الأمر الذي هو بالطَّبع مُعتقد إيماني. وكما يعترف، فهو لا يستطيع أن يتجنب الإيمان بأنَّ تبنِّي الناس لمعتقداته بشأن الحقيقة والكرامة الإنسانيَّة سيكون أفضل من تَبنِّيهم لمعتقدات بيل غراهام.
ليست الدَّعوى بأنَّ إحدى الدِّيانات هي صيحية أضيق أفقًا من الادِّعاء بأنَّ إحدى الطَّرائق في التفكير بشأن جميع الدِّيانات (أي القول إنَّها جميعًا متساوية) هي صحيحة. فنحن جميعًا حصريُّون في معتقداتنا بشأن الدِّين، ولكنْ بطُرقٍ شتَّى.
3 . إبقاء الدِّين شخصيًّا تمامًا
يتَمثَّل أسلوب آخر للتَّفرقة التي يسمح بها الدِّين في أن يُسمَح للناس بأن يؤمنوا شخصيًا بأنَّ إيمانهم هو الحق وبأن “يُبشِّروا” بإيمانهم، ولكن ينبغي أن تُبقى المعتقدات الدينيَّة خارجَ الدائرة العموميَّة. وقد حاجَّ مُفكِّرون مؤثِّرون، مثل جون راولْز (John Rawls) وروبرت آودي (Robert Audi)، بأنَّه في المُباحثات السِّياسيَّة العامَّة لا يحقُّ لنا أنَّ ندافع بالحُجَّة عن موقف خُلُقيٍّ ما إلَّا إذا كأنَّ له أساس علماني لا ديني. وراولْز معروف جيدًا في الغرب بإصراره على أنَّ ما يدْعوه آراءً دينيَّة “شاملة” يجب أن يُقصَى عن المحادثة العامَّة.[16] وقد وقَّعَ مؤخَّرًا حشد كبير من العُلماء والفلاسفة “بيان دفاع عن العِلم والعلمانيَّة” دعا فيه الموقِّعون القادة الحكوميِّين في الولايات المتَّحدة إلى “عدم السماح بأن يتأثَّر التَّشريع أو التنفيذ بالمعتقدات الدينيَّة”.[17] وكان بين الموقِّعين أسماء لها وزنها في عالم الفكر. وقد حاجَّ الفيلسوف ريتشارد رُورتي (ٌRichard Rorty) مثلاً بأنَّ الإيمان الديني يجب أنَّ يبقى شأنًا شخصيًا صرفًا، ويجب ألَّا يُقحَمَ في مناقشات السياسة العامَّة. فإنَّ استعمال أيَّة حُجَّة مُتأصَّلة في معتقد دينيّ معيَّن هو فعلاً “مُعيقٌ للحديث” لا يستطيع غير المؤمن أن يتقَّبله.[18]
ويردُّ رُورتي وآخرون على الذين يَشكُون أنَّ هذا الأسلوب يفوقُ الدين تعصُّبًا، بحُجَّة أنَّ هذه السياسة هي براغماتيَّة (ذات منفعةٍ عمليَّة) ليس إلَّا.[19] فإنَّهم لا يُعارضون الدِّين في ذاته إيديولوجيًّا، ولا هُم يَسعَون إلى السَّيطرة على المعتقدات الدينيَّة، ما دامت باقيةً في الدائرة الخاصَّة. ولكنْ في الميدان العام يَنتُج الخلاف والشِّقاق ويتبدَّد الوقت من جرَّاء المجادلة بشأن الدِّين دائمًا. إذ تُعدُّ المواقف المؤسَّسة على الدِّين طائفيِّة ومُثيرة للجَدَل، في حين يُعدَّ التعليل للمواقف الخُلُقية جامعًا ومتاحًا للجميع. ولذلك ينبغي أن تكون المحادثة العامَّة دُنيويَّة، لادينيَّة البتَّة. فبِغَير إشارة إلى الإعلان الإلهي أو التقليد المُتعارف عليه، ينبغي أنَّ نعمل معًا في سبيل التَّصدِّي للمُشكلات الكبرى في أيَّامنا – كالأيدز والفَقْر ومشكلات التعليم، وما إلى ذلك. وينبغي أن نُبقي آراءَنا الدينيَّة لأنفسنا ونتَّحد حولَ سياساتٍ “تنفع عمليًّا” أكثر الناس.
غير أنَّ ستيفن أل. كارتر (Stephen L.Carter)، الأستاذ بجامعة يال (Yale)، يردُّ بأنَّه يستحيل أنَّ نتخلَّى عن الآراء الدينيَّة عند القيام بأيِّ نوعٍ من التَّعليل الأخلاقي على وجه الإطلاق.
إنَّ المجهودات الهادفة إلى استحداث مَيدانٍ عام يَغيب عنه الحديث الديني، بغضِّ النظر عن مدى صياغته بتَروٍّ – ستقول دائماً في نهاية المطاف لَذوِي الدِّين المنظَّم إنَّهم هم وحدهم، على خلاف أيِّ شخص آخر، لا ينبغي أنَّ يخوضوا الحوارَ العامَّ قبلَ تخلِّيهم عن ذلك الجُزء من أنفسهم الذي ربَّما حَسبوه الأهم.[20]
كيف يُعقَل أنَّ يُقيم كارتر دَعوى كهذه؟ فَلْنبدَأْ بالسؤال عن ماهيَّة الدِّين. يقول بعض إنَّه شكل من أشكال الإيمان بالله . ولكنَّ هذا لا يشمل البوذيِّة الصِّينيَّة (Zen Buddhism)، إذ لا تؤمن بالله على الإطلاق. ويقولُ بعض إنَّه إيمان بما هو فائقٌ للطبيعة. ولكنَّ هذا لا يشمل الهندوسيَّة، إذ لا تؤمن بعالم فَوطبيعي وراءَ العالم المادِّيَّ، بل يؤمن الهندوسيُّون فقط بحقيقةٍ روحيَّة داخل ما هو تجريبي. فما تعريفُ الدّين إذًا؟ إنَّه مجموعة من المعتقدات تشرح ماهيَّة الحياة كلَّها، ومَن نَحن، كما تشرح أيضًا الأمور الأهمَّ التي ينبغي للكائنات البشريَّة أنَّ تُمضي الوقتَ في القيام بها. مثلاً، يعتقد بعض أنَّ هذا العالَم المادِّيّ هو كلُّ ما في الوجود، وأنَّنا نحن هنا بالصدفة، وعندما نموت نتحلَّل فحسْب، ولذلك فالأمرُ المهمُّ هو أنَّ تختارَ القيام بما يجعلُك سعيدًا ولا تَدَعَ الآخرين يفرضون مُعتقداتهم عليك. فلاحِظْ أنَّ هذا، على الرُّغم من عدم كَونه دِينًا (منظمًا) صريحًا، يحوي قصَّة رئيسيَّة، ورواية عن معنى الحياة تَصحبُها توصية بكيفيَّة العيش على أساس تلك الرواية.
من الناس مَن يَدعو هذا “النَّظرة إلى الكون” ومنهم من يدعوه “الهُوَيَّة المَروِيَّة”. ففي كلتا الحالتين هو مجموعة افتراضات إيمانيَّة بشأن طبيعة الأشياء. إنَّه دينٌ ضمني. فَبمفهوم عريض، يَصوغ الإيمان بنظرة ما إلى العالم وإلى الطبيعة البشريَّة حياة كلِّ إنسان. ذلك أنَّ كل إنسان يحيا ويعمل من مُنطلَق هُويَّة مرويَّة من نوع ما، سواء كانت حصيلة تفكير مليٍّ ومَحَطَّ تأمُّل، أم أنَّها لم تكُن كذلك. فجميع الذين يقولون: “عليك أنَّ تفعل هذا” أو “لا ينبغي لك أن تفعل ذاك” إنَّما يعلِّلُون الأمور من مُنطَلق مثل هذا الموقف الضمني الأخلاقيّ والدينيّ. أما البراغماتيُّون فيقولون إنه ينبغي لنا أن نتخلَّى عن نظرتنا الأعمق إلى العالَم، ونُحقِّق إجماعًا بشأن “ما ينفعُ عمليًّا”. ولكنَّ ما يُحدِّد ما ينفع عمليًّا هو وجهة نظرنا (باستخدام تعبير وندَل بَري Wendell Berry) في ما نعتقد أنَّ البشر هم له***. فأيَّة صورة للحياة البشريَّة السعيدة التي “تنفعُ عمليًّا” تصوغُها بالضرورة معتقدات مستقرة داخل الكيان بشأن غاية الحياة البشريَّة.[21] وحتَّى أكثر البراغماتيِّين لا دينيَّةً يتقدمون إلى طاولة النِّقاش بالتزامات ثابتة و تعليلات مرويِّة راسخة لما يعنيه أن يكون المرء بشرًا.
إنَّما يُصر رُورتي على أنَّ المعتقدات المؤسَّسة على الدِّين مُعيقات للمُحادثة. غير أنَّ جميع قناعاتنا الأكثر جوهريَّة بشأن أمور الحياة هي معتقدات إيمانيَّة يكاد يستحيل تبريرُها للَّذين لا يشاركوننا فيها. فالمفاهيم اللادينيَّة مثل “تحقيق الذات” و”الاستقلاليَّة” تستحيل بَرهنتُها، وهي “مُعيقات للمُحادثة” شأنُها شأنُ الكثير ممَّا يُنسب إلى الكتاب المقدَّس على سبيل الاتِّهام.[22]
إلا أنَّ المقولات التي تبدو مُوافقة للفِطرة السليمة، غالبًا ما تكون دينيَّة بطبيعتها إلى أبعد حدّ. افترض أنَّ الآنسة “أ” تُحاج بأنَّ شبكات الأمان المُخصَّصة للفُقراء ينبغي أن تُزال كلُّها، بدَعوى “بقاء الأصلح”. فللسيَّدة “ب” أن ترد قائلة: ” للفُقراء الحقُّ في مستوى مَعيشة كريم. فهُم كائنات بشريَّة مثلنا جميعًا!” عندئذٍ يَسَعُ الآنسة “أ” أن تردَّ عليها بحقيقة كَون كثيرين من عُلماء الاخلاق الأحيائيَّة (Bioethicists) اليوم يعتقدون أنَّ مفهوم “ما هو بشريٌّ أو إنسانيٌّ” مُصطنع ومُستحيل التعريف. وقد تمضي لتقول إنَّه لا إمكانيَّة لمعاملة جميع الكائنات العُضويَّة الحيَّة باعتبارها غاياتٍ، لا وسائل، وإنَّ بعضها يجب أنَّ يموت دائمًا حتَّى يعيش سواها. فتلك هي ببساطة الطريقة التي بها تعمل الطبيعة عملها. وإذا جاوبت السيدة “ب” بحُجَّة براغماتية، قائلةً إنَّ علينا أن نساعد الفُقراء لمجرَّد كَون ذلك يجعل المجتمع يعمل على نحوٍ أفضل، ففي وُسع الآنسة “أ” أنَّ تَطلع بكثير من الحُجج البراغماتيَّة المُماثلة التي تُسوِّغ تَرْك بعض الفقراء يموتون فحسب بدَعوى أنَّ ذلك أكثر فعَّاليَّة بعدُ. والآن يبدأ الغضب يستولي على السيِّدة “ب”، وقد تجيب مُحتدَّة بأنَّ تجويعَ الفقراء حتَّى الموت أمرٌ يُنافي الأخلاق. ولكنَّ في وسع الآنسة “أ” أن تُجيب: “ومن يقول أنَّ الأخلاق يجب أن تكون مُتماثلة لدى الجميع؟” وأخيرًا تهتف السَّيِّدة “ب” مُستنكرة: “ما كنتُ لأرغب أنَّ أعيش في مجتمع كالذي تَصفينَه!”.
في هذه المُحادثة، حاولت السيدة “ب” أن تتبع جون راوْلز وتَجِدَ حُججًا “حياديَّة وموضوعيَّة” مقبولةً عمومًا من شأنها أن تُقنع الجميع بأنَّه يجب علينا ألا نُميت الفقراء جُوعًا، وهي قد أخفقت؛ لأنْ لا حُجَّة من هذا النَّوع. وفي الأخير أكَّدَت السيِّدة “ب” مساواة الأفراد البشرييِّن وكرامتهم لمُجرَّد كونها تؤمن بأنَّ هذا صحيح وحق. وقد اعتمدت مادَّة تؤمن بأنَّ الناسَ أكثرُ قيمة من الصُّخور أو الأشجار – رُغم عجزها عن بَرهنة مُعتقد كهذا علميًّا. فإنَّ مُقتَرحاتها بشأن السِّياسة العامَّة مؤسَّسة كُليًّا على موقف دينيّ.[23]
وهذا يؤدِّي بمنظر قانوني يُدعى مايكل جاي. بري (Michael J.Perry)، لأنْ يستنتج أنَّه “من ضروب التهوُّر الخياليّ، على أيَّة حال، أنَّ نحاول إنشاء سدٍّ مُحكم بين الخطاب الخُلُقيِّ ذي الأساس الدينيِّ، والحديث العَلماني في النِّقاش السياسيِّ العام”.[24] ويُحاجُّ رُورتي و آخرون بأنَّ المجادلة الدِّينيَّة مثارُ نقاش يفوق الحدّ. إلَّا أنَّ بري يردُّ في كتابه “في حِمى الله؟ الإيمان الدينيُّ والدِّيمُقراطيَّة الليبراليَّة” (Undr God? Religious Faith and Liberal Democracy) بأنَّ الأساسات اللَّادينية للمواقف الخُلُقيَّة ليستْ أقلَّ عرضة للجَدَل من الأساسات الدِّينيَّة، ويمكن إقامة قضيَّة قويَّة جدًا بأنَّ جميع المواقف الأخلاقيَّة دينيَّة، على الأقلِّ ضمنيًا. ومن دواعي السُّخرية أنَّ الإصرار على إقصاء التَّعليل الديني من الميدان العام هو في ذاته وجهة نظر “طائفية” مُثيرة للجدل.[25]
عندما تخرجُ إلى الميدان العام، يستحيل أن تتخلَّى عن قناعاتك بشأن القِيَم المُطلقة. ولنَأخُذْ قوانين الزواج والطَّلاق كحالة تُدرَس. فهل يمكنُ أن نَسنَّ قوانين نتَّفقُ كلُّنا على كَونها “تعمل عملَها” بمعزل عن التزامات خاصَّة لوِجهة نظرٍ مُعيَّنة إلى الكَون؟ لا أعتقد ذلك. إذ إنَّ آراءك بشأن ما هو صائب ستكون مؤسَّسة على ما تعتقدُ أنَّه غاية الزَّواج. فإنْ حَسبت أنَّ الزَّواج هو في الأصل لِتَنشئة الأولاد لأجل منفعة المجتمع كُلِّه، تجعل الطلاق عندئذٍ صعبًا جدًا. وإنْ حسبت أنَّ غاية الزواج هي من باب أولَى لسعادة الراشدين المُقدِمين عليه وإشباعهم عاطفيًّا، تجعل الطلاقَ أسهل بكثير. والرأيُ السابق مؤسَّس على نظرة في الازدهار والرفاهيَّة البشرييِّن تحسب العائلة أهمَّ من الفرد، على ما يُرى في المَورُوثات الخُلُقيَّة لدى الكونفوشيوسيَّة واليهوديَّة والمسيحيَّة. أمَّا الأسلوب اللاحق فهو نظرة أكثر فَردانية في الطبيعة البشريَّة مؤسَّسة على فَهْم حركة التنوير للأمور. وهكذا، فإنَّ قوانين الطلاق التي تَعتقد أنَّها “تَنفعُ عمليًّا” لابدَّ أن تتعلَّق بمعتقداتك المُسبَّقة بشأن ما يَعنيه كَونُ المرء سعيدًا و إنسانيًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى.[26] وليس من إجماع موضوعيٍّ شامل بشأن ماهيَّة ذلك. فعلى الرُّغم من استمرار الكثيرين في الدَّعوة إلى إقصاء الآراء الدينيَّة عن الميدان العام، تعترف أعدادٌ متزايدة من المفكِّرين، الدينيِّين والعَلمانيِّين على السَّواء، بأنَّ هذه الدَّعوة هي دينيَّة بحدِّ ذاتها.[27]
المسيحيَّة تستطيع أن تُخلِّص العالَم11يمين
لقد حاججتُ ضدَّ فعَّاليَّة جميع المجهودات الرئيسيَّة التي تهدف إلى التصدِّي للتفرقة التي يُنشئها الدِّين في عالَمنا اليوم. غير أنَّي أتعاطَفُ بشدة مع غايتها. ومن المؤكَّد أنَّ التعصُّب الدينيّ قد يكون واحدًا من الأخطار الرئيسية التي تُهدِّد السلام العالمي. وفي مُستهل هذا الفصل، رسمتُ الخطوط العريضة لذلك “المُنحدر الزَّلق” الذي يميل كلُّ دينٍ إلى إقامته في القلب البشريّ. وما أسهل ما يؤدِّي هذا المُنحدر الزَّلق إلى الطُّغيان! ولكنَّ في داخل المسيحيَّة – بصورتِها القويَّة الناشطة وقويمة الرأي – موارد غنيَّة قادرة على جَعْل أتْباعها الحقيقيَّين رُسُل سلام على الأرض. إذ تكمُنُ في المسيحيَّة بحدِّ ذاتها قُدرة رائعة على تفسير مُيول التَّفرقة والتحزُّب داخل القلب البشريِّ، كما أنَّها قادرة على دَحْرها.
تَمدُّنا المسيحيَّة بأساس راسخ لاحترام أهل الأديان الأخرى. فالسيِّد المسيح يفترض بديهيًّا أنَّ غير المؤمنين في الحضارة المحيطة بأتْباعه سيُميِّزون بسُرور قسطًا كبيرًا من السُّلوك المسيحيِّ بِصفَته من الأمور “الحَسَنة” (متَّى 5: 16؛ 1بطرس2: 12). وهذا يفترضُ وجود بعض التَّداخل بين مجموعة القِيَم المسيحيَّة ونظيرتها في حضارة ما[28] وفي ديانة ما.[29] أمَّا سبب وجود هذا التَّداخُل فهو أنَّ المؤمنين بالسيِّد المسيح يعتقدون أنَّ جميع الكائنات البشريَّة مخلوقة على صورة الله ومهيَّأة للصَّلاح والحكمة. ومن ثَمَّ فإنَّ عقيدة شُمول صورة الله المُستفادة من الكتاب المقدَّس تؤدي بالمسيحيِّين لأنْ يتوقَّعوا من غير المؤمنين أن يكونوا أفضل ممَّا يستطيعُ أيُّ من معتقدات أولئك غير المؤمنين الخاطئة أن يجعلهم****. كذلك أيضًا تؤدي عقيدة شمول الخاطئيَّة (الجميع أخطأوا) المُستفادة من الكتاب المقدَّس بالمسيحيَّين إلى توقُّع أن يكون المؤمنون أسوأ مُمارسة لإيمانهم ممَّا ينبغي أنَّ تجعلهم مُعتقداتُهم القويمة. وهكذا، فلا بدَّ أن يوجد أساس وفير للتَّعاون المُتَّسم بالاحترام.
فالمسيحيَّة لا تقود أتْباعها إلى الاعتقاد فقط أنَّ لدى أهل الدِّيانات الأخرى صلاحًا وحكمةً يُقدِّمونهما. بل تؤدِّي بهم أيضًا لأنْ يتوقعوا أن يعيش كثيرون خُلُقيًّا حياةً أسمى من حياتهم أنَّفسهم. ومعظم الناس في الحضارة الغربيَّة يعتقدون أنَّه إذا كأنَّ الله موجودًا ففي وُسعهم أن يتواصلوا معه ثُمَّ يذهبوا إلى السَّماء بعيشهم حياةً صالحة. ولْنُسَمِّ هذا رأي “التَّحسين الخُلقيِّ” (The Moral Improvement View). غير أنَّ المسيحيَّة تُعلِّم عكس هذا تمامًا. فبحسب المفهوم المسيحيّ الصَّحيح، لا يَطلُبُ منا السيِّد المسيح أنَّ نعيش عيشةً تجعلُنا قادرين على أن نستحقَّ الخلاص، بل بالأحرى جاء كي يغفر لنا خطايانا ويُخلِّصنا بحياته وموته عِوَضًا عنَّا. فإنَّ نعمة الله لا تأتي إلى أناس يفوقون غيرهم أداءً في العادة، بل بالحريّ إلى أولئك الذين يعترفون بِعجْزهم عن الأداء، فيُقرُّون من ثَمَّ بحاجتهم إلى الخلاص.
لذلك ينبغي أن يتوقَّع المسيحيُّون رؤية أشخاصٍ غير مؤمنين يكونون أكثر منهم بكثير لُطفًا وصلاحًا وحكمةً وفضلاً. لماذا؟ لأنَّ المسيحيِّين المؤمنين لا يَقبَلُهم الله بفضل أدائهم الخُلُقيِّ أو حكمتهم أو فضيلتهم، بل بفضل عمل السيِّد المسيح نيابةً عنهم. إنَّما أغلب الأديان وفلسفات الحياة تفترضُ أنَّ وضع المرء الروحيِّ يتوقف على إنجازاته الدِّينيَّة. وهذا بطبيعة الحال يَدفع الأتْباع إلى الشعور بالتفرُّق على أولئك الذين لا بؤمنون أو يَسلكون على غِرارِهم. ولكن لا ينبغي أنَّ يكون لإنجيل المسيح، في أيَّة حال، هذا التأثير.
من الشائع أن يقال إنَّ “الأصوليَّة” تُفضي إلى العُنف. ولكنْ كما سبق أن رأينا، لكُلٍّ منَّا التزامات إيمانيَّة أساسية لا تُبرهَن، نعتقد أنَّها أسمى ممَّا لدى الآخرين. فالسؤال الحقيقيُّ إذًا: أيَّة أساسيَّات ستُؤدِّي بالمؤمنين بها لأنْ يكونوا أكثر حُبًّا وتقبلاً لأولئك الذين يختلفون عنهم؟ أيَّة مجموعة من المُعتقدات الحصريَّة، التي لا بدَّ منها، تؤدِّي بنا لأن نسلك سلوكًا متضعًا مُحبًّا للَّسلام؟
ومن مُفارقات التاريخ هي العلاقة بين مُعتقدات المسيحيِّين الأوَّلين ومُمارساتهم مُقارنةً بتلك التي تخصُّ الحضارة المحيطة بهم.
فإنَّ الآراء الدينيَّة في العالم الإغريقي الرُّوماني كانت مُنفتحة ومُتسامحة ظاهريًا، حيث كأنَّ لكُلِّ فرد ذكرًا كان أم أنثى إلهُه الخاص. غير أنَّ ممارسات تلك الحضارة كانت وَحشيَّة إلى حدٍّ بعيد. فقد كان العالم الإغريقيُّ الروماني متمايزًا في طبقات اقتصاديَّة أيّ تمايُز، مع هُوَّة سحيقة بين الأغنياء والفقراء. إنَّما على نقيض ذلك، أصرَّ المسيحيُّون على وجود إله واحد حقيقيٍّ فقط، هو المُخلص يسوع المسيح الذي مات وقام. غير أنَّ حياتهم وممارساتهم كانت جميعًا مُرحِّبةً على نحوٍ رائع بأولئك الذين همَّشتْهم تلك الحضارة. فالمسحيُّون الأوَّلون أدْمجوا أُناسًا من أجناس وطبقات شتَّى بطُرق بدت مُخزية في نظر المُحيطين بهم. وكان العالم الإغريقي الروماني أميل إلى ازدراء الفقراء، إلَا أنَّ المسيحيِّين أعطوا بسخاء ليس فُقراءَهم فقط، بل فُقراء الديانات الأخرى. وفي المجتمع الأوسَع، كانت للنساء مكانة وضيعة جدًا، إذ كُنَّ عُرضة لمستويات عالية من قتل الأطفال الإناث، والتَّزويج القَسريّ، والافتقار إلى المُساواة الاقتصاديَّة. غير أنَّ المسيحيَّة يسَّرت للنِّساء أمانًا ومساواةً أكثر بكثير ممَّا سبق أن وُجد في العالم القديم.[30] وفي أثناء الأوبئة التي عَصفت بالمدن في القرنَين الأوَّليَن، اعتنى المسحيُّون بجميع المرضى والمُحتَضَرين في المدينة، على حساب حياتهم أغلب الأحيأنَّ.[31]
فلماذا كأنَّ من شأن نظام إيمانيّ حصريّ كهذا أن يؤدِّي إلى سلوك مُنفتح جدًا حيال الآخرين؟ لقد كأنَّ ذلك على هذه الشاكلة لأنَّه كان لدى المسحيِّين في صُلب نظامهم الإيمانيّ أقوى مصدر ممكن لممارسة الخدمة المُتفانية والسَّخاء وصُنْع السلام. ففي لُبَّ نظرتهم إلى الحقيقة كان رجل مات لأجل أعدائه مُصلِّيًالأجل مُسامحتهم. ولا يُمكن إلَّا أن يؤدِّي التفكير في هذا إلى طريقة معاملة مُختلفة جذريًا للذين كانوا مختلفين عنهم. وقد عنى ذلك أنَّهم لا يستطيعون أن يتصرَّفوا تجاه مُناهضيهم تصرُّف ظُلم و طُغيان وعُنف.
لا يَسعنا أن نتخطَّى بخفَّة واقع حُصول مظالم ارتكبتها الكنيسة باسم السيِّد المسيح، ولكنْ مَن يستطيع أن يُنكر أنَّ قوة معتقدات المسيحيِّين الأكثر أساسيَّة يمكن أن تكون زَخَمًا فعالاً لصُنع السلام في عالَمِنا المُضطرب؟
[1] الاقتباسات في مستهل كل فصل مأخوذة من استطلاع بالبريد الالكتروني لنيويوركيين في شباب في أواسط عشرينياتهمطلب إليهم أنَّ يعبروا عن شكوكهم واعتراضاتهم الرئيسية بشأنَّ الايمأنَّ المسيحي؛ وقد غيرت الأسماء.وأنَّا أشكر نيكول دياموند أوستن على الفكرة وعلى تنفيذ الاستطلاع.
[2] أنَّ الموجة الحديثة من الكتب المناهضة للدين والرائجة جداً بأقلام ريتشارد داوكنزوسام هرس دأنَّيال دنت وكريستوفر هتشنز لاتزكي بطلأنَّ الدين، بل تعود فقط غلى كونهم لايعتقدون أنَّ تلك الاستراتيجية فعالة عملياً . فرجاؤهم الرئيس بالنسبة إلى الدين أنَّ يلقى الشجبوالهزء بشدة ، وأنَّ يسبر على نحو رسمي أمراً ذاتياً بحيث يضعف ويهمش.
[3] Alister McGrath, The Twiilight of Atheism: The Rise And Fall of Disbelief in the modern World (oxford University press, 2004), p.230. See also pp. 187, 235.
[4] اعتقد كثير من المفكرين البارزين في أواسط القرن العشرين أنَّه حين يغدو حفداؤهم في مثل سنهم ستكون معظم الأديأنَّ في وهنت أو تلاشت، فمثلاً ، كأنَّ في وسع عالم أنَّثروبولجي سنة 1966 أنَّ يكتب: ” أنَّ مستقبل الدين التطوري هو الأنَّقراض…فالايمأنَّ بقوى فو طبيعية مصيره أنَّ يضمحل في جميع أنَّحاء العالم نتيجة لتزايد وثاقة صلة المعرفة العلمية وسعة أنَّتشارها”.
- F .C . Wallace, Religion: An Anthropological View (RandomHouse, 1966), p.265.
[5] . For Some account of how sociologists have backed away from the secularization thesis, see peter L. Berger, ed., The Desecularization of the world : Resurgent Religion and world politics (Eerdmans, 1999).
[6] On the growth of Christianity in the Non-Western World, see Philip Jenkins, The Next Christendom (oxford University press, 2002) and LaminSanneh, Whose Reigion Is Christianity?(Eerdmans,2003).
[7] Joe Kiein, “Because I promised and You Seemed So Darn Curious…”on the Time magazine blog, March7, 2007.Accessed that date at http:// time –blog.com/swampland/2007/03/because_i_promised_and_you _see.html.
* شعبة الداوديين (The Branch Davidians) هي بدعة أنَّشقت عن طائفة السبتيين – الأدفنتست, وقد حملت هذا الإسم بعد وفاة مؤسسها فكتور هونف ( Victor Houteff) في عام 1955. ومن معتقداتهم الرئيسية أنَّ قائدهم يجب أنَّ يكون مملوءا بروح النبوة, وأنَّ عليهم أنَّ يستردوا ملك داود على الأرض قبل مجيء السيد المسيح ثأنَّيةً, ومن هنا إرتبط إسمهم بالملك داود (الناشر).
[8] Lesslie Newbigin, The Gospel in a pluralist Society (Eerdmans ,1989) ,pp. 9-10, 170.
[9] Peter Berger ,A Rumor of Angels: Modern Society and the Rediscovery
Of the supernatural (Doubleeday,1969), p.40.
[10] LesslieNewbiginThe Gospel in a pluralist Society (Eerdmans ,1989) ,pp. 9-10, 170. 9 peter Berger ,ARumorOf Angels:ModernSociety and the RediscoveryOf the supernatural (Doubleeday,1969), p.40.
ثمة عدة دراسات نقدية متقنة تبين طبيعة الدحض الذاتي في النسبية، وأحد الأمثلة على ذلك ماكتبهإتش.سيغل:
Relativism Reuted: ACritique of Contemporary EpistemologicalRelativism
( Dordrecht: D.Reidel, 1987) .
وهنالك وجهة نظر بالغة التأثير تزعم أنَّ “الحقيقة” توجد فقط ضمن إطار معين من المعتقدات، وأنَّ كل معتقد ذو قيمة مساوية بسبب عدم وجود معيار يتخطى الأطر يجري بواسطته التحكيم بين جميع مزاعم الحقيقة. ويتمثل شكل من هذا الزعم الأكثر حداثة في التشديد على أنَّ الحقيقة ” تستبد بها اللغة” وأنَّ كل زعم بالحقيقة لايعدو كونه تبصرات جماعة لغوية معينة.
ولكن، كما يبين سيغل، أنَّ يقال أنَّ جميع روايات الحقيقة تستبد بها اللغة وتكون نسبية عند جماعاتها اللغوية هو بحد ذاته رواية شاملة لمفعول اللغة عبر جميع الجماعات المشتركة، ومن ثم فهو زعم بشأنَّ الظرف البشري من هذا القبيل. أنَّما نظرة النسبيين الخاصة إلى الأمور لاتخولهم حق التلم على هذا النحو. فهم يفعلون الأمر عينه الذين يمنعون الجماعات الأخرى أنَّ تفعله.” وهكذا، فأنَّ النسبية لاتستطيع أنَّ تحقق إعلأنَّ ذاتها أو حتى اعتبار ذاتها من دون أنَّ تهزم ذاتها”.
[11] Alvin planting, “A Defense of Religious Exclusivism,” in The Analytic Theist,ed James F.Sannett (Eerdmans, 1998),p.205.
[12] John Hick, The Myth of God Incarnate(Westminster,1977)andAn Interpretation of Religion (Yale University press ,1989).For a much more extensive answer to Hick than I give here see Peter Van In wagen, “Non Est Hick, ” in the Rationality of Belief and the plurality of Faith , ed.T. Senor (Cornell University press, 1995).
[13] يوجد عرض مفصل لهذه النقطة في المرجع التالي:
Stanley Fish’s “The Trouble with Tolerence” in the November 10,2006, issue of the Chronicle of Higher Education.
وهذه مراجعة ل
Wendy Brown’s Regulating Aversion: Tolerance in the Age of Identity and Empire(Princeton University press, 2006).
ووجهة نظرها (كوجهة نظر فش أيضاً)أنَّ الفكرة الغربية القائلة ” بالتساهل حيال جميع الآراء هي ذاتها تشكيلة مخصوصة جداً من الافتراضات بشأنَّ الحقيقة تستعمل تاليا كمعايير لتقرير من يتساهل المجتمع معه ومن لايتساهل.ويقول فش أنَّ لدى المجتمع الغربي تشكيلته الخاصة من المعتقدات المقدسة التي لأنَّزاع فيها، ” مثل قدسية الاختيار” .ويجادل فش وبراون بأنَّ كثيراً من المعتقدات التاريخية التقليدية أنَّما باتت عرضة “لعدم التسامح” في ذلك المجتمع بسبب البنية البينة الجديدة التي يضفيها عليها المجتمع الغربي الليبرالي.
“فهي تفترض أنَّ الناس يقومون بالأمور ليس بسبب ما يعتقدونه، بل لأنَّهم يهود أو مسلمون او سود أو مثليون ….فهم محصنون حيال الجاذبية العقلأنَّية” .ولذلك فأنَّ أي دينيضفي على حقيقته الخاصة قيمة تفوق قيمة التسامح يعد ” مفرط الصلة” بحضارة القوم وغير قادر على أنَّ يكون عقلأنَّياً . “وما أنَّ تكون الجماعة ما قد رفضت التسامح بصفته مبدأ هادياً بدلاً من الواجبات الحضارية التي توصي بها الكنيسة أو القبيلة، حتى تصير مرشحة لعدم التسامح الذي يؤدى
باسم التسامح”.
[14] C. John Sommerville, The Decline of the Secular University (Oxford
University press, 2006) p.63.
** تأسست كلية وارتن – جامعة بنسلفأنَّيا في عام 1881 بتبرع من جوزف وارتن (Joseph Wharton) لتكون أول كلية متخصصة في مجال إدارة الأعمال . وهي تعد اليوم على مستوى عالمي واسع من المعاهد التعليميو المرموقة في هذا المجال (الناشر)
[15] Mark Lilla,” GettingReligion: My long-Lost Years as a Teenage Evangelical,”in New York Times Magazine September 18, 2005, p.95
[16] Robert Audi, “The Separation of Church and State and the Obligation of Citizenship,” Philisophy and public Affairs 18 (1989) : 296; John Rawls , Political Liberalism (cosity press ,1993), pp.212-254.
[17] On February 28 ,2007 , this document could be accessed at http ://www.cfi dc.org/declaration .html.
[18] Richard Rorty, “Religion as a Conversation – Stopper, ”Philosophy andSocial Hope (Penguin,1999) ,pp.168-169.
[19] See Richard Rotry , Consequence of Pragmatism (University of Minnesota press, 1982 )pp .166-67.
[20] Stephen L. Carter, The Dissent of the Goverened (Harvard University press, 1999) ,p. 90.
*** ربما المقصود هنا أنَّه حتى يتمكن أي فرد من تحديد ما ينفع البشر, عليه أنَّ يعرف أولاً غاية الحياة البشرية فيقرر حينها ما ينفع البشرية. وهذا بحد ذاته مثار جدل بين البراغماتيين أنَّفسهم (الناشر).
[21] مثلاً تقيم ليندا هرشمأنَّ دعوى على النساء اللواتي يبقين خارج سوق العمل كي يربين الأولاد في المنزل.وهي تصر على أنَّه من غير الصواب أنَّ تفعل النساء كذلك حتى لو كأنَّ اختيارهم الطوعي الحر. أنَّ العائلة – بمهماتها الطبيعية المتكررة وغير المنظورة اجتماعياً – هي جزء ضروري من الحياة، ولكنها تتيح للازدهار البشري الكامل فرصاً أقل ممَّا تتيحه الدوائر العامة مثل السوق والحكومة وهذه الدائرة الأقل ازدهاراً ليست المسؤولة الطبيعية أو الأدبية للنساء وحدهن ….فالنساء اللواتي يخصصنها لأنَّفسهنيلحقهنالظلم”.
“Homeward Bound,” in The American prospect 16, no. 12 (December 2005).
لاحظ أنَّ حجتها مؤسسة على تخمين ” للازدهار البشري ” لايمكن أبداً أنَّ يبرهن تجريبياً وهو متجذر في آراء عن الكرامة والمجتمع البشريين تبدو في ظاهرها علمأنَّية، ولكنها حتماً غير قابلة للبرهنة وعرضةللجدل ومؤسسة في النهاية على افتراضات ايمأنَّية ذات علاقة برؤية شاملة إلى العالمويناصر ديفيد بروكسهرشمأنَّ :” أنَّها تؤكد بأنَّ الوظائفذات المدخول العالي تؤدي إلى ازدهار بشري أكثر من ذاك الذي تؤدي إليه الوالدية. فألق نظرة استرجاعية على حياتك، وقل: أية ذكريات تعزها أكثر – تلك التي لك مع عائلتك، أم تلك التي حصلت عليها في الوظيفة ؟”
See “The Year of Domesticity,” New York Times, January 1, 2006.
[22] Gary Rosen, “Narrowing the Religion Gap?” New York Times Sunday Magazine, February 18, 2007.
[23] This interchange ia adapted from C .John Sommerville, “TheExhaustion of Secularism,”The Chronicle Review (June 9, 2006).
[24] Michael J.Perry ,Under God?Religious Faith andLiberal Democracy ( Cambridge University press, 2003) ,pp.44.
غير أنَّ بري يحاج على حق بأنَّ الخطاب العامذا الأساس الديني في نظام ديمقراطيليبرالي
يجب أنَّ يكون”مدروساً” لا”عقائدياً” فحسب، أي أنَّ المتكلمين يجب أنَّ يكونوا مستعدين لأنَّ ينتقدوا، ويردوا على النقد ويتداولوا ويناقشوا يسعوا إلى جعل دعوى المرء مقنعة للطرف الآخر بقدر المستطاع .
[25] See Perry’s Chapter 3 : ” Why political Reliand on Religiously Grounded Morality Is not Illegitimate in a Liberal Democracy” in Under God? Above.
[26] See John Witte ,Jr ., “God’s Joust , God’s Justic: An Illustration from the History of Marriage Law,” in Christian Perspectives on Legal Thought , M. McConnel, R.Cochran, A.Carmella,eds.(Yala University press,2001),pp.406-425.
[27] Stanely Fish, “Our Faithin Letting it All Hang out,” New York Times, February 12, 2006.
[28] MiroslavVolf , “Soft Difference: TheologicalReflections on the Relation Between Church and Culture in 1 peter,” Ex Auditu 10(1994): 15-30.
[29] See C. S. Lewis’s appendix, “Illustrations of theTao: in The Abolition of Man( Macmillan, 1974).
بيت القصيد عند لويس أنَّ بين الأديأنَّ تشابكاً مهمّا ً فيما يتعلق بالأخلاق:كيف يفترض أنَّ
تعيش في العالم والفوارق الحادة بين الأديأنَّ تحصل في نطاق آخر، ألا وهو”علم الخلاص”.
فالأديأنَّ تختلف في توجيهاتها بشأنَّ كيفية الاتصال بالله والحصول على القوة الروحية للعيش بالطريقة الموصوفة .
**** المقصود هنا أنَّه مهما سمت تعاليم غير المؤمنين (وهي تعد خاطئة بالنسبة إلى المؤمنين المسيحين), فأنَّها لن تجعلهم على صورة الله. لذا فأنَّ الإيمأنَّ المسيحي بشمول صورة الله يجعل النظرة إلى أولئك غير المؤمنين أسمى من نظرتهم إلى أنَّفسهم (الناشر).
[30] قد يفاجىءهذا التصريحكثيراً من القراء الذي سبق أنَّ سمعوا أنَّ الأديأنَّ القدامى والوثنية كأنَّت أكثر إيجابية من المسيحيِّة تجاه النساء. فقد كأنَّ شائعا ً جداً في العالم اليونأنَّي الرومأنَّي أنَّترمى المولودات حديثاً في العراء حتى يمتن من جراء التعرض لعوامل الطبيعة، بسبب مكأنَّة النساء الوضيعة في المجتمع.وقد منعت الكنيسة جمهورها
أنَّ يفعلوا ذلك. فأنَّ المجتمع اليونأنَّي – الرومأنَّي لم يجد قيمة للمرأة غير المتزوجة، ولذلك كأنَّ مخالفاً للقأنَّون أنَّ تبقى الأرملة بغير زواج من جديد مدة تفوق السنتين. ولكن المسيحيِّة كأنَّ أول دين لايرغم الأرامل على التزوج. فأنَّهن كن يلقين الدعم المادي والكرامة ضمن الجماعة بحيث لم يكن تحت ضغط شديد كي يتزوجن إذا لم يرغبن في ذلك .وكأنَّت النشاء الوثنيات يفقدن كل سيطرة على أملاك أزواجهن إذا تزوجن من جديد، غير أنَّ الكنيسة سمحت للأرامل بأنَّ يحتفظن بأملاك أزواجهن .
أخيراً لم يؤمن المسيحيون بالمساكنة فأنَّ أراد رجل مسيحي أنَّ يعيش مع إمرأة، كأنَّ عليه أنَّ يتزوجها، وقد أعطى ذلك النساء أمأنَّة أعظم بكثير جداً.ثم أنَّ المعيار الوثني المزدوج
في السماح للرجال بأنَّ يقيمواعلاقات جنسية خارج الزواج، وبأنَّ يتخذوا خليلات عشيقات )
كأنَّ محظوراً في المسيحيِّة. وبهذه الطرق جميعاً تمتعت النساء المسيحيات بأمأنَّ ومساواة
أعظم بكثير جداً ممَّا تمتعت به النساء في الحضارة المحيطة.
See Rodney Stark, The Rise of Christianity( Harper, 1996),Chapter5: “The Role of Women in Christian Growth”.
[31] خلاصة عظيمة لأسباب أنَّتصار المسيحيِّة على الوثنية القدامى، من طريق ممَّارساتها
المتسمة بالرحمة والعدل،نجدها في المرجع التالي:
Rodney Stark, The Rise of Christianity ( Harper, 1996) ,Chapters 4, 6, 7.