نظرة يهودية إلى تجربة المسيح على الجبل ما بين لوقا ومتى
نظرة يهودية إلى تجربة المسيح على الجبل ما بين لوقا ومتى
صفحة : المسيح في التراث اليهودي
بحسب معلمنا بولس ، فإن الكتاب كله نافع للتعليم والتوبيخ (2تي 3: 16) ، وكل كلمة فيه او حتى حرف هو بمثابة حجر في بناء ضخم . هنا نتكلم عن أحد أهم الأحداث التي سجلتها الأناجيل وهو حدث تجربة المسيح على الجبل والذي فيه انتصر المسيح لنا على الشيطان ليعلن عن عصر جديد فيه لم يعد الشيطان مُتسلطاً الا على من لم يحتمي به.
ورد حدث التجربة على الجبل في الأناجيل الإزائية الثلاث (مت 4: 1-11) (مر 1: 12-13) (لو 1: 1-13) ، ولكن لم ترد تفاصيله إلا في إنجيلي متى ولوقا . وبالإضطلاع على نصهما نجد أن كلا الإنجيليين كتبا الحدث والذي يشمل ثلاث تجارب بترتيب مختلف.
القديس متى
1- تحويل الحجارة الى خبز (مت 4: 3-4)
2- الصعود لجناح الهيكل ليطرح نفسه تجريبا للرب الاله (مت 4: 5-7)
3- الصعود الى جبل عالي لرؤية ممالك الارض والوعد بالسلطان عليها مقابل السجود (مت 4: 8-10)
القديس لوقا
1- تحويل الحجارة الى خبز (لو 4: 3-4)
2- الصعود الى جبل عالي لرؤية ممالك الارض والوعد بالسلطان عليها مقابل السجود (لو 4: 5-8)
3- الصعود لجناح الهيكل ليطرح نفسه تجريبا للرب الاله (لو 4: 9-12)
مع مزيد من الإضطلاع نجد أن كلا الإنجيليين لم يتناقضا ، فالقديس متى قصَّ التجربة بترتيبها الزمني ، أما لوقا فرتبها ترتيب مكاني لذا ذكر تجربة تحويل الحجارة الى خبز ثم تجربة الصعود لجبل عالي لان كلاهما تم في البرية ، ثم أخيرا قصَّ التجربة الثالثة وهي عند مكان الهيكل.
نلاحظ أيضا أن متى البشير أستخدم اللفظ (τότε) والترجمة الدقيقة لها (ثم -Then ) وهو ما يعني ترتيبه للقصة بترتيب زمني دقيق . أما القديس لوقا أستخدم اللفظ (καὶ) وتُترجم (و -And ) وهي تُستخدم للربط ولا تشترط الترتيب.
هذا الترتيب المختلف لم يرد هباءا كما قد يرى البعض وانما هو ترتيب مقصود ، فليس كلمة او حرف وُضِعت في الكتب الا ولها مقصد وغاية لإظهار أمر ما.
❶ ترتيب لوقا الإنجيلي.
لوقا الطبيب كما نعلم هو ليس أحد التلاميذ ولكنه واحد من السبعين رسول الذين أرسلهم المسيح بنفسه ، يتميز لوقا أنه يبحث في التفاصيل كما أنه ذكر كثير من الاحداث والأمثال وتفرد بها. لوقا اهتم بتوضيح من هو المسيح للأمم ، ولهذا مثلا عندما سرد سلسلة نسب المسيح (لو 3) فهو لم يبدأ بإبراهيم أبو الآباء (لانه لا يخص الأمم) وإنما بدأ بآدم أبو البشرية (بإعتباره مصدر مشترك لليهود والأمم على حدا سواء). ما كتبه لوقا –مسوقا بالروح- في تجربة المسيح إنما يعيد لذهننا تجربة الانسان الأول (آدم وامرأته).
فالترتيب الذي ذكره لوقا بالروح إنما هو نفس ترتيب الأمور التي فيها وقع الانسان الأول والتي أدت لسقوطه.
◆تجربة المسيح وتجربة الانسان الأول
تجربة الإنسان الأول نراها في (تك 3) ، فالحية أغرت حواء بأن تأكل من شجرة معرفة الخير والشر لكي تكسر بهذا الوصية الواحدة الوحيدة التي أوصى الله بها آدم وحواء.
لو تأملنا النص سنجد ثلاثة أمور اوقعت الانسان الأول في المعصية وهو داخل جنة عدن الجميلة.
1- شهوة الجسد
2- شهوة العين
3- شهوة الكبرياء
وتلك الأمور نراها مجتمعة في آية واحدة (تك 3: 6) “فرأت المرأة ان الشجرة جيدة للأكل (1) وانها بهجة للعيون (2) وأبهى الشجر للتعقل -للوصول الى الحكمة- (3) . فأخذت من ثمرها واكلت واعطت رجلها ايضا معها فأكل.”
وهي نفس الثلاث أمور التي واجهها المسيح في التجربة وهو داخل البرية القاحطة.
لوقا 4: 3 “وقال له ابليس ان كنت ابن الله فقل لهذا الحجر ان يصير خبزا. (1).
لوقا 4: 6 “ثم اصعده ابليس الى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان.وقال له ابليس لك اعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ لانه اليّ قد دفع وانا اعطيه لمن اريد.” (2)
لوقا 4: 9-10 “ثم جاء به الى اورشليم واقامه على جناح الهيكل وقال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا الى اسفل. لانه مكتوب انه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك.” (3)
ولا عجب في إنتصار المسيح لإنه قد جاء خصيصا لكي يُجرب عنا ولكي ينتصر لنا بعدما سقطنا. وبإنتصار المسيح نلنا نحن القدرة أيضا على غلبة الشيطان. (يعقوب 4: 7) “فاخضعوا للّه. قاوموا ابليس فيهرب منكم.”
تلك الثلاث تجارب التي أستخدمتها الحية مع آدم وحواء وأيضا مع المسيح هي نفس التجارب التي تعثر بها الحية كل البشرية ،هذا ما أعلنه يوحنا الحبيب بالوحي
(1يو 2: 16) [لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ (كبرياء الحياة) ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ.]
ومن يريد أن ينتصر فعليه أن يأخذ المسيح المُنتصر في التجربة كحامي ودرع.
❷ ترتيب متى الإنجيلي.
متى كما نعلم كتب إنجيله لليهود ، وبسهولة نستطيع أن نرى من خلال انجيله انه كان على اضطلاع كبير بالنبوات وأقوال الأنبياء وعن صورة المسيح المخفية في نصوص العهد القديم فهو أكثر الإنجيليين إقتباسا من العهد القديم.
متى الإنجيلي أخبرنا بقصة التجربة بترتيبها الزمني وبعناية لإنه يُقابل تجربة أُخرى معلومة في التقليد اليهودي الشفوي وهي تجربة الشيطان لإبراهيم واسحاق اثناء رحلتهما في جبل الموريا. بحسب التقليد اليهودي القديم ، ظهر الشيطان لإبراهيم وإسحاق اثناء رحلتهما وجربهما ثلاث مرات ليمنع الأب (ابراهيم) من تقديم إبنه (اسحاق) ذبيحة كما أمر الله ابراهيم.
◆تجربة المسيح وتجربة اسحاق
التجربة الأولى كانت لإبراهيم حيث ظهر له الشيطان على هيئة رجل مسن وشككه في كلمات الله.
التجربة الثانية كانت لإسحاق حيث ظهر له الشيطان على هيئة رجل صغير وشككه في عقلانية أبيه.
التجربة الثالثة والأخيرة فكانت تجربة بصرية لكليهما حيث أظهر الشيطان غدير ماء كبير أمامهما ليعرقلهما فيجعلهما يعودا أدراجهما ، ولكن إبراهيم كان يعرف المكان إنه خاليا من الماء ، فإنتهر الشيطان ، أما الغريب ليس في هذا وإنما في ما قاله اسحاق.
قال اسحاق : “لينتهرك الرب ، إذهب عنا يا شيطان -סור ממנו השטן- لأننا نذهب بأمر الله”
وردت تلك القصة في كتاب ” مدراش رباه للتكوين ، مدراش تنخوما ، أساطير اليهود “
هناك تشابهات كبيرة بين ما ورد هنا في التقليد اليهودي مع ما ورد مع المسيح في الانجيل
1- ثلاث تجارب
2- آخر تجربة كانت بصرية (غدير الماء) لإرجاع اسحاق عن طريق الموت (الأمر الإلهي)، وكذلك مع المسيح كانت آخر تجربة عرضها متى هي بصرية (رؤية ممالك الأرض) وكانت تهدف لإرجاع المسيح عن طريق الموت.
3- رد اسحاق في آخر تجربة كان “إذهب عنّا يا شيطان- סור ממנו השטן” وكذلك كان رد المسيح في آخر تجربة “إذهب عني يا شيطان- סור ממני השטן”
4- انتصر اسحاق في تلك التجربة ومضى طاعةً لأبيه ابراهيم نحو الذبح ، وكذلك انتصر المسيح في تلك التجربة ومضى طاعةً للآب نحو الذبح.
ركز متى هنا على المسيح كونه اسحاق الثاني او اسحاق الحقيقي ، الذي انتصر ومضى نحو الذبح وهو مطيع كما قال الرسول
(فيلبي 2: 8) “واذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب.”
الخلاصة:
راعى القديس لوقا الترتيب المكاني للثلاث تجارب ، وبهذا فإن الوحي يشير الى أن المسيح هو آدم الثاني أو آدم الحقيقي المُنتصر ، لإنه بينما سقط آدم في الجنة ، فإن المسيح قام في البرية وأنتصر له ولنا.
راعى القديس متى الترتيب الزمني للثلاث تجارب، وهو بهذا يشير لتجربة أخرى معروفة وهي تجربة اسحاق وابراهيم عند ذهابهما للمذبح ، هنا اشارة أن المسيح هو اسحاق الثاني او اسحاق الحقيقي ، لإنه ان كان اسحاق انتصر في التجربة وقُدِم الى المذبح ، فإن المسيح انتصر في التجربة وقُدِم للمذبح ومات اخيرا على المذبح فداءا لكل من يقبل الخلاص.