فاطمة ناعوت تكتب ..صفر “مريم” النبيل
اندهش الناسُ من «الصفر» الصادم الذى هزّ أركان المجتمع المصرى وجعل الجميع يتساءلون: «صفر؟! مجرد صفر؟! كيف؟! ألم يكتب التلميذُ أو التلميذة، صاحبُ أو صاحبةُ ورقة الإجابة التى نُسبت زورًا للطالبة «مريم ملاك»، شيئًا على الإطلاق؟! ألم يُجِبْ عن أى سؤال فى أية مادة من مواد الثانوية العامة؟!».
ذكّرنا هذا الصفرُ بالعمّ السمّاك/ جمال إسماعيل، فى مسرحية «السكرتير الفنّى»، الذى استشاطَ غضبًا حين حصل ابنُه «البليد» على صفر فى اللغة العربية. فراح يوبّخ المدرسَ «ياقوت أفندى»/ فؤاد المهندس، صارخًا فى وجهه: «سفر واحد؟» (يقصد صفر) طب خليهم سفرين! خليهم تلاتة! أنا بادفع تلاتين صاغ فى المخروبة دى (يقصد المدرسة)؛ وبابيع وقّة السمك باحط عليهم أربع بيسريات! تحطوش انتو على التلاتين صاغ أربع أصفار؟!».
لكننى كنتُ أسعدَ الناس بهذا الصفر الصفيق/ النبيل. نعم، هو صفيقٌ فى ترويعه لنا، لكنه نبيلٌ أيضًا لأنه أشهر أمام وجوهنا قبحَ واقعنا الإدراى البشع، وكذلك هو الصفرُ النبيل الذى سيعيد للطالبة المسكينة حقَّها بإذن الله.
لأن مريم المغدورة لو كان قُدّر لورقتها المزورة أن تحصل، مثلا، على عشرين بالمائة، أو حتى سبعين بالمائة، لضاع حقُّها للأبد. كان الرأى العام وقتها سينظر إليها باعتبارها طالبة «بليدة»، أو عادية، لم يعجبها مجموعُها، فادّعت أن ورقتها سُرقت.
لكن السماء الحانية، التى تعرف أسرارنا، أرادت بهذا الصفر «النبيل» أن تكشف عوار منظومة فاشلة من الصعب أن نثق في نزاهتها بعد الآن. لا شكَّ أننا جميعًا بِتنا الآن نشكُّ فى كل الدرجات التى حصلنا عليها طوال سنوات دراستنا.
فالخللُ هو الخللُ، منذ عقود طوال، لأننا بعدُ لم نقم بثورة أخلاقية أو إدارية، لشدّ ما نحتاجُ إليهما أكثر كثيرًا من الثورتين السياسيتين اللتين أطاحتا برئيسين أحدهما أخفق فى مادة «حب الشعب»، ونال صفرًا فى الإدارة، والآخر عميلٌ جاسوسٌ أخفق فى كل المواد، ونال صفرًا كبيرًا فى الوطنية والشرف.
جرحتنى دموعُ تلك الصَّبيّة الجميلة وهى تبكى جهدَها المُهدَر وتنعى تفوقها. وخزت قلبى إبرةُ الكانيولا المربوطة بضمادة لاصقة على ظهر كفّها بعد تعرضها للهبوط الحاد إثر سماعها عن الصفر الذى كلّل سنواتِ دراستها ويكاد يحطّم مستقبلها ويحولُ بينها وبين كلية الطب التى حلمت بها منذ طفولتها.
ذبحتنى عياناها اللتان يشعُّ منهما بريقُ الذكاء الذى تحوّل فى لحظةٍ إلى نظرات ذهول وفزع وهى لا تدرى مَن سرق جهدها، ومَن بوسعه أن يُعيد لها حقَّها! صدّع قلبى شعورُها بالخزى بعدما خذلت أمَّها الصابرة التى انتظرت لحظة نجاح صغيرتها، وكسرت حُلمَ شقيقها الطبيب مينا الذى انتظر أن تشاركه شقيقته الصغرى دراسة الطبّ، ليُفرحا معًا قلبَ أبيهما فى السماء، بعدما رحل وهو مطمئنٌّ على نبوغ أطفاله.
كلى ثقة فى أن تحريات النيابة المحترمة سوف تُسفِر عن إثبات تزوير أوراق الإجابة الخاصة بالطالبة مريم ملاك. ثقتى فى مقدرتى على تحديد مستوى ذكاء المرء وتفوقه من درجة لمعان عينيه.
بريق العيون خصيمُ البلداء وصنوُ النجباء. هذه البنتُ تستحق أن يُبذَل الجهدُ حتى يُنقَذ مستقبلُها المهدَد، وأن يُعاد اعتبارُها بعد أيام الويل التى عاشتها، هى ومن عاش محنتها. مثلما نستحقُ جميعًا أن نعرف المجرمين الذين شاركوا فى هذه الجريمة المخجلة، وكذلك تحديد شخصية الطالب أو الطالبة الذى بدأ حياة اللصوصية مبكرًا.
ابحثوا عن أوراق إجابات مريم بين الأوراق المتفوقة فى محافظتها. من اليسير أن تتعرف البنتُ على خط يدها بنظرة سريعة، وبعد ذلك يتدخل خبراءُ الخطوط لإثبات الأمر. وبعدما تستقرُّ مريم على مقعد الدراسة فى كلية الطب، من فضلكم يا صانع القرار المصرى، أصلحْ منظومةَ التعليم الخربة، أصلحَ اللهُ أمرَك.