أسئلة صعبة عن الله | نورمان جايزلر Norman Geisler
أسئلة صعبة عن الله | نورمان جايزلر Norman Geisler
ابنتي روث، وهي زوجة راعٍ، قالت لابنها البكر صموئيل، الذي كان يبلغ الأربع سنوات من العمر آنذاك، “اذهب واسأل جدك.” بعد لحظة، وُجِهَ إليَ السؤال الصعب التالي: “جدي، أين يكمن العقل داخل الدماغ؟” قد يسهل شرح الإجابة عن مثل هذا السؤال لطالب أو باحث في الفلسفة على مستوى جامعة أو كلية لاهوت، الضليع بمفهوم الخطأ الفئوي. ولكن كيف عساك أن تشرح ذلك لطفل في الرابعة من العمر؟
إن الأهل والقادة في الكنيسة، الذين يتعاملون مع الأطفال، يعلمون جيداً أن الأسئلة الأكثر صعوبة تصدر عادةً عن أصغر الأعضاء سناً في الكنيسة. وغالباً ما تكون هذه الأسئلة عن الله. مثل: “أبي، من صنع الله؟” لقد سمع العديد من الأهل هذا السؤال من قبل، ولكن قلة منهم فقط الذين يستطيعون الإجابة عنه.
يجب أن نكون مستعدين لتقديم إجابة (1بطرس 15:3) عن كل سؤال يُطرح علينا بصدق (كولوسي 6:4). فيما يلي بعض من أصعب الأسئلة التي طُرحت عليَ على مر السنوات الخمسين من خدمتي. سوف أحاول جاهداً الإجابة عنها، بحيث تكون إجاباتي مفهومة حتى لدى الصغار في السن.
† مَن صنع الله؟
مَن صنع الله؟ لا أحد. فهو لم يُصنع. لقد كان دائماً موجوداً. إن الأشياء التي لها بداية، مثل الكون، هي وحدها تحتاج إلى صانع. لم يكن لله بداية، إذاً، لم يكن بحاجة إلى مَن يصنعه.
ولِمن هم أكبر قليلاً في السن، يُمكن إضافة المزيد في هذا. تقليدياً، يعتقد معظم الملحدين الذين يرفضون حقيقة وجود الله أن الكون لم يُصنع، لكنه كان موجود “هناك” منذ الأزل. إنهم يدعمون حجَّتهم هذه بالرجوع إلى القانون الأول للديناميكا الحرارية: يصرّون على أن “الطاقة لا يمكن صناعتها ولا تدميرها.” وللردّ على هذا، يجب ملاحظة أموي عدة.
أولاً، إن هذه الطريقة في صياغة القانون الأوّل ليست علمية، بل هي بالأحرى توكيد فلسفيّ. العلم يرتكز على الملاحظة. لكن، لا يتوافر لدينا إيّ دليل مبني على الملاحظة العلمية من شأنه دعم فكرة ما “يمكن” أو “لا يمكن” حصوله، والمذكورة ضمناً في هذا التصريح. كان يجب صياغة هذا القانون على النحو التالي: “(بقدر ملاحظاتنا له)، إنّ كمية الطاقة الفعلية داخل الكون تبقى ثابتة”، بمعنى ألا أحد لاحظ عملية دخول أية طاقة جديدة إلى الوجود أو انعدامها منه.
وعندما يُفهم القانون الأول بشكل صحيح وعلى حقيقته، نجد أنّ لا علاقة له البتة بأزلية وجود الكون وبأن لا بداية له. وبالنسبة إلى القانون الأول، يُمكن للطاقة أن تكون قد خُلقت أو لم تُخلق. إذاً، هذا القانون بكل بساطة، يجزم بأنه إن كانت الطاقة قد خُلِقت، فإنّ كميّة هذه الطاقة المخلوقة، على حدّ علمنا، قد بقيت ثابتة منذ خلقها.
بالإضافة إلى ذلك، لنفترض على سبيل الجدال أنّ الطاقة، أي الطاقة الكونية كلّها في الذي نطلق عليه اسم الكوزموس، لم يُخلث، كما كان يعتقد العديد من الملحدين تقليدياً على مرّ العصور. إن كان الأمر كذلك، فلا معنى من أن نسأل مَن صنع الكون. وإن كانت الطاقة أزلية وغير مخلوقة، فبكل تأكيد لم يخلقها أحد. وإن كانت الطاقة أزلية وغير مخلوقة، فبكلّ تأكيد لم يخلقها أحد. غير أنه إن كان لا معنى من طرح السؤال “مَن صنع الكون؟” لأنه أزلي الوجود، فإنه لا معنى أيضاً من أن نسأل “مَن صنع الله؟” بما أنه هو أيضاً موجود منذ الأزل.
إن كان الكون غير أزلي، فهو في حاجة إلى مُسبّب. من جهة أخرى، إن لم يكن له بداية، فلا يكون في حاجة إلى مسبب لبدايته. كذلك الأمر، إن كان الله الذي لا بداية له موجوداً، فلا يُعقل أن نسأل: “مَن صنع غير المصنوع؟” أو “مَن خلق غير المخلوق؟” كمن يسأل: “أين زوجة العازب؟”
† لماذا لا يمكن للكون أن يكون أزلي الوجود؟
يؤمن المسيحيون بشكل طبيعي بلزوم وجود الله، لأنّ للكون بداية، وكلّ ما كان له بداية، لابدّ أن يكون له باظئ. ولكن السؤال الذي يصعب الإجابة عنه هو: كيف نعلم أنّ للكون بداية. لربما، كان الكون أزليّ الوجود.
يطرح الملحد الشهير بيرتراند راسل Bertrand Russell المعضلة التالية: إمَّا أن يكون للكون بداية، وإما ليس له بداية. إن لم يكن للكون بداية، فلا يعود في حاجة إلى مُسبّب (الله). وإن كان له بداية، فيمكننا أن نسأل: “مَن تسبّب بوجود الله؟” ولكن إن كان لله مسبّب، فهو ليس الله. وفي كلتا الحالتين، لا نتوصَّل إلى مُسبّب أول لا مُسبّب له (الله).
الردّ على هذا السؤال الصعب، هو، أنه هو أيضاً، يطرح سؤالاً لا معنى له: “مَن صنع الله؟” بطريقة أخرى، هذا السؤال يفترض خطأ أنّ “كل شيء ينبغي أن يكون له مُسبّب.” بينما الادعاء هو “كل ما له بداية، يجب أن يكون له مُسبّب.” هذا الأمر مختلف تماماً. بالطبع، كلّ ما له بداية، يجب أن يكون له مُسبّب.” هذا الأمر مختلف تماماً. بالطبع، كل ما له بداية كان هناك من أبدأه، اللا شيء لا يستطيع أن يصنع شيئاً. وكما غنَّت جولي آندروز Julie Andrews مرّة: “لا شيء أتى من لا شيء، فهذا الأمر مستحيل حدوثه.” إذاً، الله ليس في حاجة إلى مُسبّب، وذلك لأنّ ليس له بداية.
بناءً على ما سبق، يبقى علينا فقط أنّ نبين أنّه كان للكون بداية، لنُظهر بالتالي ضرورة وجود مسبّب له (أي الله). سوف أقدّم حجّتين قويّتين كبرهان على أنّه كان للكون بداية. إحداهما مستقاه من العِلم، وتتعلَّق بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية – والثانية من الفلسفة، وترتكز بالتحديد، على استحالة وجود عدد لامتناهٍ من اللحظات.
وفقاً للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، إن الكون ينفد من الطاقة الصالحة للاستعمال.[1] لكنّ إن كان الكون ينقص، فهذا يعني أنه لا يمكنه أن يكون أزلياً. وإلا لكان قد فرغ من الطاقة كلياً لحدّ الآن. ففي حين لا يمكن أن تنفد كمية لا متناهية من الطاقة، يبقى أن نفاد كمية محدودة من الطاقة، لا يحتاج إلى أبدية. لذلك، لابدّ للكون أن يكون له بداية. لتوضيح هذا الأمر، في كل سيارة كمية محدودة من الطاقة (البنزين).
من هنا ضرورة إعادة تزويدها بالقود من فترة إلى أخرى، ربما أكثر مما نرغب. لو كان لدينا خزان وقود غير محدود (لا متناهي)، لا نعود نُضطر إلى التوقف مجدداً للتزوّد بالوقود. إنّ حقيقة وجوب إعادة تعبئة بمثال آخر، فالساعة القديمة التي ينحلّ نابضها تدريجياً وتصبح في حاجة إلى إعادة تعبئة من طريق التدوير، لم يكن لينحلّ نابضها لو لم يكن قد جرى تعبئته في البداية. وباختصار، الكون، كان له بداية. وكلّ ما له بداية ينبغي أن يكون له بادئ، بناء على ذلك، لابدّ للكون أن يكون له مُسبّب (الله).
لقد ظنّ بعضهم أنّ الكون يملك القدرة على تعبئة أو إنهاض ذاته بذاته. ولكنّ الفكرة هذه، ما هي إلا مجرّد ظنون من دون أية دلائل. لا بل هي في الحقيقة تناقض القانون الثاني للديناميكا الحرارية. لأنه وإن كان الكون يشهد ارتداداً، كالكرة المرتدة في الاتجاه المعاكس، فإنّ ارتداده هذا سوف يتلاشى تدريجياً.
لا يوجد ببساطة أيّ دليل مبني على الملاحظة العلمية للتأكيد على أنّ الكون قادر على تعبئة ذاته بذاته. وحتى علماء الفلك اللاأدريون أنفسهم أمثال روبرت جاسترو Robert Jastrow، صرّحوا بالقول: “عندما يكون غاز الهايدروجين قد احترق داخل تلك النجمة وتحّول إلى عناصر أثقل، لا يعود بالإمكان إعادته أبداً إلى حالته الأصلية الأولى.” هذا يعني، “مع مرور الدقائق والسنين، وبينما تستهلك النجوم غاز الهايدروجون، يبدأ مخزون هذا العنصر يقل تدريجياً[2]
إن كانت الكمية الإجمالية للطاقة الفعلية في الكون تبقى على حالها، بينما الكون ينفد من الطاقة القابلة للاستخدام، فإنّ الكون في هذه الحال، لم يسبق له أن امتلك طاقة غير محدودة، ذلك لأنّ الطاقة اللامتناهية لا يمكنها أن تنفد أبداً. هذا يعني أنّ الكون لم يكن بإمكانه أن يوجد منذ الأزل، ولابدَّ أن كانت له بداية. أو، بعبارة أخرى، وفقاً للقانون الثاني، بما أنّ الكون بات يتخبّط أكثر فأكثر في حالة من الفوضى قد دبّت فيه بالكامل لحدّ الآن، الأمر الذي لا يصحّ على عالمنا الحاضر. لذلك، لابدّ أنه كان لعالمنا بداية في غاية الترتيب والنظام.
الحجَّة الثانية على أنَّ للكون بداية، وبالتالي بادئاً، تأتي من الفلسفة. وهي أنّه لا يمكن أن يكون هناك عدد لا متناهي من اللحظات قبل اليوم، وإلا لما كان اليوم موجوداً (لكنه موجود). هذا لأنّ اللانهائي، بحسب تعريفه، لا يمكن تجاوزه، فإنه لا نهاية له (أو بداية). لكن، بما أنّ اللحظات التي سبقت اليوم قد تمّ تجاوزها، إذ قد وصلنا إلى اليوم، فهذا يعني أنه كان لابدّ من وجود عدد محدّد (محدود) من اللحظات قبل اليوم. أي، كان للوقت بداية. ولكن، إن كان للكون المبني على بُعدي الكمان والزمان بداية، فلابدّ في هذه الحال أن يكون هناك علّة ما تسبّبت بوجوده. إن هذه العلة وراء كلّ ما هو موجود، تُدعى الله. إذاً، الله موجود.
حتى إن المشكّك العظيم دايفد هيوم David Hume نفسه، قد تبنَّى هاتين الفرضيتَّين في إطار هذه الحجة الداعمة لوجود الله. وفوق كلّ ذلك، هيوم نفسه لم يُنكر قط وجود علّة وراء وجود الأشياء. وقد كتب، في هذا السياق: “لم أجزم قط تسليمي بفرضية منافية للعقل كتلك التي تدَّعي بأنّ بإمكان أيّ شيء أن يوجد بمعزل عن مُسبّب.”[3] كذلك صرّح بأنّ تصديق وجود عدد لامتناه من اللحظات هو أمر مناف للعقل: “العالم الزمني له بداية.
ممّا يعني أنّ وجود عدد لامتناه من أجزاء الوقت الفعلية التي تتعاقب وتتوالى وتُستنفد الواحدة تِلو الأخرى، أمرٌ ينطوي على تناقض صارخ، بحيث إنَّ ما من إنسان لم تعبث العلوم في ذهنه لإفساده بدلاً من تطويره، يستطيع التسليم بذلك.”[4] إذاً، إن كانت كلتا هاتين الفرضيتَّين صحيحتين، فيلزم في هذه الحال وجود خالق للعالم المبني على بُعدي الكمان والزمان، والذي ندعوه كوزموس (cosmos). وبكلمة أخرى، الله موجود.
† كيف يمكن لله أن يصنع شيئاً من العدم؟
إن كان الله موجوداً ولم يكن أي شيء غيره موجود قبل خلق العالم، فإنّ الكون في هذه الحال يكون قد ظهر على حيّز الوجود مِن العدم. لكن، أليس منافياً للعقل القول إنّ سيئاً معيّناً، باستطاعته أن ينشأ من العدم؟ إن القول بأن العدم قد تسبّب بوجود شيء ما أمرٌ مناف للعقل، ذلك لأنّ العدم لا وجود له، وليس لديه القدرة على فعل أيّ شيء. لكن القول بأن أحداً (أي الله) قد أوجد الكون مما هو غير موجود ليس قولاً منافياً للعقل. لا يستطيع العدم أن يصنع شيئاً، إنما شخص ما (أي الله) بمقدوره أن يصنع شيئاً من العدم.
في الواقع، إن كان للكون بداية (كما أوضحنا قبلاً)، فهذا يعني أن الكون لم يكن موجوداً في وقت من الأوقات، ثم وُجد هذا الكون، بعد أن خلقه الله. هذا هو المقصود من عملية الخلق “من العدم” (إكس نيهيلو ex nihilo باللاتينية). هذا لا يعني أن الله أخذ “حفنة من العدم” لكي يصنع منها شيئاً، وكأنّ العدم هو الذي كان قد اعتمده الله في صنعه للعالم. كان هناك الله، وببساطة لم يكن معه أيّ شيء آخر لم يكن له أيّ وجود قبلاً.
وبكلام آخر، فإنّ الخلق “من العدم”، يعني ببساطة أنّ الله لم يخلق انطلاقاً من أيّ شيء آخر كان موجوداً معه، كما يحصل في بعض أشكال مذهب الثنائية الذي يسلّمْ بوجود كينونة من جوهرين أزليين. يشكّل هذا بالفعل عملية ex materia، أي خلق انطلاقاً من مادة موجودة قبلاً خارج الله. يُطلق على هذا الخلق اسم (إكس ماتيريا). وقد تبنّى الفيلسوف اليوناني أفلاطون هذه النظرية.
كذلك، لم يخلق الله العالم انطلاقا من ذاته (أي ex Deo). أي إنّ الله لم يأخذ جزءاً من ذاته لكي يصنع منه الكون. في الواقع، الله، وبحسب الإيمان المسيحي القويم، ليس له أجزاء. إنه كيان متكامل وواحد في المطلق.
لذا، لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن يكون الله قد أخذ جزءاً من ذاته ليصنع منه العالم. فالله لامتناه، فيما العالم محدود وله نهاية. ما من كمية من أجزاء لها نهاية، باستطاعتها صنع ما هو لامتناه، لأنه مهما كان عدد القطع أو الأجزاء التي هي في حوزة أحد الأفراد، يبقى بالإمكان دائماً زيادة قطعة إضافية إليها. بالمقابل، لا يمكن إضافة أي شيء على اللامتناهي. والأجزاء مهما بلغ عددها، لا يمكنها أبداً أن تساوي اللامتناهي. لذا، من غير الممكن أن يكون الله قد خلق العالم من جزء من ذاته (أي ex materia).
العالم ناتج عن الله، لكنه ليس من الله. فهو علّة وجوده، ولكنه ليس جوهره. جاء إلى حيّز الوجود بواسطته، لكنه ليس مصنوعاً منه. لكن، إن كان العالم لم يُخلق من الله (ex Deo) ولا من شيء آخر (ex materia) كان موجوداً مع الله، فمن الضروري إذاً أن يكون قد خُلق من العدم (ex nihilo). ولا بديل عن ذلك. لقد صنع الله شيئاً لم يكن له أي وجود قبل أن صنعه، لا في ذاته ولا في أي شيء آخر.
المكان الوحيد “لوجود” العالم قبل أن صنعه الله، كان فكرة في ذهن الله. وكما هو حال الرسّام الذي تتولّد في ذهنه فكرة عن لوحته قبل أن يرسمها، هكذا كان عند الله فكرة عن العالم أن يصنعه. بهذا المعنى، كان للعالم وجود سابق في ذهن الله كفكرة، قبل أن كوّنه وجعله يظهر إلى حيّز الوجود.
† الله، ماذا كان يصنع قبل خلقه العالم؟
ثمة سؤال آخر عاصٍ غالباً ما يُطرح عن الله ومفاده: كيف كان الله يملاً وقته قبل تتميمه عمل الخلق؟ كان لأوغسطينوس Augustine، المعلّم المسيحي الشهير من القرن الخامس الميلادي، إجابتين عن هذا السؤال، إحداهما فكاهية والأخرى جدّية.
الإجابة الأولى هي أنّ الله كان يقضي وقته في إعداد جهنّم وتجهيزها للأناس الذين يطرحون أسئلة كهذه! أمّا الإجابة الجدّية فهي أنّ الله لم يكن لديه أيّ وقت، ذلك لأن الزمن لم يكن موجوداً قبل أن يُخلق الزمن. كان الزمن قد بدأ مع الخلق. وقبل الخلق، لم يكن هناك أيّ وجود للزمن. إذاً، لم يكن هناك زمن لدى الله. فالعالم لم يبدً بخلق في الزمن، بل بالحري بخلقٍ للزمن، ماذا كان هناك؟ والجواب عن هذا هو الأزل. الله أزلي، والشيء الوحيد الذي كان موجوداً قبل الزمن، هو الأزل نفسه.
إضافة إلى ذلك، يفترض السؤال ضمناً أنّ كائناّ أزلياً كاملاً مثل الله، قد يسأم ويضجر. غير أنّ ظاهرة الضجر هي علامة عدم الكمال وعدم الرضى، لكن الله ينعم بحالة من الرضى الكامل. لذا، ما كان بإمكان الله أن يُصاب بالملل، حتى ولو كان عنده فترات زمنية طويلة. إنّ العقل المبدع والخلاَّق بشكل لامتناه، يبقى باستطاعته باستمرار إيجاد أمور مشوّقة. لذا يتملّكها الضجر والملل.
أخيراً الله في المسيحية، له ثلاثة أقانيم ينعمون في حالة من الشّركة الكاملة. ولا يمكن لكائن كهذا أن يعاني الضجر أو الوحدة. فإنه لا يوجد دائماً وباستمرار شخص من أجل “التكلم معه” فحسب، بل هناك أيضاً شخص كامل في تفهّمه، كما في محبَّته ورفقته. لذا، فالضجر يبقى محالاً على كائن كهذا.
† كيف يمكن لثلاثة أن يكونوا ثلاثة أقانيم ضمن الله الواحد؟
كيف كان الله قادراً أن يكون ثلاثة وفي الوقت عينه واحداً؟ ألا ينطوي هذا على تناقض؟ قد يبدو أن بإمكان الله أن يكون واحداً وليس ثلاثة، أو ثلاثة وليس واحداً. لكنه، لا يستطيع أن يكون ثلاثة وواحداً في آن. ففي هذا انتهاك لقانون اللاتناقض، وهو أكثر القوانين أعهميّة على الإطلاق بين قوانين الفكر.
أولاً، الاعتقاد المسيحي بثالوث من ثلاثة أقانيم ضمن الله الواحد، ليس تناقضاً. فالتناقض يحصل فقط عندما نصف أمراً ما بأنه –أ-وبأنه ليس –أ-في الوقت عينه وبالمعنى عينه. الله هو ثلاثة وواحد في الوقت عينه، لكن ليس بالمعنى عينه. هو ثلاثة أقانيم، لكنه واحد في الجوهر. هو ثلاثة أقانيم، ولكنه واحد فقط في الطبيعة.
القول إن الله ثلاثة طبيعات في طبيعة واحدة، أو هو ثلاثة أقانيم ضمن أقنوم واحد، هو قول ينطوي على تناقض. لكن، لا يوجد أيّ تناقض في الادّعاء بأنّ الله ثلاثة أقانيم في طبيعة واحدة. الله أشبه بالمثلّث. فالمثلّث له ثلاث زوايا، لكنه يشكّل في الوقت عينه مثلّثاً واحداً. كلّ زاوية بحدّ ذاتها ليست المثلّث بأكمله. أو قد ننظر إلى الله على أنه أشبه بالرقم واحد مكعب (13). 1 ×1 ×1 = 1. الله ليس 1 + 1+ 1 = 3، فهذا إقرار بوجود ثلاثة آلهة أو بتعدّد الآلهة. الله هو إله واحد، وقد تجلّى منذ الأزل وفي الوقت عينه من خلال ثلاثة أقانيم متميّزة.
الله محبة (1يوحنا 16:4). لكنّ وجود المحبة، يفترض وجود مُحبّ (الآب)، والمحبوب (الابن)، وروح المحبة (الروح القدس). إذاً، المحبة نفسها هي وحدانية مثلّثة.
ثمة إيضاح آخر للثالوث، وهو أنّ الله أشبه بعقلي وأفكاري وكلماتي. هناك وحدة تجمع بينها، ومع هذا هي متميّزة بعضها عن بعض.
بالطبع، يبقى الثالوث لغزاً. إنه يتخطى المنطق من دون أن يعمل ضدّ المنطق. بإمكاننا أن ندركه، لكن لا يسعنا فهمه بالتمام. وكما عبّر أحدهم عن هذا بحكمة: “قد نخسر عقولنا إن حاولنا فهمَ الله بالتمام، لكننا سنخسر أرواحنا إن كنّا لا نؤمن بإخلاص بالثالوث.”
† كيف يمكن لإله صالح أن يُرسل أناساً إلى جهنم؟
يفترض هذا السؤال أنّ الله يرسل الناس إلى جهنم ضدّ إرادتهم. ولكن هذا ليس صحيحاً. الله يريد أن الجميع يخلصون (انظر 2بطرس 9:3). لذا، فإن غير المخلّصين هم الذين لا يريدون أن يخلصوا. قال يسوع، “يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (متى 37:23).
وكما عبّر عن ذلك سي.إس.لويس C.S.Lewis، “إن باب جهنم مقفل على الذين همَ في داخلها.” كل الذين يذهبون إلى هناك، يقصدونه باختيارهم الشخصي. ثم يضيف لويس: “هناك نوعان فقط من البشر في نهاية المطاف: أولئك الذين يقولون الله:’ لتكن مشيئتك‘، وأولئك الذين يخاطبهم الله بالقول:’ لتكن مشيئتكم أنتم‘. كل الذين في جهنم، هم هناك باختيارهم. لقد آمن لويس أنّ “وجود جهنم لم يكن ممكناً لولا وجود حرية الاختيار الشخصي هذا. فما من روح جادة ومثابرة في بحثها عن السعادة إلاَّ وستحظى بها. فكلّ من يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له.”
أضف إلى ذلك، إنّ السماء ستكون بمثابة الجحيم للناس غير الملائمين لها. ذلك لأنّ السماء هي مكان العبادة والتسبيح المستمرّين لله (رؤيا 4-5). أما بالنسبة إلى غير المؤمنين الذين لا يستمتعون بساعة عبادة واحدة في الاسبوع هنا على الأرض، فسيكون أشبه بالجحيم إجبارهم على فعل ذلك إلى الأبد في السماء! لنصغي مرة أخرى إلى ما يقوله لويس: “أنا على استعداد لدفع أيّ ثمن لكي أستطيع أن أقول بصدق’ الجميع سوف يخلصون‘. ولكنّ منطقي يردّ بحسب:’ أسيخلصون بإرادتهم، أم بالإكراه؟ ‘إن أجبت’ من دون إرادتهم‘، أرى للحال تناقضاً في هذا، إذ كيف يمكن لقرار طوعي بتسليم المرء نفسه، أن يُكره عليه؟ وإذا قلت’ بإرادتهم‘، يجيب منطقي:’ كيف يحصل ذلك إن رفضوا هم تسليم ذواتهم؟ ‘”6
الله عادلٌ ويجب أن يُعاقِب على الخطيّة (حبقوق 13:1؛ رؤيا 20: 11-15)، ولكنه في الوقت نفسه محبة (1يوحنا 16:4)، ومحبته لا يمكنها أن تُرغم الآخرين على محبته. المحبة لا يمكنها أن تعمل بأسلوب قسري، بل فقط بأسلوب مقنع. المحبة القسرية تنطوي على تناقض في المضمون. لذلك، محبة الله تقتضي وجود جهنم حيث يختبر الذين لا يرغبون في محبة الله مرارة الانفصال التام عنه عندما يقول لهم: “لتكن مشيئتكم!”
† كيف يمكن لله أن يكون محباً وعادلاً في آن؟
قد يبدو لنا أنّ المحبة والعدالة صفتان متضاربتان. إذا كان الله عادلاً، فمن الضروري أن يعاقب على الخطيّة. ولكن إن كان محباً، فهو يغفر الخطيّة. فكيف عساه الجمع ما بين الاثنين معاً؟
هاتان الضفتان (الميزتان) لله غير متناقضتين. فهو في الوقت عينه عادل في المطلق ومحبٌ بطريقة غير مشروطة. كلّ صفة من هاتين الاثنين تُكمِل الأخرى. الله هو “قدوس بعدل” و”عادل بقداسة”، أي أنه يمارس عدالته بمحبة، ويوزّع محبته بشكل عادل.
إن أفضل مثال على تلاثم محبة الله وعدالته هو في الصليب. الله، وبدافع محبته، أرسل ابنه ليدفع عقاب خطايانا فيرضي عدالته ويطلق العنان لمحبته. لأنّ “أجرة الخطية هي الموت” (رومية 23:6). والخطية الموجّهة ضد الله الأزلي، تتطلّب موتاً أبدياً (رؤيا يوحنا20: 14 و15). لذلك عندما مات المسيح عن خطايانا (رومية 8:5)، تألَّم العادل بدلاً من الفاجر (ابطرس 18:3) لكي يقرّبنا إلى الله. “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه” (2كورنثوس 21:5).
إنّ عدالة الله تستدعي ضرورة معاقبة الخطيّة، ولكنّ محبته تُضطره إلى تخليص الخطية. لذا، بفضل موت المسيح على الصليب من أجلنا أرضى الله عدله وأطلق العنان لمحبته. لذلك، ما من تناقض بين العدالة المطلقة والمحبة غير المشروطة. ولتوضيح هذا، الله هو أشبه بالقاضي الذي، بعد أن أصدر الحكم بحق المتهم المذنب، طرح رداء القضاة جانباً، ثم وقف بجانب المتهم، ودفع الغرامة بدلاً عنه. يسوع المسيح صنع الشيء نفسه معنا على الجلجثة. حقاً، المحبة والعدالة تلاثما على الصليب.
الخلاصة
حتى الأطفال الصغار أمثال حفيدي، يمكنهم أن يطرحوا أسئلة صعبة، ولكن هناك إجابات جيدة عن كلّ هذه الأسئلة المتعلّقة بالله. والكتاب المقدَّس يحضّنا على إيجاد هذه الإجابات ومن ثَمّ تقديمها للآخرين. قال بولس الرسول: “ليكن كلامكم كلّ حين بنعمة مصلحّا بملح لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل واحد” (كولوسي 6:4).
وبالمناسبة، لقد تخرّج حفيدي لتوّه من الجامعة وهو يستعدّ لبدء دراسته في الدفاعيات (الدفاع عن الإيمان). عن قريب، سوف يُصبح قادراً على الإجابة عن مثل هذا النوع من الأسئلة، التي هو نفسه كان يطرحها. قد يسأل أحدنا عمّا كانت ستؤول إليه حياته اليوم، لو لم يجبه أحد عن أسئلته.
أسئلة للتأمل والمناقشة
- 1. اقرأ 1بطرس 15:3 وكولوسي 6:4. بما أنّ هذه الآيات موجّهة إلى جميع المؤمنين، كيف يمكننا تطبيقها عملياً؟
- متى يجب عدم الإجابة عن الأسئلة الصادرة عن غير المؤمنين؟ في معرض إجابتك، خذ بعين الاعتبار أمثال 4:26 ومتى 6:7.
- لماذا من الأهمية بمكان الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بالله؟ كيف يرتبط إيماننا بالله بإيماننا بأنّ الكتاب المقدَّس هو كلمة الله، وبأنّ يسوع المسيح هو ابن الله؟
هوامش:
- Of course, the actual amount of energy remains constant; only the usable amount is decreasing.
- Robert Jastrow, God and the Astronomers (New York: WW. Norton, 1978), 15- 16.
- David Hume, the Letters of David Hume, vol. 1, ed. J.Y.T. Greig (Oxford: Clarendon, 1932), 187.
- David Hume, Enquiry Concerning Human Understanding, ed. Chas. W. Hendel (New York: Liberal Arts, 1955), 165-66.
- C. S. Lewis, the Abolition of Man (New York: Macmillan, 1947), 69
- C. S. Lewis, The Problem of Pain (New York: HarperCollins, 2001, reprint; first published, 1994), 120.