لا إله إلا الله الواحد – بولس فغالي
لا إله إلا الله الواحد – بولس فغالي
لا إله إلا الله الواحد – بولس فغالي
حين انطلقت الكنيسة الأولى، كان عليها أن تحمل تعليمًا إلى العالم اليهودي والعالم الوثني. مع العالم اليهودي قالت بوحدانيّة الله رغم إيمانها بالثالوث، بالاله الواحد في ثلاثة أقانيم. قالت بفم يسوع: “الرب إلهنا هو واحد”. وكانت لها حرب مع العالم الوثني المتعلِّق بالاوثان، بقوى الطبيعة يؤلّهها، هذا العالم الذي عبدَ أبطال الاساطير بل عبدَ مدينة رومة وأباطرتها الأموات منهم والأحياء. حينئذ هتفت: لا إله إلاّ الاله الواحد. ودعت المؤمنين إلى أن يتركوا أصنام الحجر والخشب، بانتظار أن تدعوهم وتدعونا إلى التخلّي عن أصنام أخرى ترتبط بالخطيئة: حبّ المال، الدعارة، الزنى…
نستمع أولاً إلى القديس بولس يحدّثنا عن ذبائح تقدّم للآلهة. ثم نسمع كلام الكنيسة تدعو مؤمنيها إلى ترك عبادة الاوثان وعبادة الله الحي. وفي النهاية نفهم أن هناك أصنافا من نوع آخر هي عناصر الكون وحبّ المال وأعمال الجسد.
1- ذبائح الاوثان
طرح الكورنثيون سؤالاً على بولس الرسول: هل يحقّ للمؤمن أن يأكل لحمًا من ذبائح قُدّمت للأصنام. نحن هنا أمام قضيّة عمليّة: كانت تكثر الذبائح المقدّمة للآلهة في مناسبة الاعياد، فتباع بأسعار رخيصة. وهكذا يستفيد الفقراء من هذا الظرف ليأكلوا طعامًا (لحمًا) لا يستطيعون أن يشتروه في الحالات العادية. أعطى بولس جوابًا عمليًا أول: ليس الوثن بشيء. هو لا يزيد شيئًا على هذه اللحوم ولا ينقّص منها شيئًا. إن أكلنا من “هذه اللحوم” لا نكسب شيئًا، وإن لم نأكل لا نخسر شيئًا (1 كور 8: 8).
ويستفيد بولس من المناسبة ليدلّ أولاً على أن بعض الناس ما زالوا ضعفاء، ما زالوا يحنّون إلى الاوثان والممارسات التي ترافق أعياد المدينة، ما زالوا يخافون من الوثن الذي يمكن أن يعاقبهم لأنهم تركوه. ويقابل هؤلاء الضعفاء، أقوياء لهم المعرفة التي هي عطيّة من الله (1 كور 8: 1). هم يعرفون ما هو الوثن، ولذلك يعتبرون أن “كل شيء يحلّ لهم” (1 كور 6: 12). إنطلقوا من الطعام الذي لا ينقّي ولا يدنس الانسان على ما يقول يسوع المسيح (مر 7: 14- 23)، فطبّقوا هذا القول على الزنى، فأفهمهم بولس أن الجسد هو للرب، أن الجسد هو هيكل الروح القدس (1 كور 6: 13، 19).
لماذا يأكل الناس من اللحوم المقدّمة للأوثان؟ لكي يتّحدوا بالاله الذي له يذبحون. ولكن بولس يعلن أن لا إله إلاّ الله الواحد. وأن الآلهة التي يتحدّث عنها العالم الوثني هي آلهة مزعومة، آلهة كاذبة. ويقدّم الرسول الواقع: هناك آلهة عديدون، هناك أرباب عديدون. والميتولوجيا الوثنية تعج بهم: من زوش (أو جوبتر) إله الآلهة، حتى مارس إله الحرب، وبوسيدون (أو نبتون) إله الماء والبحر… هذه هي آلهة بالنسبة إليهم، إلى الوثنيين. أما بالنسبة إلينا، نحن المسيحيين، “فلنا إله واحد وهو الآب الذي منه كل شيء” (1 كور 8: 6).
ثم كانت نقابات تجمع أصحاب المهنة الواحدة، وتضع نفسها تحت حماية إله من الآلهة. وكانت كل نقابة تقيم عيدًا “لشفيعها” (مثلاً، أرطاميس والصاغة في أفسس، رج أع 23:19 ي). فمن تخلّف عن العيد عُدّ خارج المهنة، خارج النقابة. لا شكّ في أن المناسبة صارت مناسبة اجتماعية. ولكن هذا لا يمنع من وجود تمثال للاله الذي يحتمي به هؤلاء الصنّاع. فما يكون موقف المسيحيّ الذي يعمل في هذه المهنة؟
هنا سيكون جواب بولس قاطعًا: “فلذلك اهربوا، يا أحبائي، من عبادة الاوثان” (1 كور 10: 14). لم نعد فقط أمام شكّ وعثار لإخوتنا “فتكون معرفتنا سبب عثار لهذا الضعيف، هذا الأخ الذي مات المسيح من أجله” (1 كور 8: 11) هـ فنكون وكأننا أخطأنا إلى المسيح (آ 12). وكان الموقف العملي: “لن آكل اللحم أبدًا لئلاّ أكون سببًا لسقوط أخي” (آ 13).
أما على مستوى النقابة، فبدا الصراع واضحًا بين عبادة الله وعبادة الوثنيين. إن الذين يأكلون الذبائح هم شركاء المذبح، وبالتالي شركاء للاله الذي يُعبد على هذا المذبح. وسيقولها بولس بصريح العبارة: “ذبائح الوثنيين هي ذبائح للشياطين” (1 كور 14: 19). فهل نريد أن نكون شركاء للشياطين (آ 20)؟ الجواب سيكون لا. هل نخلط بين عبادة الآلهة وعبادة الله الواحد؟ هل نفعل كما فعل معاصرو إيليا فنرقص تارة أمام بعل وتارة أمام يهوه (1 مل 18: 21)، فنقدّم شعائر العبادة تارة للرب وطورًا للالهة الكاذبة؟ وسيقول لنا القديس بولس في المعنى نفسه: “لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشياطين، ولا أن تشتركوا في مائدة الرب ومائدة الشياطين” (1 كور 10: 21). ويذكّرنا بإحدى صفات الله في العهد القديم: إنه الاله الغيور الذي لا يرضى (بل يغضب) على أبناء شعبه الذين يتعبّدون للأوثان (تث 32: 17 ي).
2- أهربوا من عبادة الاوثان
بولس هو عارف بهويّة الوثن، ولهذا لم يهتمَّ للحوم الاوثان. وهناك العارفون والواثقون بأنفسهم. إلى هؤلاء قال بولس: “كلوا من كل ما يباع في السوق، غير باحثين عن شيء من أجل الضمير، لأن الأرض وما عليها للرب” (1 كور 10: 25- 26). ولكنه أحسّ بالخطر يهدّد جماعة ليس كل أفرادها على مستوى واحد من الايمان والشخصية المسيحية. فقد ينقادون وراء الأكثريّة، ولا يكتفون بشراء بعض اللحوم، أو بالمشاركة في حفلة تقام مرّة كل سنة. فهؤلاء الذين تعوّدوا على الاوثان، يأكلون من هذه الذبائح فيحسبونها حقًا ذبائح للأوثان (1 كور 8: 7).
ماذا يعني بولس بكلامه؟ هو يعني العبادة التي تقدّمها كل مدينة لآلهتها، وخصوصًا لإلهها الشخصي الخاص. فمن شارك في هذه “الولائم المقدسة” دلّ على أنه ليس بغريب عن سائر الناس. هو يعمل كما يعمل سائر الناس فلا يفترق عنهم بشيء. وما كان يستثنى من هذه العبادة إلاّ اليهود بسبب ما نالوه من اعفاءات. ثم، لما أخذ الناس في كل مدينة يقدمون الذبائح للأمبراطور كأنه إله، شعر المسيحيون أن عليهم أن يشاركوا في هذه الذبائح ليدلّوا على ولائهم لرومة. فمن رفض المشاركة عُدّ خائنًا. وسيأتي يوم تميّز فيه “السلطة” بين الذين يقدّمون البخور أمام الآلهة أو لا يقدّمون. فمن لا يقدّم كان مصيره الموت.
وجد المسيحيون أنفسهم أمام خطرين: إما يرجعون إلى الديانة اليهودية وممارساتها، كما فعل أهل غلاطية (غل 3: 2: تنتهون بالجسد، باللحم والختان في اللحم)، فينجون بنفوسهم. وإما يمارسون ما يمارسه الوثنيون، معتبرين هذا العمل ممارسة اجتماعية تربطهم بأفراد المدينة التي يقيمون فيها. ولكن النتيجة النهائية كانت: عودة إلى عبادة الاوثان. لهذا يدعو بطرس المؤمنين قائلاً: “كفاكم ما قضيتم من الوقت في مجاراة الأمم الوثنية، سالكين (عائشين) سبيل الدعارة والشهوة والسكر والخلاعة والعربدة وعبادة الاوثان المحرّمة” (1 بط 4: 3). هكذا كان الناس يحتفلون بالاعياد الوثنية وما يرافقها من مختلف أنواع الممارسات الاباحية. ويتابع القديس بطرس كلامه: “وهم الآن يستغربون عنكم كيف لا تنساقون في مجرى الخلاعة ذاتها فيهينونكم” (آ 4).
وهكذا وجب على المسيحيين أن ينفصلوا عن الوثنيين، أن يرفضوا كل تعامل معهم على هذا المستوى. قال بولس الرسول في 2 كور 6: 14- 16: “لا تقترنوا بغير المؤمنين في نير واحد. أي صلة بين الخير والشر (بين البرّ والاثم، بين الحياة مع الله، والحياة ضد الله)؟ وأي علاقة للنور والظلمة؟ وأي تحالف بين المسيح وابليس (حرفيًا: بليعار وهو الباطل والوثن والشيطان)؟ وأي شركة بين المؤمن وغير المؤمن؟ وأي وفاق بين هيكل الله والاوثان”؟
والخيار يفرض نفسه: “نحن هيكل الله”. فكيف يجب علينا أن نتصرّف؟ ويبيّن القديس بولس شرّ العبادة الوثنية وما جرّت وراءها من خطايا. فهي رفيقة “السحر والعداوة والشقاق والغيرة والغضب والدسّ والخصام والتحزّب والحسد والسكر والعربدة”. هي رفيقة “الزنى والدعارة والفجور” (غل 5: 19- 21). والذين يعملون هذه الأعمال لا يرثون ملكوت الله.
وسيدلّ القديس بولس في الرسالة إلى رومة على حالة الانحطاط التي وصل إليها عبّاد الاوثان. “إستبدلوا بمجد الله الخالد صورًا على شاكلة الانسان الفاني والطيور والدواب والزحافات” (روم 1: 23). هذا ما قاله مز 106: 20: “أبدلوا الله المجيد بشكل ثور يأكل العشب”. تلك كانت عبادة المصريين والقدماء، وقد أشار بولس إلى عبادات أخرى. ثم بيّن كيف استبدلوا حقيقة الله (أو: الاله الحق) بالكذب (بالباطل) (أو: الآلهة الكاذبة، رج إر 10: 10- 14)، فعبدوا المخلوق بدل الخالق (روم 1: 24). “لهذا، أسلمهم الله إلى الشهوات الدنيئة… أسلمهم إلى فساد عقولهم، إلى كل عمل شائن” (روم 1: 26- 30).
هل يريد المسيحيون أن يصلوا إلى هذا الحدّ؟ كان بعضهم على هذه الحال فيما مضى. أما الآن فيتوجّه بولس إليهم ويقول: “لكنكم قد اغتسلتم (بالمعمودية)، لكنكم قد تقدّستم (تكرّستم، صرتم ملك الله)، لكنكم تبرّرتم (نلتم برّ الله ورحمته) باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا” (1 كور 6: 11).
3- لا تعبدوا ربّين
أورد القديس متى (6: 24= لو 16: 13) في عظة الجبل كلام السيد المسيح حول هذه العبادة: “لا يستطيع أحد أن يعبد (يخدم) ربين (سيّدين). إما يبغض الواحد ويحبّ الآخر. وإما يتعلّق بالواحد ويحتقر الآخر. لا تستطيعون أن تعبدوا (تخدموا) الله والمال”.
كان المال اسم جنس فصار اسم علم. صار شخصًا قويًا يستعبد العالم. الكلمة اليونانية المستعملة هنا تعود إلى الآرامية، أخت العربية: مامون. أي ما يعطينا الأمان. ما نستطيع أن نستند إليه ونثق به. نحن نؤمن بالمال كما نؤمن بالله، لأنه حقيقة ثابتة وملموسة. وهكذا صار المال صنمًا نخضع له وننتظر منه الخلاص. فالصنم صورة على ورقة أو قطعة قماش؟ وليس فقط تمثالاً نجعله في الحجر أو الخشب. الصنم هو كل ما نجعل عليه اتّكالنا. كل ما نعتبره مصدر سعادتنا. هناك عبادة الاشخاص كما يعرفها عالمنا المعاصر. وعبادة المال والسلطة والعنف والجنس. وهناك عالم السحر (وما يرتبط به من عرافة وكشف حظّ وكتابة) الذي ننتظر منه أن يوجّه أعمالنا، بل حياتنا كلها وحياة شعوبنا (كم من رئيس دولة يستشير العرّافين!).
ونتساءل بعد هذا: لماذا نعيش في القلق والخوف؟ ونتساءل: لماذا الحروب والخصومات والبغض والحقد، واستغلال الضعفاء والمساكين؟ ونتساءل: كم من “الزعماء” جرّوا شعوبهم إلى الدمار، وقتلوا الملايين باسم سياسة تفرض العبودية على الناس، بدل أن تعلّمهم عبادة الله الواحد الذي خلقهم أحرارًا على صورته ومثاله.
هل ننسى ما قاله الرب في الكتاب المقدس؟” يوجد في أرضكم من يتعاطى عرافة (يعتبر العرّاف أنه يعرف الماضي والمستقبل)، ولا مشعوذ (من يتلو أو ينشد عبارات سحرية للحصول على نتيجة ما)، ولا متفائل ولا ساحر (ممارسات تتأسَّس على الاعتقاد بقوى علوية، وتظنّ أنها تؤثِّر على الأشخاص والأشياء). ولا من يرقى رقية (الاستعانة بقوى تفوق قوى الطبيعة للحصول على أمر ما)، ولا من يسأل جانا أو تابعة (وذلك من أجل معرفة المستقبل) ولا من يستشير الموتى. فكل من يصنع ذلك هو ممقوت عند الرب” (تث 18: 10- 11). إن الأمم الوثنية تصنع ذلك، أما أنت، فما أراد لك الرب الهك شيئًا من هذا (آ 14). وسيكون سفر الخروج قاسيًا: “لا تبق ساحرة على قيد الحياة” (22: 18).
بالسحر نحاول أن نسيطر على الله. أما بالايمان، فنخضع لمشيئة الله. بالسحر نريد أن نوجّه الكون كما نريد. أما إذا سمعنا كلمة الله، فيكون لنا الكون عطيّة من يد الله خالق السماء والأرض. لقد حاول “أهل بابل” أن يصلوا إلى الله بالقدرة البشرية والسلطان، فكانت النتيجة تشتتًا لهم على وجه الأرض (تك 11). أما ابراهيم فأطاع نداء الرب فأعطيت له الأرض، وتباركت به جميع الشعوب (تك 12).
وتوقّف القديس بولس عند آلهة من نوع آخر. هي العناصر. تحدّث أولاً إلى الغلاطيين الذين انتقلوا من عبادة هي في الواقع عبودية إلى عبادة أخرى. قالت: “إذ كنتم قديمًا لا تعرفون الله، تعبّدتم لآلهة ليست في الحقيقة آلهة” (غل 4: 8). كان أهل غلاطية وثنيين فخضعوا لعالم الاوثان. ولكننا لا نستطيع أن نخلط الله الواحد مع أية قوّة في العالم المخلوق، أكانت منظورة أم غير منظورة. وإذ وصل الوحي إلى هذا الشعب، حرّره الله من هذه القوى التي سعى دائمًا إلى تأليهها.
ويتابع القديس بولس (آ 9): “أما الآن، وقد عرفتم الله، بل بالحري عرفكم الله، فكيف ترجعون إلى هذه العناصر (أو: الاركان) السقيمة البائسة التي تريدون من جديد أن تتعبّدوا لها”؟ كيف ينتقل الغلاطيون من آلهة إلى آلهة، مع أنهم عرفوا الاله الواحد أو بالأحرى عرفهم. المعرفة هي علاقة شخصية “ملموسة”. المعرفة هي محبّة. الله أحب الغلاطيين، فكيف لا يبادلونه الحب؟ كيف يتعلّقون بعناصر سقيمة وضعيفة؟
ما هي هذه العناصر؟ ليس تلك التي يتكوّن منها الكون كالماء والهواء والتراب والنور. بل تلك القوّات التي تعمل في العالم. سجنت الانسان وقيّدته فجاء المسيح يحرّره منها. فالعالم الوثني استعبد الانسان لقوى الكون التي ألّهها. ونظام الشريعة الموسوية استعبد الاسرائيلي للملائكة (3: 19) الذين نسب إليهم التقليد اليهودي تدبير الكون المادي وبالأخص عالم الكواكب والنجوم. وهكذا يجعل الرسول عمدًا طقوس الديانة الوثنية والطقوس التي يفرضها اليهود على الغلاطيين الذين ارتدوا من الوثنية، يجعلها على المستوى عينه. ففي الحالتين، نرى خضوع الانسان وتعبّده لخلائق أخرى (هم الاوصياء الذين تتحدّث عنهم غل 4: 2). ولكن على المؤمن أن لا يرتبط إلاّ بالله خالقه الذي صار ابنه بواسطة يسوع المسيح.
ويتابع القديس بولس كلامه في غل 4: 10: “تحفظون الأيام والشهور والاوقات والسنين”. قد نكون هنا أمام الاعياد اليهودية التي يتعلّق بها الغلاطيون ليدلوا على عودتهم إلى ديانة الشريعة الموسوية. وقد يلمّح بولس الرسول إلى طقوس تلفيقية (نماذج تعاليم وممارسات مختلفة) ترتبط بعبادة الكواكب. هنا نلتقي بما قاله بولس في الرسالة إلى كولسي: “فلا يحكمنّ عليكم أحد في المأكول أو المشروب أو في عيد أو رأس شهر أو سبوت” (2: 16). كل هذا نتركه لأنه الظلّ، أمّا الواقع فهو المسيح. فلماذا العودة إلى الشعائر اليهودية؟ هناك أشخاص يدعونكم إلى أعمال تقوية، إلى “عبادة ملائكة” (آ 18). هل نسوا أن العبادة تتوجّه إلى الله وحده؟
أنتم الآن مسيحيون، “أنتم قد متُّم مع المسيح عن عناصر العالم، فلماذا تخضعون لهذه الفرائض كما لو كانت حياتكم تخضع أيضًا للعالم” (آ 20)؟ ويعدّد الرسول بعض المحرّمات والممنوعات (هناك ما يسمّى “تابو” أو شيء مقدّس لا نلمسه لئلا نتجنّس): “لا تأخذ، لا تذُق، لا تمسّ. كلها أشياء تؤول بالاستعمال إلى زوال. تلك هي وصايا الناس وتعليمهم” (كو 2: 21- 22).
هذه الأمور ليست بعيدة عنا. فنحن لا نزال متعلّقين بأيام وشهور وسنين. نتعلق بالحظوظ والابراج والكواكب والنجوم، ونعلن في الوقت ذاته أننا نعبد الله الواحد، وبه نربط حياتنا في كل تفاصيلها. إننا ندلّ بهذه الصورة أننا نتعبّد “لأصنام” نخاف منها ومن تأثيرها على حياتنا، ولا نتعبّد للاله الحي الذي يحبّنا ويريد لنا الحياة والحرية. فالله يتمجّد عندما يعيش الانسان ملء حياته، حين يكون كبيرًا في تصرفاته وسعيدًا في كل ما يعمل.
خاتمة
حين كلّم بولس أهل أثينه أمام الاريوباج (أي مجلس المدينة)، دعاهم إلى التعرّف إلى الاله المجهول، هذا الاله الذي ما زالوا يجهلونه، والذي جاء يبشرّهم به (أع 17: 23). هذا الاله الذي خلق السماء والأرض يدعوهم إلى البحث عنه واكتشافه. في الماضي، كانوا جاهلين. أما الآن فصاروا عارفين. فيبقى عليهم أن يتوبوا، أن يرتدوا إلى الإله الحقيقيّ (آ 30). هذا النداء يتوجّه إلينا أيضًا ويدعونا إلى الايمان بالله الواحد فنحبّه من كل قلوبنا ونفوسنا وأذهاننا، ولا نتعبّد لسواه.