لاهوت الروح القدس عند اباء ما قبل نيقية أ/ أمجد بشارة
ألوهية الروح القدس عند اباء ما قبل نيقية أ/ أمجد بشارة
بقيت صحة تعاليم الرسل واضحة في ما يختص بشخص الروح القدس ضمن الكيان أو الجوهر اللاهوتي للثالوث في تسليم قانون التعميد، «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس». وقد اكتشفت قوانين التعميد المبكِّرة جدًّا في تقليد القرون الأُولى وهي تحمل طابع الإيمان والتعليم بوحدة الثالوث ([1]). كليمندس الروماني:
وبجوار قوانين التعميد المحلية في الكنائس تصلنا من الرسالة الأُولى إلى كورنثوس للقديس كليمندس الروماني – وهو تلميذ الرسل – صورة أصيلة مطابقة لتعليم الرسل من جهة “انسكاب” الروح القدس، ومن جهة “شخص” الروح القدس، ومن جهة “الجوهر الإلهي” للروح القدس: [لقد وُهبتم جميعاً سلاماً عميقاً وفيراً وشوقاً غير محدود نحو عمل الصلاة بينما انسكب الروح القدس عليكم بفيض].
[أي عالم يمكنه أن يختفي هارباً من وجه الله؟! إذ يقول الكتاب: «أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب؟! إن صعدتُ إلى السموات فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت» (مز 139: 7و8).
أين يمكن لإنسان أن يهرب ممن يحتضن كل شيء؟!]
[حي هو الله، وحي هو يسوع المسيح وحي هو الروح القدس وحي هو إيمان ورجاء المختارين.] (الرسالة الأُولى لكليمندس الروماني 2و28و58)
كذلك فإن تعاليم كليمندس تأتي في كمال انطباقها على علاقة الروح القدس بقانون الأسفار المقدَّسة (انظر: الرسالة الأُولى لكليمندس الروماني 45و8و13و16و22و42).
برناباس:
ونقابل في رسالة برناباس بصورة مميِّزة استمرار التعليق على الإلهام الموجود في الأسفار (9-10) كذلك موضوع انسكاب الروح القدس على الكنيسة كلها (1).
إغناطيوس الأنطاكي:
في رسائله المختصرة نجده يسمِّي الروح القدس واحداً مع الآب والابن مع تمييز خاص لشخصه (ماغنيزيا: 13)، كذلك موضوع انبثاقه من الآب (فيلادلفيا: 7)، وإرساله بواسطة الابن (أفسس: 17)، وعمله في الحمل الإلهي الإعجازي للعذراء (أفسس: 18)، وفي تقديس (مسحة) أعضاء المسيح (أفسس: 9، سميرنا: 13)، كما نجد في حالة استشهاده ذكره للروح القدس في تمجيده لله، كذلك نجد عين الأمر في استشهاد القديس بوليكارب (استشهاد القديس بوليكارب 14-22) (استشهاد القديس إغناطيوس 71).
الأسقف “راعي هرماس”:
ولكن من بين كل ما وصلنا من كتابات عصر ما بعد الرسل للآباء الرسوليين، فإنه يندرج ما خلفه لنا “راعي هرماس” تحت أكثر الكتابات خصوبة في الإشارات للروح القدس. أنه أحياناً يشير إلى أرواح كثيرة مرسلة بواسطة الروح القدس منوط بها تعليم وإنارة بصيرة الناس، ونحن نجد إشارة إلى مثل هذا المعنى في رسالة يوحنا الأُولى: «أيها الأحباءُ، لا تصدِّقوا كل روحٍ، بل امتحنوا الأرواح: هل هي مِنَ الله؟ لأن أنبياءَ كذبةً كثيرينَ قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرفون روح الله: كل روحٍ يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو مِنَ الله… مِنْ هذا نعرف روح الحقِّ وروح الضلال.» (1يو 4: 1-6)
كذلك نجد إشارة إلى هذا المعنى أيضاً في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: «يوحنا إلى السبع الكنائس التي في أسِيَّا. نعمة لكم وسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي ومن السبعة الأرواح التي أمام عرشه.» (رؤ 4:1)
وراعي هرماس يؤمن بشدة أن روح النبوَّة لا يزال مستمراً في عمله في الكنيسة، ويشير إلى أنه حائز لهذه العطية الخاصة بالإلهام.
ثيؤفيلس الأنطاكي:
تُعتبر الكنيسة مدينة لهذا المدافع الشهيد بأول تسجيل للإصطلاح اللاهوتي الشهير “الثالوث”، في ما يختص باللاهوت في ذاته! [إن الثلاثة أيام السابقة قبل أن يصير النور هي مثال للثالوث، الله وكلمته وحكمته]
وهنا يذكر الثالوث بوضوح مشيراً إلى الشخصين الواضحين: “الكلمة” و“الحكمة”، باعتبار الحكمة هي الروح القدس حسب التقليد القديم الموروث. ويستمر هذا الكاتب الرسولي الملهم في توضيح تحديد الأشخاص في الثالوث إنما في وحدة مطلقة.
أثيناغوراس:
أثيناغوراس رأى في الروح القدس عملاً غريباً على المفهوم التقليدي وهو اضطلاعه بوظيفة رباط الوحدة في اللاهوت ([2]). (وهذا الاتجاه رفضته الكنيسة بالرغم من أخذ القديس أغسطينوس به).
والذي رفضه بشدة ووضوح هو القديس أثناسيوس في حديثه الثالث ضد الأريوسية:
[وإن الروح القدس لا يوحِّد الكلمة بالآب، لأن الكلمة لا يشترك في الروح القدس حتى يصير في الآب، ولا الابن يستقبل أو يستلم الروح القدس بل بالحري يعطيه بنفسه للجميع، فالروح لا يوحِّد الكلمة بالآب… فالابن هو في الآب لأنه كلمته وشعاعه.] ([3])
كذلك فإن أثيناغوراس صاحب الفضل في توضيح جديد لعقيدة الانبثاق الجوهري للروح القدس من الله فهو يقول:
[إنه منه ينبثق وإليه يعود كشعاع الشمس أو كالنور المنبعث من النار.] ([4])
أمَّا خارج الكنيسة، أي لدى مجموعات الهراطقة، فكانت هناك قوتان تتصارعان معاً بشدة ضد الكنيسة: جماعة المونتانيين وجماعة الغنوسيين.
أمَّا جماعة الغنوسيين، فأخذوا شيئاً ما بما تقوله الكنيسة من جهة الروح القدس، وإنما بصورة مشوَّهة وعلى اتساع تحليلي، وكان زعيمها الأول “سيمون” وهو ساحر سفر الأعمال، وكان قبل عماده يُدعى من جميع الشعب «قوة الله العظيمة» (أع 10:8)، لِما كان يأتيه من معجزات. وكان قد تلقَّى بعض تعاليم الرسل في ما يختص بأن القوة الإلهية إنما تتصل مباشرة باسم الروح القدس كما هو مدوَّن بوضوح في سفر الأعمال (أع 9:8-19)، ولكنه عاد من بعد عماده (من أيدي الرسل) وعزله عن الكنيسة، فادَّعى أن شريكته هيلانة هي “الباراكليت” وأن القوة التي تنبثق من الله هي قوَّة مؤنَّثة.
وجاءت جماعة “أوفيت Ophite” وقالت صراحة إن هذه القوة المؤنَّثة هي الروح القدس، وهي تتميَّز عن فكر الله، يقصدون بذلك “كلمته” ([5])، وأن الكلمة مولود منها، وهي التي كلَّمته على الأردن.
أمَّا في نظام باسيليدس، فقد اعتبروا الروح القدس روحاً خادماً، وليس متحداً جوهرياً بالابن أو مساوياً له، وهكذا صارت بلبلة في الفكر خارج المحيط الكنسي.
أمَّا في نظام فالانتين، فقالوا بانبثاق الروح القدس ولكن ليس بصورة مباشرة من الله ([6])، وإنه مساوي للمسيح؛ ولكنهم تبنُّوا كل الهرطقات التي ظلَّت متداولة حتى القرن الرابع والتي فنَّدها القديس أثناسيوس ([7]).
أمَّا جماعة المونتانيين، فيُشك أنهم أخذوا بشيء من عقيدة الروح القدس في الكنيسة، لأن العالم الألماني نياندر ([8]) قد أشار إلى أن موقف “مونتانس” و“ماكسيملا” في ما يختص بالروح القدس عندهم كان من وجهة نظر العهد القديم أكثر منه في العهد الجديد، وأنه لم يكن للفكر المونتاني تأثير كبير على الكنيسة، وسرعان ما انحل تحت ضغط الاضطهاد.
أمَّا جماعة اليهود المتنصرين، الذين ظلوا متمسكين بتقاليدهم العتيقة ورفضوا التقليد الرسولي من جهة الإيمان بالثالوث الأقدس، وهم في هذا الموضوع جماعة الناصريين Nazarenes، أخذوا برأي الغنوسيين فقالوا إن الروح القدس هو أيضاً قوة مؤنَّثة وأنها هي التي ولدت المسيح على الأُردن وأن الباراكليت هو أم المسيح ([9]).
والعجيب أن هذا الفكر أخذت به أيضاً جماعة هراطقة الإيبونيم اليهودية المتنصِّرة بزعامة كيرنثوس المبتدع، وقال إن الروح القدس قوة مؤنَّثة، وهكذا ظلَّت هذه السفاهة العقلية التحليلية الشيطانية عالقة بالكنيسة حتى القرن السابع – (وكان بعض أئمة هؤلاء الهراطقة قاطنين شبه الجزيرة العربية واليمن. لذلك فقد سمع بها القرآن وسُئل فيها فجحدها وقال فيها إن الله لم يلد ولم يولد ولم يكن له صاحبة، والقرآن على ضوء هذه الهرطقات محقٌ في ما قال).
وجماعة هراطقة المونوأرخيين (أي وحدة الرأس أو الصدر)، وهي قريبة من جماعة الإيبونيم يهودية متنصِّرة، وكان على رأسها ثيئودوتس المبتدع فكانت أصلاً مشغولة بجحد لاهوت المسيح وإنكار الثالوث، وزعماؤهم براكسياس ونوئيتوس وبيرللوس (بلاد العرب) وسابيليوس، فهؤلاء جميعاً جحدوا الثالوث القائم على أقانيم متميِّزة، وقد تزعَّم براكسياس – حسب شرح ترتليان (براكسياس: 9) – فكرة أن الروح القدس هو أصل وجود الآب والابن.
بل في روما ذاتها قام كاليستوس بابا روما، وألغى شخصية الروح القدس المتميِّزة في الثالوث، وأعطى اسم الروح القدس ليعبِّر عن جوهر الله الذي قد يسمَّى الآب أو يسمَّى الابن أو يسمَّى الكلمة ([10]).
ومن هنا نشأت أيضاً بدعة السابلية التي امتدت وأعطت الروح القدس شخصية. ولكن كان عندهم الروح القدس قادراً أن يظهر نفسه في أي من الأقانيم الأخرى فهو إمَّا يظهر كآب أو كابن أو كالروح القدس ([11]).
بولس الساموساطي المبتدع: وهذا المبتدع يعتبر الروح القدس ليس استعلاناً لشخص أو أقنوم وإنما “خاصية”…
وبولس الساموساطي لم ينكر انبثاق وإرسال الروح القدس، وإنما حلله إلى مجرَّد تأثير، وإنما تأثير غير مشخَّص أو غير شخصي. فالروح القدس عند بولس الساموساطي ليس أقنوماً بل مجرَّد نعمة نزلت على الرسل ([12]). وكان حذراً في الدخول إلى التفاصيل الخاصة بعقيدة الكنيسة في هذا الموضوع، ففلت من جهة هذا الأمر من ملاحظة المجمع المقدَّس الذي حكم عليه في تعاليمه الأخرى وجرَّم إيمانه وقطعه.
تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية في تلك الحقبة، أي أواخر القرن الثاني حتى منتصف القرن الثالث:
إيرينيئوس:
وهو يمثل معاً تعاليم مدرسة آسيا الصغرى المنحدرة من القديس يوحنا الرسول، بجوار تعاليم جنوب شرق بلاد الغال (فرنسا الآن).
وهو يُعتبر من أوائل معلّمي هذه الفترة الزمنية، وهو يجحد بشدة في كل أقواله أخطاء فالنتينوس المبتدع الذي خلط بين إرسالية الروح القدس المحدَّدة زمنياً بيوم الخمسين وبين انبثاق الروح القدس من الله أزلياً، أي خلط بين عمل الروح القدس في البشرية وعلاقة الروح القدس جوهرياً بالله ([13]).
ولكن إيرينيئوس يرفض أحد التعبيرات عن الاصطلاح بالانبثاق emisso = probol» ([22]). إذ تراءى له أن هذا التعبير يحمل ضمناً نوعاً ما من الانفصال في جوهر الله الواحد، ولذلك فإنه فضَّل أن يترك كيفية “الانبثاق” الإلهي بدون شرح ([14])، مكتفياً بتوضيح ذلك بالتصوير، فيقول عن الابن وعن الروح القدس أنهما يدا الله، الأول ابن progenies أمَّا الروح القدس فهو الصورة figuraties للآب، الابن هو “كلمة” الله والروح القدس هو “حكمة” الآب ([15])، ليس من خارج الله ولكن من داخله ([16]). (يُلاحَظ هنا أن إيرينيئوس لا يتبع الخط الفكري الآبائي القديم الذي يشدِّد أن الكلمة هو حكمة الله).
ويستشهد إيرينيئوس بما جاء في إشعياء أصحاح 57 آية 15و16 (الترجمة السبعينية) هكذا: “لأنه هكذا قال العلي الساكن في الأعالي إلى الأبد، القدوس في الأقداس اسمه، العلي المستريح في القديسين المعطي صبراً للمنسحقين وحياة لمنكسري القلوب، لأني لن أنتقم إلى الأبد ولا أغضب عليكم دائماً لأن روحي التي تنبثق مني تحيي كل نفس.” (إش 15و16:57 سبعينية)
وإيرينيئوس يعطي تصوراً للعلاقة بين الروح القدس والابن هكذا:
[إننا بالروح القدس نرتفع إلى الابن، وبالابن نصعد إلى الآب.] ([17])
وبذلك فإن عطية الروح القدس لنا هي إحدى نتائج التجسُّد.
والذي ليس له الروح القدس فليست له شركة في حياة يسوع المسيح ([18]).
كذلك فإن إيرينيئوس يرى أن نفخ المسيح في تلاميذه وإعطاءهم الروح القدس (يو 22:20) هو برهان على لاهوت المسيح ([19]).
وبخصوص وظيفة الروح القدس التعليمية كالأقنوم الثالث، فعقيدة إيرينيئوس سليمة وكاملة فهي واضحة في إلهام الأنبياء والرسل ([20]).
غير أن إيرينيئوس يعود في مواضع أخرى ليثبت أن إلهام الأنبياء كان من عمل الكلمة سواء في العهد القديم أو الجديد ([21]).
كذلك فإن الروح القدس هو الذي يضطلع بعمل استنارة لذهن الكنيسة بصورة مستمرة ([22])، ويؤكِّد أنه في حضن الكنيسة فقط يمكن أن يستمتع المسيحي بنور الروح القدس، وأن الروح القدس ينطلق عمله في سري المعمودية والإفخارستيا ([23]).
ترتليان (160-240م):
صوت مدوي يظهر مبكِّراً من شمال إفريقيا في نهاية القرن الثاني، يمثِّل تعبيراً حراً ومستقلاً، هو صوت ترتليان، وذلك في معرض كتاباته ضد الموحدين Monarchians وكان يمثلهم آنئذ براكسياس.
وترتليان يُحسب كواضع لأساس التعليم الجامعي بخصوص الانبثاق.
ولكن نجد في كتاباته ما يفيد تعبير الكنيسة الرومانية الآن: أن انبثاق الروح القدس هو من الآب والابن ([24]).
كما نجد في مواضع أخرى بكل وضوح تعبيره الآخر وهو الأرثوذكسي السليم أن: [الروح القدس منبثق من الآب في الابن: Spiritum non aliunde pute quam a Patre per Filium.] ([25])
كما يقول إن الروح القدس يأخذ دائماً من الابن، كما أن الابن يأخذ دائماً من الآب، وهكذا فإن الثلاثة متحدون معاً في حياة إلهية واحدة: [الآب في الابن والابن في البراكليت ثلاثة متحدون…]
[Ita connexus patris in Filio et Filii in paracleto tres officit cohaerentes alterum ex altero] ([36])
أمَّا في ما يختص بعمل الروح القدس، فيتكلَّم ترتليان عن يقين كجزء لا يتجزَّأ من الإيمان، إن الروح القدس أُرسل ليملأ مكان صعود المسيح، وذلك لكي يقدِّس الكنيسة. ففي المعمودية ينزل الروح القدس من السماء ويقدِّس الماء معطياً للماء قوة التقديس ([26]).
ثم إن حضور الروح القدس يُستدعى بالإضافة إلى تقديسه الماء ليحل بوضع الأيادي الذي يتبع طقس العماد ([27]).
كبريانوس († 258م):
يُعتبر كبريانوس أكبر تلاميذ ترتليان. وهو يذكر موضوع أقنوم الروح القدس عبوراً ([28])، ولكنه يؤكِّد وحدة الأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس، أي توحيد الله هكذا:
“De unitate Patris et Filii et spiritus sancti plebs adunata”
[إن أفضل ذبيحة لدى الله هي سلامنا وتوافقنا الأخوي، (وظهور) وحدة الآب والابن والروح القدس في تآلف الشعب (المسيحي).] ([29])
ولكن يركِّز كبريانوس كثيراً على علاقة الروح القدس بالكنيسة كجسد وكأفراد في الجسد، أمَّا ما يتبع هذا من نمو أو فقدان في النعمة فهذا يرجع في عقيدة كبريانوس، إلى سلوك الفرد.
وعن الروح القدس يقول: Totus infunditur se qualiter sumiturكله يُفاض بقدر ما يُقبل ([30]).
ولكن لكي تكون المعمودية ذات مفعول يتحتَّم أن تُجرى بواسطة إنسان يكون هو نفسه يملك الروح القدس ([31]).
والكنيسة الجامعة باعتبارها عروس المسيح الوحيدة هي وحدها التي لها القوة على ميلاد (تجديد) أولاد الله ([32])، لأنها هي وحدها التي تملك ينابيع المياه الحية (يقصد التعاليم المحيية السليمة) ([33]).
ويتبع كبريانوس خط ترتليان في تأكيده أن وضع الأيادي بعد المعمودية يكمل بالضرورة طقس المعمودية لإعطاء الروح القدس ([34]). كذلك فإن كبريانوس يتبع خط ترتليان في كون الروح القدس هو مصدر الإلهام للأنبياء والرسل وكتابة الأسفار جميعاً ([35]).
هيبوليتس ([36]) (160-258م):
وإذ كان هيبوليتس أسقفاً على بورتس رومانو (ربما بعد رعاية إيرينيئوس لها فترة من الزمن) ([37])، قيل إنه كان أول أساقفة روما ثم ضخَّموا الأسقفية – إن كانت هي أسقفية روما – فقالوا بابا روما!! وقد فرح مؤرِّخو اللاتين بهذا الإلتباس في النساخة وقالوا إنه فعلاً بابا روما لأنهم اكتشفوا أخيراً جدًّا أن كتاباته في تقليد الرسل عن الليتورجيا يطابق ليتورجية روما، ثم إذ لم يجدوا ما يبرهنون به على صحة تزييف نسبته لروما قالوا إن بورتس رومانو كانت قرية بجوار روما؛ وللأسف أثبتت السجلات أنه لم توجد قط أسقفية بجوار روما بهذا الاسم ولا وُجِدَ بابا لروما بهذا الاسم، ولمَّا اكتشفوا في آثار روما كرسيًّا حجرياً وتمثالاً لا يحمل اسم هيبوليتس وبدون ذكر أي لقب بابوي عليه ولكن وجد على ظهر الكرسي مؤلَّفات هيبوليتس اعتبروا هذا دليلاً على صدق امتلاكهم لشخصية هيبوليتس، وقالوا بلاتينيَّتهُ ونسبته لروما. والحقيقة إن هذا العالم إسكندري الجنس وكان أسقفاً على عدن كل أيام حياته. وبسبب صراعه ضد بابا روما، وتصحيحه لهراطقة اثنين من هؤلاء الباباوات وبما أنه كان أيضاً أسقفاً على مدينة تحت الولاية الرومانية، اعتبروه رومانياً. وكان صراعه هذا ضد هرطقة البابا زفرينوس (199-217م) والبابا كالليستوس (217-222م)، كما قاوم انحراف البابا فابيانوس. وإن تسمية مؤلَّفات هيبوليتس الليتورجية باسم “نظام الإسكندرية في الرسامات القبطية” منذ أقدم العصور لهو دليل كافٍ لتدعيم علاقة هيبوليتس بالإسكندرية وليس بروما.
أمَّا كل ما يعرفه تاريخ العقيدة والإيمان عن علاقة هيبوليتس بروما فهو مهاجمة هيبوليتس لهرطقة زفرينوس وكالليستوس وفابيانوس باباوات روما، حيث كانت روما في ذلك الوقت هي مرتع ومهد هرطقة المونوأرخيزم ([38])، أي “منكري الثالوث” كما كتب أيضاً هيبوليتس ضد نوئيتس Noetus.
ولكن كتابات هيبوليتس عن الروح القدس جاءت قليلة، ولكنه أكَّد على لاهوت الروح القدس بوضوح حيث يقول:
[إنه يستحيل أن نمجِّد الله دون أن نتجه مباشرة إلى الاعتراف بكل أقنوم في الثالوث الأقدس. بواسطة هذا الثالوث يتمجَّد الآب].
[ونحن عن طريق تجسُّد الكلمة صرنا نعبد ونكرِّم (proskunoàmen) الروح القدس، كذلك فإنه يستحيل علينا أن نكوِّن فكرة عن الوحدة أو الوحدانية في الله إلاَّ بالإيمان بالآب والابن والروح القدس (كونهم في اتحاد مطلق).] ([39])
وهيبوليتس يدحض فكرة خضوع الروح القدس للمسيح بقوله:
[إن الآب أخضع كل شيء للابن المتجسِّد ما خلا الآب والروح القدس.] ([40])
ويهتم هيبوليتس بتحديد الصفة أو الوظيفة الخاصة للروح القدس في التدبير الإلهي بالإنارة أو الاستنارة هكذا:
لأن الآب هو الذي يأمر، والابن هو الذي يطيع، والروح القدس يوحِّد. لأن الآب أراد، والابن صنع، والروح أنار.] ([41])
كما يقول هيبوليتس أيضاً إن الأنبياء يظهرون دائماً مؤيَّدين بروح النبوَّة ومكرَّمين من جهة الابن الكلمة ذاته ([42])، وإن إلهامهم ينبع من قوة الآب:
ديونيسيوس الروماني (269م):
في احتجاجه ضد الذين انحرفوا نحو فصل الثلاثة أقانيم وضد مبادئ سابيليوس، أوضح ديونيسيوس الروماني عقيدته عن الروح القدس بالنسبة لعلاقته بأقنومي الآب والابن في الثالوث قائلاً إنه ينبغي أن لا نقسم الوحدة الإلهية القائمة في الثالوث إلى ثلاثة أقانيم منفصلة.
كنيسة الإسكندرية:
والآن نأتي إلى تعليم مدرسة الإسكندرية في ما يتعلَّق بالروح القدس:
كليمندس الإسكندري:
بالرغم من أن الكثير من مؤلفات كليمندس الإسكندري قد فُقدت، من بينها كتابان عن كل ما يتعلَّق بالتعاليم الخاصة بالروح القدس عن شخصه ومواهبه: الأول “عن النبوَّات”، والثاني “عن النفس”؛ غير أنه قد تبقَّى لنا أجزاء هامة قام بفحصها ونشرها العالِم كوتيلييه Cotelier، والتي يُظن أنها تتبع أحد هذين الكتابين المفقودين ([42])، وتدور حول معنى الانبثاق بالنسبة للروح القدس:
[مبارك الإنسان الذي عرف عطية الآب من خلال انبثاق الروح كلي القدس.[43]
[مبارك الإنسان الذي عرف وتقبَّل الروح القدس الذي هو عطية الآب الذي منحه على هيأة حمامة، الروح الذي بلا شائبة عديم الغضب والمرارة، الكامل المنطلق من – قلب – (أعماق) الآب. ليدبر الدهور ويعلن غير المنظور، فهو الروح القدس الحق الآتي من الآب الذي هو قدرته وإرادته، المستعلن لتكميل ملء مجده. أمَّا الذين ينالونه فإنهم ينطبعون بطابع الحق بكمال النعمة.] ([44])
وفي بقية أعمال كليمندس الإسكندري يعلن بوضوح لاهوت الروح القدس ([45])، حيث ينتهي كتاب المعلِّم بدعاء النعمة لتمجيد الآب والابن مع الروح القدس، وهو يفرِّق بين وحدانية الروح القدس وبين تعدُّد مواهبه.
كذلك فإن كليمندس يعتبر أن حضور الروح القدس في المؤمنين يشكِّل نوعاً جديداً من الطبيعة البشرية.
كذلك فإنه يصف مواهب الروح القدس الإلهية أنها هي العطر الذكي المكوَّن من الروائح السمائية التي يمنحها المسيح لأحبائه ([46]).
وكليمندس يقرن أحياناً بين الكلمة والروح حينما يتكلَّم عن إلهام الأنبياء ([47]).
كذلك فإن كليمندس يؤكِّد على دور الروح القدس في إنارة الكنيسة بصورة مستمرة وكذلك الأفراد فيها ([48]).
كما يضيف أن كل مَنْ يؤمن “بالكلمة” فإن نفسه تتحد بالروح القدس ([49]).
والإنسان العارف بالله بالحقيقة true gnostic هو المؤمن حقًّا والتلميذ بالفعل للروح القدس ([50])، وهو بهذا يتمكَّن أن يسبر أعماق الكتاب المقدَّس ويطَّلع على أعماق المعنى المخفي فيها بالإضافة طبعاً إلى اتِّباعه التقليد في ما يخص قانون الإيمان ([51]).
وكليمندس يشير إلى عمل الروح القدس في سلوك الكنيسة من نحو الماديات، ويربط بين أعمال الروح القدس وبين سر المعمودية فيقول:
[نحن المعمَّدين إذ قد تخلَّصنا من خطايانا التي كانت بمثابة ضباب يحجب نور الروح الإلهي، أصبحنا نملك عيناً روحية محرَّرة غير منطمسة ممتلئة نوراً، بها نحدِّق في الإلهيات، وصرنا منفتحين على خفايا الأسرار، والروح القدس ينسكب علينا من السماء.] ([52])
ويشرح كليمندس التدرُّج من درجة الموعوظين التي فيها تقود التعاليم المبدئية إلى الإيمان، والإيمان حينما تلحق به المعمودية يتهيَّأ لقبول تعاليم الروح القدس.
أمَّا في ما يختص بالإفخارستيا وعلاقتها بالروح القدس فهو يشير إلى هذه العلاقة ولكن يذكر أيضاً الكلمة، ولا يتضح تماماً ما إذا كان التقديس يتم بالروح القدس أو بالكلمة.
أوريجانوس:
كان أوريجانوس من بعد ترتليان أول مَنْ قام بمحاولة دراسة موضوع الروح القدس دراسة علمية.
وقد علَّم أوريجانوس بأن الروح القدس مساوٍ في الكرامة والمجد للآب والابن ([53]).
وأول مَنْ أكَّد بيقين أن الروح القدس منبثق من الآب انبثاقاً أزلياً، حاله كحال الابن ([54]).
وأن الروح القدس صالح صلاحاً كلياً ومطلقاً ([55]).
وأن عمل الروح القدس المميَّز غير عمل الآب والابن، فهو يختص بنفوس المؤمنين ([56]).
وأنه بالرغم من أن عطاياه متعدِّدة فجوهره واحد غير منقسم ([57]).
وأن الروح القدس العامل في الأنبياء في العهد القديم هو هو نفسه العامل في العهد الجديد في القديسين، غير أنه بعد الصعود صارت إرساليته ممتدة وشاملة ومتسعة ([58]).
والمؤمنون باشتراكهم في الروح القدس يصيرون روحيين وقديسين، والذي يشترك في الروح القدس يشترك في الثالوث، لأن الثالوث غير مفترق لأنه ليس هيولياً أي مادياً ([59]).
والقدرة على استخلاص المعاني الروحية العميقة بالإلهام يرجع إلى كون الكتب المقدَّسة مكتوبة بإلهام الروح القدس ([60]).
بل وإن كل حرف هو بمقتضى الحال يكشف عن أثر الحكمة الإلهية ([61]).
وللأسف فإنه بعد كل هذه التعبيرات عن لاهوت الروح القدس فإن كلاًّ من جيروم وإبيفانيوس يتهمان أوريجانوس بأنه قال إن الروح القدس مخلوق ([62])، بل والقديس باسيليوس كاد أن يصادق هو أيضاً على هذه التهمة بالنسبة لأوريجانوس ([63]).
وفي كتابات ديونيسيوس بابا الإسكندرية إلى سميِّه بابا روما توجد أقوال واضحة وتمنع أي مماحكة لأريوس الذي قال إنه يقتبس من ديونيسيوس الإسكندري – وقد أوردها القديس أثناسيوس في دفاعه عن البابا ديونيسيوس لإثبات صحة إيمانه.
[إن كل اسم من الأسماء الآب والابن والروح القدس غير منفصل قط عن ما يليه… لذلك حينما يُذكر الروح القدس فإني في الحال أتذكَّر انبثاقه من الآب بواسطة الابن فإن طبيعة الآب ليست غريبة عن الابن ولا يمكن أن يفترق الابن عن الآب والروح القدس فيهما (في أيديهما).] ([64])
ولا تخلو هذه الحقبة – نهاية القرن الثالث – من شاهد قوي لتقليد الكنيسة اللاهوتي بالنسبة لدرجة الروح القدس ولاهوته معاً، وهو ميثوديوسMethodius أسقف صور، الذي قال صراحة إن الروح القدس مساوي للآب في الجوهر ([65]).
– عن كتاب حقبة مضيئة في تاريخ الكنيسة، القديس اثناسيوس الرسولي، للاب متي المسكين.
([1]) Hahn, Bibliothek der Symbole, pp. 42,66; Geb. hardt, Patr., ap. opp. fasc. 1,2, p. 15 sq.
([2]) Athanas., Discourse III against Arian, ch. XXV, p. 407.
([3]) Athenagoras, Wisd. vii. 25; Legat. 10, 24; cited by D.C.B., p. 115.
([4]) Iren., I., 23, 30.
([5]) Iren., I. 2,4,5.
([6]) Athanasius ad. Serap., 1:10.
([7]) Neand., Ch. H., ii. 207; Epiph., Hear. 48, II sq.
([8]) Origen, in Joann., II, 6.
([9]) Hypolytus, IX. 12.
([10]) Athanas., Or. C. Ar., iv. 25.
([11]) Leontius, de sect 3; cited by D.C.B., p. 117.
([12]) Irenaeus, ad. Haer. ii, 19. 9.
([13]) Ibid., ii, 13, 5, 6.
([14]) Ibid., ii, 28.6.
([15]) Ibid., IV. 7. 4.
([16]) Ibid., IV. 7. 8.
([17]) Ibid., V. 12.
([18]) Ibid., V. 36.
([19]) Fragment, 36.
([20]) Syr. Fragment., D.C.B., p. 117.
([21]) Ibid., III, 24. 1.
([22]) Ibid., IV, 7. 2; IV, 9, 1; IV, 20. 4; cited by D.C.B., p. 117.
([23]) Ibid., III. 24. 1.
([24]) Ibid., III, 17, 82 & fragment 38, cited by Neander, Hist. of Dogma, 1. 231.
([25]) Tert., Against prax, 8.
([26]) Ibid., 4.
([27]) Ibid., 25.
([28]) Tert., De Baptismo., 8.
([29]) Cyprian, De Domin orat. 23.
([30]) Ibid., 34.
([31]) Cyprian, Epist. 69; 14.
([32]) Ibid., 79: 9.
([33]) Ibid., 75: 14.
([34]) Ibid., 73: 11.
([35]) Ibid., 73: 9.
([36]) Westcott, Study of The Gospels, pp. 429.
([37]) وهو تلميذ إيرينيئوس، والمسمَّى في المخطوطات القبطية “أبوليدس”، شرقي المولد، إسكندري الجنس وقد نسب خطأ إلى روما وأُعطي خطأ لقب بابا روما في المخطوطات القبطية. وذلك الالتباس أصله كلمة “بورتس رومانو” وترجمتها الحرفية المرفأ الروماني، وهو مرفأ عدن الآن، وكانت المرفأ الروماني الهام في مدخل البحر الأحمر. وقد قرأها النساخ الأقباط بورتس = الأول (خطأ)، رومانو = الروماني، فقرأوها “الأول” في أساقفة روما، ثم بابا روما ومع أن كلمة بورتس هي مرفأ وليس بروتو = الأول وسيصدر الكاتب نبذة تاريخية مفصَّلة ومدعَّمة بالحقائق التاريخية عن هيبوليتس كأسقف عدن وأصالته كعالم قبطي إسكندري.
([38]) انظر كتاب مخطوط مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة لابن كبر في ذكر كتاب اعتراف الآباء.
([39]) Rev. Henry Barcly Swete, D. C. B., p. 118.
([40]) Contra (Noetus 12-14) , cited by D.C.B., p. 118.
([41]) Ibid., 8.
([42]) Ibid., 14
([43]) Hypolytus, De Antichr. 2, cited by D.C.B., p. 118.
([44]) Ibid., Contra Noetus, ii, 12.
[45] D.C.B., p. 119
([46]) D.C.B., p. 119.
([47]) Clement of Alex., Paedagog., iii. 12.
([48]) Paedagog., 11. 8.
([49]) Westcott., Study of the Gospels, p. 435.
([50]) Clement., Strom., V. 13.
([51]) Ibid., II. 1-13.
([52]) Strom., V. 24; Paed., 1. 6.
([53]) Strom., VI. 15.
([54]) Paedag., 1. 6.
([55]) Paedag., ch. 2; ch. 47; cited by H.B. Swete, D.C.B., p. 119.
([56]) Origen, Princ., 1; praef.
([57]) Ibid., II. 2; ch. 1.
([58]) Ibid., I. 2; ch. 3.
([59]) Ibid., I. 3; ch. 5.
([60]) Ibid., I. 1; ch. 3.
([61]) Ibid., II. 7; ch. 1, 2
([62]) Hieron., epp. ad. Avit., ad. Pamm., et Ocean; Epiph., Haer. IXIV. 8.
([63]) Basil., De Sp. sanct, 29.
([64]) Athanas., De sent Dionys., 17..
([65]) Migne, Patr. Gr., XVIII 210, 351; cited by D.C.B., p. 120.