بما ان الشر موجود والمعاناة موجودة، فلا يمكن أن يوجد ألهُ محب – لي ستروبل
بما أن الشر موجود والمعاناة موجودة، فلا يمكن أن يوجد ألهٌ محب – لي ستروبل
<<إما ان الله يريد أن يمحو الشر ولا يستطيع، أو إنه يستطيع لكنه لا يريد، أو إنه لا يستطيع ولا يريد، فلو كان يريد ولا يستطيع، فهو عاجز. ولو كان يستطيع ولا يريد، فهو شرير. ولكن لو كان الله يستطيع ويريد، فما تفسير وجود الشر في العالم؟ >>
أبيقور، فيلسوف
<<إن حقيقة المعاناة تشكل بلا شك التحدي الاعظم الوحيد للأيمان المسيحي، وقد كانت هكذا في كل جيل. إن توزيعها ودرجتها تبدو أنها عشوائية تماماً، ومن ثم غير عادلة، فالأرواح الحساسة تتساءل ما إذا كان يمكن أن تتوافق مع عدالة الله ومحبته>>.
جون ستوت، لاهوتي (1)
وبصفتي محرراً شاباً يسعى للمثالية تخرَّج حديثاً من كلية الصحافة، كان أحد أول ما طُلب مني في صحيفة شيكاغو تريبيون هو أن أكتب سلسلة مكونة من 30 جزءاً أصور فيها العائلات المعدمة التي تعيش في المدينة. وبما إنني نشأت في الضواحي المتجانسة، التي يطلق فيها على من يمتلك سيارة كاديلاك واحدة <<إنساناً معوزاً>>، سرعان ما وجدت نفيسي غارقاً في دوامة أكثر مناطق شيكاغو المعرضة للحرمان ولليأس. بطريقة ما، كانت خبرتي مماثلة لرد فعل تمبلتون لصورة المرأة الافريقية مع طفلها الميت.
على بُعد مسافة قصيرة من Chicago Magnificent Mile، حيث يجاور برج تريبيون الحكومي stately Tribune Tower، متاجر الموضة الفخمة والفنادق الفاخرة، دخلت الكوخ الضيق المظلم الفارغ الذي تتشاركه بير فكتا perfecta de Jesus البالغة من عمرها الستين عاما مع حفيدتيها.
لقد عشن هناك ما يقرب شهر، ومنذ ذلك الحين تعرض مسكنهن السابق المستعمر بالصراصير للحريق.
كانت بيرفكتا – وهي ضعيفة سقيمة – قد مفذتْ نقودها قبل أسابيع، وقد تلقت كمية صغيرة من معونات أغذية الطوارئ. كانت تمد فترة الطعام بتقديم مجرد الارز والفاصوليا مع قطع من اللحوم وجبة بعد الاخرى. وسرعان من نفذتْ اللحوم، ثم الفاصوليا، وكان كل ما تبقى حفنة من الارز. وحينما جاءت أخيراً المعونة الحكومية المتأخرة، سرعان ما نفذتْ بدفع الايجار وفواتير الخدمات العامة، وعادت الاسرة من حيث بدأت.
كانت الشقة خالية تماماً تقريباً؛ بلا أثاثٍ أو أجهزة، أو سجاد. كانت الكلمات تتردد صداها خارج الجدران الباقية والارضية الخشبية الباردة. حينما انطلقت حفيدتها ليديا البالغة من العمر 11 عاماً في مسيرة نصف ميل الى المدرسة في الصباح الشتوي القارص، كانت ترتدي مجرد سويتر رمادي خفيف فوق فستانها الملون ذي الاكمام القصيرة. وفي منتصف طريقها الى المدرسة، كانت تعطي هذا السويتر الى لأختها جيني المرتعشة من البرد، والبالغ من عمرها 13 عاماً، التي ترتدي فستاناً بلا أكمام، وكانت جيني تلف السويتر حول جسدها لبقية الطريق. كانت هذه هي كل الملابس التي يملكنها.
شرحت لي بيرفكتا بالإسبانية: <<أحاول أن أعتني بالبنات بقدر ما أستطيع؛ فهن طيبات ولا يتذمرن>>. (2)
بعد ساعاتٍ، وبعد أن عدتُ بأمانٍ الى شقتي الفاخرة المطلة على البحيرة برؤية مثيرة لأغنى ضواحي شيكاغو، شعرتُ بالذهول للتناقض. لو كان هناك الله، فلماذا يشعر الناس الطيببون مثل بيرفكتا وحفيدتها بالبرد وبالجوع وسط واحدة من أعظم مدن العالم؟ يوماً بعد يوم بينما توليت البحث من أجل سلسلة مقالاتي، قابلت أناساً في ظروف مشابهة أو أسوأ من ذلك. وكانت استجابتي هي أن أتعمق في الحادي.
كان غذائي اليومي كصحفي المصاعب، والمعاناة، والحسرة، وقسوة الانسان لأخيه الانسان. وكان هذا لا يظهر في صور المجلات من أماكن بعيدة، ولكنه كان ألم الحياة اليومية بصورة شخصية.
نظرت في عيني أم شابة كانت قد أخبرت حالاً أن أبنتها الوحيدة تعرضت للتحرش والتشويه والقتل. أصغيت لشهادة المحكمة وهي تصف الاهوال المرعبة التي ارتكبت ضد الضحايا الابرياء. زرت السجون الفوضوية المفعة بالضجيج، وعشوائيات المجتمع، والحضانات ذات الميزانيات المنخفضة حيث كبار السن يتحسرون أن أحباءهم قد تركوهم، وعنابر مستشفيات الاطفال الضعفاء يحاربون دون جدوى ضد النمو العنيد للسرطان، والمدن الداخلية المشوشة بالجريمة حيث تجار المخدرات وأطلاق النار أمور عادية تماماً.
ولكن لم يصدمني شيء بقدر ما صدمتني زيارة لضواحي بومباي، الهند. فعلى طول جانبي الشوارع المزعجة القذرة المزدحمة، على مرمى البصر، كانت هناك أكواخ صغيرة من الخيش والكرتون. وكانت على يمين الطريق أتوبيسات وسيارات تطلق عوادمها وادخنتها. كان الاطفال العرايا يلعبون في خناق الصرف الممتدة عبر المنطقة. وكان الناس ذوي الاعضاء أو الاجسام المفقودة الذين تلتويهم التشوهات يجلسون في التراب في سلبية. كانت الحشرات تطنّ في كل مكان. لقد كان هذا منظراً مرعباً؛ ففي مكان ما قال لي سائق تاكسي أن الناس يولدون على جانب الطريق، ويعيشون حياتهم بأكملها على جانبي الطريق، ثم يموتون قبل الاوان على جانبي الطريق.
ثم قابلتُ وجهاً صبياً في العاشرة من عمره، تقريبا في نفس عمر أبني كايل في ذلك الوقت، كان الطفل هزيلاً سيئ التغذية، وكان شعره متسخاً متلبداً. كانت إحدى عيناه مريضة ونصف مغلقة، وكانت الاخرى تحملق بلا تعبيرات. كان الدم ينبثق من الضروس التي في وجههِ. مدَّ يده وتلعثم بكلمة بالهندية، بدا أنه يستعطف بها نقوداً. لكن صوته كان نغمة كئيبة لا حياةً فيها، كما لو كان لا يتوقع أي استجابة، كما لو كان قد فقد كل رجاء.
أين الله في تلك البقعة الفاسدة من الجحيم؟ لو كانت لديه القوة الفورية لشفاء ذلك الصغير، فلماذا أمتنع عن ذلك؟ لو كان يحب هؤلاء الناس، فلماذا لم يظهرُ لهم ذلك بأنفاذهم؟ وتساءلتُ قائلاً: <<هل هذا هو السبب الحقيقي: أن وجود مثل هذه المعاناة المرعبة التي تسحق القلب تبرهن فعلا على عدم وجود أب محب صالح؟ >>
فهم المعاناة
كل أنسان واجه الألم والحزن. فمرض القلب أدى الى وفاة أبي حينما كان يجب أن يعيش في سنوات طويلة كي يرى حفاده يكبرون. وأنا سهرتُ في وحدة العناية المركزة للمواليد حيث كانت أبنتي الجديدة تصارع مرضاً غامضاً هدد حياتها وأزعج أطباؤها. هرعت للمستشفى بعد مكالمة أليمة من صديق قام سائق سكير بضرب أبنتهِ، وكنتُ أمسك أيديهم في تلك اللحظة التي فاضت فيها روح الصغيرة. اضطرت أن أعلن الاخبار لطفلين صغيرين من أبناء إحدى صديقاتي، وهو أن امها قد انتحرت. رأيتُ رفاق الطفولة يستسلمون للسرطان، ولمرض Lou Gehrig، ولأمراض القلب، ولحوادث السيارات. رأيتُ الزهايمر وهو يسلب ذهن أحد الأطباء، أني متأكد أنه يمكنك أن تحكي قصصاً مشابهة من الألم الشخصي.
لقد انطلقنا مؤخرا من قرن غير مسبوق بقسوته وحشيته، حيثُ ضحايا الطغاة كهتلر، وستالين، وبول بوت، وماوتسي – تانج يقدر بعشرات الملايين. إن ضخامة القسوة تُخدرُ أذهاننا، لكننا عادة ما نقابل قصة تشخص الرعب وتجعلنا نرتعد من جديد.
مثال ذلك التقرير الذي كنت أقراه مؤخراً عن صحفي أيطالي خلال الحرب العالمية الثانية كان يزور بافيليك، قائد كرواتيا الموالي للنازية. فعرض له بافيليك متفاخراً سلة فيها ما يشبه المحار. وقال إنها كانت هدية من قواته-40 رطلاً من العيون البشرية. تذكار بسيط من مذبحتهم للعرب، واليهود، والغجر. (3).
نقرأ قصصاً مثل هذه – الشرور المرعبة كالهولوكوست، حقول كمبدوديا القاتلة، الابادة الجماعية في رواندا، وغرف التعذيب في أمريكا الجنوبية – ولا يسعنا إلا التساؤل: أين الله؟ نشاهد التغطية التلفزيونية للزلازل والاعاصير التي يموت فيها الالاف، ونتساءل: لماذا لم يمنع الله هذا؟ نقرا إحصائية إن ألف مليون أنسان في العالم يفتقدون احتياجات الحياة الرئيسية، ونتساءل: لماذا لا يهتم الله؟ ربما نعاني بأنفسنا من ألم متواصل أو خسارة مؤلمة أو ظروف يائسة على ما يبدو، ونتساءل: لماذا لا يساعدنا الله؟ لو كان الله محباً، ولو كان كلي القدرة، ولو كان صالحاً، فكل هذه المعاناة لن توجد بالتأكيد. ومع ذلك فهي موجودة.
والأسوأ من ذلك، أن الأبرياء غالباً ما يكونوا الضحايا. كتب اللا أدري الذي صار مسيحياً شيلدون فانوكين: <<لو كان الاشرار فقط هم الذين يصابون بآلام الظهر وبالسرطان، ولو كان الغشاشون والملتوون فقط هم الذين يصابون بمرض شلل الرعاش، لرأينا نوعاً من العدالة السماوية في الكون. >>
ولكن، كما هو الحال نرى طفلاً جميلاً متزنا يحتضر من ورم في المخ، وزوجة شابة سعيدة ترى زوجها وطفلها يقتلهما سائق سكير أمام عينيها، و….نصرخ من الاعماق الى النجوم: <<لماذا؟ لماذا؟ >> ولا يساعدنا ذكر الله – أو إرادة الله. كيف يمكن الإله صالح، الهٍ محب، أن يفعل ذلك؟
كيف يمكنه أن يسمح حتى بحدوثه؟ ولا أجابه تأتينا من النجوم اللامبالية. (4).
يفتتح الكاتب المسيحي فيليب يانسي كتابه الشهير عن المعاناة بفصلٍ له عنوان مناسب <<مشكلة لن ترحل بعيداً>> (5) ليس هذا مجرد موضوع معرفي للمناقشة في الساحة الاكاديمية العقيمة، لكنه أمرٌ شخصي تماماً يمكنهُ ان يربط عواطفنا، ويتركنا في دوار روحي – مرتبكين، مرتعبين، وغاضبين. أشار كاتب لمشكلة الالم بأنها <<علامة الاستفهام التي أصبحت كالخطاف في القلب البشري>> (6).
في الواقع، هذه أكبر عقبة وحيدة أمام الباحثين الروحيين. لقد فوضت جورج بارنا – مستطلع رأي عام – أن يقوم بعمل استفتاء محلي سأل فيه قطاعاً عريضاً من البالغين المختارين بطريقة عملية: <<لو أتيح لك أن تسأل الله سؤالاً واحداً، وعرفت أنه سيرد عليك، فماذا ستسأله؟ >> وكانت أعلى استجابة قدمها 17% ممن قالوا إن لديهم سؤالاً: هي:<<لماذا يوجد الألم والمعاناة في العالم؟ >> (7).
تشارلز تمبلتون أيضاً طالب بإجابة هذا السؤال. وقد بدا انسحابه من الأيمان إثر صورة تلك المرأة الافريقية – المنشورة في مجلة لايف – وهي تحمل طفلها الميت بسبب نقص بسيط في المطر. في كتابه الذي يستنكر المسيحية، يسرد تمبلتون سلسلة من المأسي من التاريخ القديم والحديث، ثم يُعلن:
<<إلهٌ محب>> لا مكنه ان يكون مصدر الأهوال التي كنا نصفها – الاهوال التي تستمر كل يوم، قد تواصلت منذ بدأ الزمان، وسوف تستمر على مدى الحياة. أنها حكاية لا يمكنها تصورها عن المعاناة والموت. والان الحكاية حقيقية، أي تمثل في الواقع تاريخ العالم، فمن الواضح أنه لا يمكن أن يوجد إلهٌ محب>>. (8).
لا يمكن؟ وهل وجود المعاناة يعني بالضرورة غياب الله؟ هل عقبة الأيمان هذه لا تقهر؟ لكي أؤمن من أعماق القلب بابٍ محب كلي القدرة، هل يلزمني ان أتجاهل حقيقة الشر والألم من حولي؟ كصحفي، ولم يكن هناك اختيار. اضطرت أن أهتم بكل الحقائق، وكل الادلة، دون أن أقلل من شأن شيء.
كنتُ أناقش هذه الموضوعات مع ليزلي في فترة حساسة من حياتها. كان عمها قد مات حالاً، وعمتها قد شخص لها بإصابتها بالزهايمر وبالسرطان المتأخر. وفيما كانت قد تأثرت بهذا الاضطراب، كانت متيقظة لأي أنسان يحاول أن يعطيها إجابات سهلة.
فحذرتْ قائلة: << لو أعتقد أي أنسانٍ أن بإمكانه ان يضع كل الامور في شكل منظم بسيط، ويُغلفه بتفسيرٍ لاهوتي جميل، فليذهب لمكان أخر>>.
علمتُ أنها كانت على حق. ولهذا رتبت مكالمة هاتفية لكلية بوسطن وطلبتُ تحديد ميعاد مع مؤلف كتاب <<فهم المعاناة>>
- وهو كتاب كان عنوانه يلخص تماماً ما كنتُ أسعى اليه.
اللقاء الاول: بيتر جون كريفت – دكتوراه في الفلسفة
أودُ أن أشير الى بيتر كريفت باعتباره <<اللافيلسوف>>. وهذا ليس معناه أنه ليس بفيلسوف، فهو في الحقيقة فيلسوف مفكر من الدرجة الاولى، إذ يحمل شهادة دكتوراه من جامعة فوردهام، ودراسات عليا في جامعة ييل، ولديه خبرة مدة 38 عاماً كأستاذ فلسفة في جامعة فيلانوفا، وجامعة بوسطن (منذ عام 1965). لقد حاضر مثل هذه المحاضرات كالميتافيزيقا، والأخلاق، والتصوف، والجنس، والفلسفة الشرقية، واليونانية، والمعاصرة، وفلسفة العصور الوسطى. وحصل على الكثير من الامتيازات كعضوية وودر ويلسون، وييل- ستيرلنج.
ومع ذلك، فلو كنت بصدد أن تستحضر لذهنك صورة عقلية لفيلسوف تقليدي، فمن المحتمل ألا يخطر كريفت على بالك.
فألفلاسفة يتخيلهم الاخرون بشكل عام على أنهم مملين قليلاً، ويتكلمون في جملٍ غامضة ومعقدة، ساكنين في الابراج الاكاديمية العاجية المنعزلة، وحادين لدرجة العناد.
على النقيض من ذلك، يعطي كريفت إجابات واقعية حقيقة بأسلوب مُلفت وممتع، وهو يتواصل بوضوح، غالباً بتكرار مشهور لجمل معينة، ويتمتع بابتسامة عريضة، ولا يمكنه أن يمنع نفسه من ألقاء النكات حتى عن أقدس الموضوعات، ورغم أنه في الثانية والستين من عمره، إلا أنه يمكنه أن يوجد باستمرار على أي شاطئ وهو يمارس هواية التجذيف (في كتاب لاحق له، سيكون أحد عناوين فصولهِ <<أنا أجذف، إذاً أنا موجود>>.
كتب كريفت وهو كاثوليكي يقرأه البروتستانت أيضا على نطاق واسع-أكثر من 40 كتاباً بما فيها <<ألحب أقوى من الموت>>؛ السماء: أعمق أشتياقات القلب؛ الصلاة: الحوار العظيم؛ دحض النسبية الأخلاقية؛ دليل الدفاع المسيحي (مع رونالد تاسيللي). إن خياله النافذ واضح بشكل خاص في كتابه <<بين السماء والجحيم>> الذي يُصوَّر سي إس لويس، وجون ف.كينيدي، الدس هكسلي بعد الموت يتجادلون حول المسيح، وفي كتابه <<سقراط يقابل يسوع>> الذي يصير فيه المفكر القديم مسيحياً في كلية لاهوت هارفارد.
لمست روح دعابة كريفت غير العادية حتى قبل أن ادخل مكتبهِ. فبينما كانت أبواب المكاتب الستة عشرة الاخرى قاتمة اللون، والممر خافت الاضاءة غير مجهولة المعالم، كان مكتب كريفت مزيناً بكارتون دونسبيري & ديلبرت وتذكارات أخرى فكاهية – رسم ثور مطعون بضربة، صورة ألبرت أينشتاين وهو يُخرج لسانه في مرح، كرتون فيه يُحيي الشيطان الناس في الجحيم قائلاً: <<ستجدون أنه لا يوجد صواب أو خطأ هنا – فقط ما يُناسبكم>>.
كان ما جذبني الى كريفت هو كتابه النافذ عن المعاناة، والذي ينسج فيه بمهارة رحلة استكشافية من خلال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو؛ ومن خلال أوغسطينوس، وكيركيجارد، وديستوفسكي؛ ومن خلال سلسلة أفلام رحلة عبر النجوم Start Trek، وقصة الاطفال <<الارنب المخلمي The velveteen Rabbit، وهاملت؛ ومن خلال موسى، وأيوب، وأرميا. وطول الطريق هناك مفاتيح الحل التي تلتقي أخيراً وحتماً عند يسوع ودموع الله.
وصلتُ مبكراً وانتظرته في المدخل. وسرعان ما وصل منتعشاُ من اجتماع فلسفي كان قد عُقدَ في مكان ما في بوسطن. وكان معطفه البني الصوفي، ونظارته السميكة، وشعره الرمادي الاسمر المُرتب قد منحاه مظهراً أبوياً. جلس خلف مكتبهِ (وأمامه لوحة تقول: <<لا للكآبة>>، وبدأنا بالثرثرة العادية حول فريقه المحبوب بوسطن ريد سوكس – وهو موضوع مناسب لموضوعنا عن المعاناة!
لكني أنداك غيرت مساري. فلم يكن هناك مدخلٌ أخر إلا أن اواجه كريفت باعتراضات تمبلتون الحادة ضد المسيحية المتمثلة في تلك الصورة المنشورة في مجلة لايف Life؛ والتي تُصوَّر أماً متحسرة تحمل طفلها الميت في أفريقيا المنكوبة بالجفاف.
دب، وفخ، وصياد، والله
بمواجهة كريفت بنفس الحدة الانفعالية التي صوَّرها لي تمبلتون، وصفت له الصورة، ثم اقتبست كلمات المُبشر السابق كلمةً كلمة:
فكرتُ قائلا: <<هل من الممكن أن أؤمن بوجود خالق محب أو مهتم بينما كان كل ما تحتاجه هذه المراة هو المطر؟ كيف يمكن الإله محب أن يفعل هذا لتلك المرأة؟ مَنْ يُجري المطر؟ لا أنا، ولا أنت، بل هو – أو هذا ما كنتُ أعتقد. لكنني حينما رأيتُ هذه الصورة، عرفت على الفور أنه من غير الممكن أن يحدث هذا طالما أن هناك ألهاً محباً. ولم تكن هناك طريقة. مَنْ سوى عدو يمكنه أن يفني طفلاً ويقتل أمه بالعذاب – بينما كل المطلوب هو المطر؟ ثم بدأتُ أنا…مفكراً في الامراض التي تحصد أجزاء واسعة من كوكب الارض وفي النهاية تقتل بلا تمييز… قد أصبح من الواضح جداً بالنسبة لي أنه من غير الممكن لإنسانٍ ذكي أن يؤمن أن هناك إلهاً يُحب.
تطلعتُ من بين مذكراتي. فتثبتتْ عينا البروفسور عليَّ. وفيما واجهتهُ بقوةٍ، منحنياً الى الامام وأنا في مقعدي باحثاً عن تأكيدٍ، قلتُ في نغمةٍ أشد أتهاماً: << د. كريفت، أنت أنسانٌ عالم وتؤمن بإلهٍ يحب. فكيف ترد على تمبلتون؟ >>
سعل كريفت لتنقية صوته. وبداً قائلاً: <<أولاً سأُركز على كلماته التي تقول: <<من غير الممكن>>، فحتى ديفيد هيوم – أحد أشهر المتشككين في التاريخ – قال إنه من الممكن أن يكون الله موجوداً بالكاد. وهذا على الاقل وضعٌ عقلاني نوعاً ما – أن نقول إن هناك أمكانية بسيطة على الاقل. ولكن أن نقول لا أمكانية لوجود أله محب يعرف أكثر جداً مما نعرف، بما فيه مستقبلنا، يمكن أن يتساهل مع مثل ذاك الشر الذي يراه تمبلتون في أفريقيا – حسناً، فهذا سيشير إلى أنني متكبرا معرفياً. >>
صدمني هذا. فسألته: <<حقاً>> كيف هذا؟ >>
فسألني: << كيف يمكن لمجرد أنسانٍ محدود أن يتأكد أن الحكمة اللامحدودة لا تسمح بشرورٍ معينة قصيرة المدى في سبيل خيرات طويلة المدى لم نستطع ان نتنبأ بها؟
استطعت أن أفهم ما يقصده، لكني أردتُ مثالاً. فالتمست قائلاً: <<وضح قليلاً. >>
فكر كريفت للحظةٍ وقال: <<فكر في الامر هكذا، هل توافق بأن الاختلافات بيننا وبين الله أعظم من اختلاف بيننا وبين الدب مثلاً؟
فأومأّتُ رأسي موافقاً. فقال: <<حسناً إذاً، تخيل دباً واقعاً في فخ، وهناك صيادٌ – من واقع شفقتهِ – يريد أنه يحُرّره. يحاول الصياد أن يكسب ثقة الدب، لكنه لا يستطيع، ولهذا يضطر أن يصطاده بمادة مخدرة. ومع ذلك فإن الدب يحسب هذا هجوماً عليه، وأن الصياد يحاول قتله. ولا يدرك أن هذا كله بدافع الشفقة.
<<ولذلك، لكي يُخرج الصياد الدب من الفخ، عليه أن يدفعه أكثر داخل الفخ حتى يخفف من توتر الدب المتحفز. ولو كان الدب واعياً وعياً متوسطاً في تلك المرحلة، فسوف يكون أكثر اقتناعا أن الصياد هو عدوه الذي أنطلق ليسبب له المعاناة والألم.
ولكن الدب سيكون على خطأ، فهو يصل لذلك الاستنتاج الخاطئ لانه ليس أنساناً.
سمح كريف أن يتردد صدى المثال للحظات. وأستنتج قائلاً: <<وألان، كيف يمكن لأي أنسان أن يكون متأكدا ان هذا ليس تشابها جزئياً بيننا وبين الله؟ أؤمن أن الله يفعل نفس الشيء لنا أحياناً، ونحن لا نفهم لماذا يفعل ذلك – كالدب الذي لا يفهم دوافع الصياد. فكيف كان للدب يمكنه أن يثق بالصياد، هكذا يمكننا نحن أن نثق بالله>>.
الإيمان والتحيز
توقفتُ لافكر في فكرة كريفت، لكنه واصل حديثهُ قبل ان أجيب.
فقال: <<ومع ذلك، فأنا لا أريد بالطبع أن أحط من قدر تمبلتون. فهو سيستجيب بأسلوب أمين جداً ومفعم بالمشاعر لحقيقة أن هناك شيئاً يُحسب ضد الله. فالإيمان يمكنه أن يوجد فقط في عالمٍ يكون فيه الايمان صعباً. أنا لا أؤمن بأن 2+2=4 أو بشمس الظهيرة؛ فهذه أمور خارج المناقشة. لكن الكتاب المقدس يصف الله كاله مُحتجب. عليك أن تقوم بمجهود أيماني حتى تجده. هناك مفاتيح يمكنك أن تتبعها.
<<ولو لم تكن الامور هكذا، لو كان شيء أكبر أو اقل من مفاتيح الحل، فمن الصعب بالنسبة لي أن أفهم كيف يمكننا حقاً أن نتحرّر لعمل اختيار بخصوصهِ. لو كان لدينا دليل قاطعٌ بدلاً من مفاتيح الحل، فلا يمكنك فيما بعد أن تنكر الله أكثر من أنكارك الشمس. ولو لم يكن لدينا دليلٌ على الاطلاق، فلن تصل أبداً. الله يعطينا مجرد الدليل الكافي حتى أن الذين يريدونه يكون لهم. أولئك الذين يريدون أتباع مفاتيح الحل سيفعلون ذلك.
يقول الكتاب المقدس: <<اطلبوا تجدوا>>(9) إنه لا يقول إن كل أنسان سيجده، ولا يقول إنه لن يجده إنسان. بل بعض سيجدون. فمن هم؟ مَنْ يطلبون. أولئك الذين قلوبهم مكرَّسة للعثور عليه، وأولئك الذين يتبعون مفاتيح الحل>>.
فقلت فجأة: <<مهلاً، فمنذ قليل صَرَّحتَ أن <<هناك شيئاً يحسب ضد الله>>، وأن الشر والمعاناة أدلة ضده. ألا تُسلمِّ إذاً أن الشر يبرهن على عدم وجود الله؟ >> ضربتُ يدي على مكتبهِ، وصرختُ بسخرية الانتصار قائلاً: <<انتهت القضية! >>
فتراجع كريفت قليلاً أثر ثورتي وصمم قائلاً وهو يهز رأسهِ: <<لا، لا، أولاً لا يمكن أن يكون الدليل بالضرورة مؤكداً أو حاسماً. فأنا أقول إن هناك دليلاً ضد الله ودليلاً مع الله. أوغسطينوس عبرَّ عن ذلك بمنتهى البساطة: <<لو لم يكن هناك الله، فلماذا هناك الكثير جداً من الخير؟ ولو كان هناك الله، فلماذا يوجد الكثير جداً من الشر؟ >>.
<<لا جدال أن وجود الشر حُجة ضد الله، لكنني في أحد كتبي أُلخص 20 حجة تشير بأقناع في الاتجاه الاخر، في صالح وجود الله. (10) لابدَّ على الملحدين أن يردوا على البشرية الحجج كلها، وعلى المؤمنين أن يردوا على حجة واحدة فقط. ومع ذلك، فكل منا عليه ان يدلي بصوتهِ. الايمان عامل يتطلب استجابة. وعلى عكس العقلانية التي تنحني في خضوع للدليل، فأن الايمان متحيز. >>
أثارتني هذه الكلمة الاخيرة، فسألته: <<ماذا تعني ب <<متحيز؟ >>
فأجابني: <<أفترض أن رجال شرطة دخلوا هذه الغرفة وقالوا إنهم قد أمسكوا للتو زوجتي وهي تقتل 13 فرداً من الجيران بقطع رءوسهم، وأن لديهم شهوداً، يمكنني أن اسخر منه قائلاً: <<لا، لا يمكن أن يكون هذا، أنت لا تعرفها كما أعرفها أنا. >> فيقول: <<أين دليلك؟ >> فأجيبه: <<أنه دليل من نوع مختلف عن دليلك أنت. ولكن هناك دليل أن هذا لا يمكن أن يكون قد حدث>>. وهكذا فأنا متحيز.
<<ومع ذلك، فأن تحيزي هو تحيزٌ معقول لأنه مبني على دليل الذي حصته من نفس خبرتي الواقعية. ولذلك فأن من يعرف الله يملك الدليل – ومن ثم يتحيز بناءَّ على هذا الدليل الذي يملكه من لا يعرف الله>>.
الشر كدليل في صالح الله
توقف كريفت عدة ثواني قبل أضافة تلك الاشارة غير المتوقعة والمضادة للحدس: <<بالإضافة الى ذلك، فأن دليل الشر والمعاناة يمكنه أن يسير في كلا الاتجاهين – ففي الواقع يمكنه أن يستخدم في صالح الله>>.
انتصبت في جلوسي وتساءلت: <<هل هذا معقول؟ >>
فقال كريفت: <<فكر في هذا: لو كان تمبلتون على حق بالاستجابة لهذه الاحداث بثورة، فسوف تكون تلك الافتراضات المسبقة حقاً اختلاف بين الخير والشر. إن حقيقة أنه يستخدم معيار الخير للحكم على الشر – أي حقيقة أنه يقول بكل حق إن هذه المعاناة المرعبة ليست ما يجب ان يكون – معناها أن لديه مفهوماً عما يجب أن يكون، وأن هذا المفهوم يقابل شيئاً واقعياً؛ هذه الحقيقة أسمها الخير الاسمي. حسناً، أنها أسماً أخر الله Supreme Good>>.
بدا هذا الكلام وكأنه براعة فلسفية. وفي حرص لحضتُ فكرة كريفت كي أرى ما أن إذا كنتُ قد فهمتها. وسألتهُ: <<هل تقصد أن تمبلتون من الممكن أن يشهد – دون أن يدري – عن حقيقة الله، لأنه بتعريف الشر يفترض بالتالي أن هناك معياراً موضوعياً يبني عليهِ؟ >>
فأجبني: <<هذا صحيح. فلو أعطيتُ طالباً 90 درجة وأخر 80، فهذا يفترض مسبقاً أن المائة درجة هي المعيار الحقيقي. وهذه فكرتي: لو لم يكن هناك الله، فمن جئنا بمعيار الخير الذي يحكم به على الاشرار بأنه شرٍ؟ >> والأهم – كما قال موسى سي أس لويس – لو كان الكون رديئاً جداً…فكيف يمكن للبشر من نسب ذلك لعمل خالق حكيم صالح؟ >> وبأسلوب آخر، فأن وجود هذه الافكار نفسها في عقولنا – مثل فكرة الشر، والافكار الخاصة بالخير، والله كمصدر ومعيار الخير – تحتاج تفسيراً>>.
قلتُ تأملاً: <<نعم، لو لم يكن هناك الخالق، ومن ثم لا توجد لحظة خلق، يكون كل شيء نتيجة التطور. لو لم تكن هناك بداية أو عَلة أولى، فلا بدَّ أن يكون الكون قد وُجَدَ على الدوام. وهذا معناه أن الكون كان يتطور لمدة لانهائية من الزمن – وبهذه الخطة يكون كل شيء مكتملاً تماماً. وكانت ستكون هناك الوفرة من الوقت للتطور. ولكن ما زال الشر والمعاناة والنقص موجوداً – وهذا برهان أن الملحد مخطئ بخصوص الكون>>.
فقلتُ: <<ربما يكون أجابه سهلة، ولو جاز التعبير، أجابه رخيصة. فالإلحاد رخيص بالنسبة للناس، لأنه يقول باستعلاء ان تسعة عشرة اشخاص عبر التاريخ كانوا مخطئين بخصوص الله وكانت لديهم أكذوبة في أعماق قلوبهم.
فكر في الامر. كيف يمكن أن 90% من كل البشر الذين عاشوا عبر العصور – أحيانا في ظروفٍ أشد ألماً من ظروفنا نحن – استطاعوا أن يؤمنوا بالله؟ إن الدليل الموضوعي، أي مجرد النظر الى معيار المتعة والمعاناة في العالم، لا يبدو أنه يُبرِّر الايمان بالهٍ صالح تماماً. لكن هذا ما أؤمن به على مستوى العالم تقريباً.
<<هل كلهم مجانين؟ حسناً، أعتقد أنه يمكنك ان تؤمن بذلك لو كنتَ من الصفوة نوعاً ما. ولكن ربما -مثل ليو تولستوي – يكون علينا ان نتعلم من الفلاحين. ففي سيرته الذاتية، يتصارع مع مشكلة الشر. لقد رأى أن الحياة فيها من المعاناة أكثر من المتعة، وفيها الشر أكثر من الخير؛ ومن ثم فقد كانت تبدو بلا معنى. كان يائساً جداً حتى أنه حاول قتل نفسه. وقال إن لم يعرف كيف يمكنه تحمل ذلك.
ثم قال: <<مهلاً، فمعظم الناس يتحملون حقاً، معظم الناس يعيشون حياة أشد قسوة من حياتي، ومع ذلك يجدونها رائعة. كيف يمكنهم ذلك؟ لا بالتفاسير، بل الايمان.>> لقد سمع من الفلاحين ووجد الايمان والرجاء. (11).
<<ولذلك فالإلحاد يعامل البشر بأسلوب رخيص. وهو أيضا يسلب المعنى من الموت. فلو كان الموت بلا معنى، فكيف يكون للحياة أخيراً معنى، أن الإلحاد يُرّخص كل ما يلمسه. أنظر الى نتائج الشيوعية – أقوى صور للإلحاد الموجودة على الارض.
<<وفي النهاية، حينما يموت الملحد ويقابل الله بدلاً من العدم الذي يتوقعهُ، فسوف يعرف ان الإلحاد كان أجابه رخيصة لأنه فرض الشيء الوحيد الغير رخيص – إله القيمة اللانهائية. >>
مشكلة منطق
لقد أطلق كريفت بعض النقاط المبدئية الشيقة، لكننا كنا نتأرجح حول الموضوع قليلاً، وقد آن أوان تسوية الامور. باستخراج بعض النقاط التي كتبتها في عجالةٍ في الطائرة، تحديثُ كريفت بسؤالٍ بلور المناظرة.
قلتُ: <<المسيحين يؤمنون بخمسة أمورٍ: أولاً أن الله موجود؛ ثانياً أن الله كُلَّي الصلاح؛ ثالثاً: أن الله كُلَّي القدرة؛ رابعاً: أن الله كُلَّي الحكمة؛ خامساً: أن الشر موجود. والان، كيف يمكن أن تكون كل هذه الامور صحيحة في نفس الوقت؟ >>
ارتسمت ابتسامة غامضة على وجه كريفت، وقال: <<يبدو أنها لا يمكن أن تكون كذلك. أتذكر واعظاً متحرراً حاول مرة أن يبعدني عن متابعة الأصوليين. وقال لي: <<توجد مشكلة منطقية هنا – فأنت يمكنك أن تكون ذكياً، أو شريفاً، أو أصوليا، أو أي من اثنين أو الثلاثة، ولكن ليس الثلاثة معاً. وقال صديقي الاصولي: <<سأقول لك، يمكنك أن تكون شريفاً، أو ذكياً، أو متحرراً، أو اي من الاثنين، ولكن ليس الثلاثة كلها>>.
ضحكت بسماع القصة، وقلت: <<لدينا نفس نوع المشكلة المنطقية>>.
فقال: <<نعم يبدو أنه عليك أن تطرح جانباً أحد هذه المعتقدات. فلو كان الله كُلَّي القدرة، فهو يمكنه كل شيء. ولو كان كُلَّي الاصلاح، فهو يريد الخير وحده. ولو كان كُلَّي الحكمة، فهو يعرف ما هو الخير. وهكذا لو كانت كل هذه المعتقدات صحيحة – وأن المسيحيون يؤمنون بصحتها – فيبدو أن النتيجة هي الشر لا يمكنهُ أن يوجد. >>
فقلتُ: <<لكن الشر موجود حقاً، أليس من المنطقي إذن أن نفترض أن مثل هذه الإله غير موجود؟ >>
فقال: <<لا، فسوف أقولُ لك إما أن تكون أحد هذه المعتقدات عنه الخاطئة، أو أننا لابدَّ أننا لانفهما بالطريقة الصحيحة>>.
آن أوان الاستكشاف؛ فدعوتُ كريفت بسرعة لفحص هذه الصفات الإلهية الثلاث: الله كُلَّي القدرة، كُلَّي الصلاح، وكُلَّي المعرفة – واحدة في كل مرة في ضوء وجود البشر.
الصفة الأولى: الله كُلَّي القدرة
تساءل كريفت: <<ماذا نقصد حينما نقول إن الله كُلَّي القدرة؟ >> ثم أجاب: <<هذا معناه أنه يمكنه أن يفعل كل شيء له معنى، كل شيء ممكن، كل شيء يُشكَّل معنى بوجه عام. الله لا يمكنه أن يجعل نفسه يتوقف عن الوجود. ولا يمكنه أن يجعل الخير شراً. >>
فقلتُ: <<لذلك فهناك بعض الاشياء التي لا يمكن أن يقوم بها الله رغم إنه كُلَّي القدرة. >>
فأجاب: <<في وضوح، لأنه الله كُلَّي القدرة، لا يمكنه القيام ببعض الاشياء. لا يمكنه ارتكاب الاخطاء. فالكائنات الغبية الضعيفة فقط هي التي تخطئ. واحد من هذه الاخطاء هو محاولة خلق معارضة ذاتية مثل 2+2=5 أو عمل مربع دائري.
<<والان، فإن الدافع الكلاسيكي عن الله ضد مشكلة الشر هو إنه من غير الممكن منطقياً أن تكون لدينا حرية الارادة وعدم إمكانية الشر الأخلاقي، وبأسلوب أخر، ذات مرة أختار الله أن يخلق البشر بحرية إرادة، فكان الاختيار يعود إليهم أكثر مما يعود الى الله فيما يخص وجود الخطية من عدمهِ. هذا هو معنى حرية الارادة. إن فرصة الشر، ومن ثم المعاناة الناتجة عن ذلك، مبنية في موقف الله وهو يقرر أن يخلق البشر>>.
<<إذاً الله هو خالق الشر؟ >>
<<لا، لقد خلق الله إمكانية الشر، والناس قاموا بتفعيل هذه الإمكانية. مصدر الشر ليس قوة الله بل حرية البشر. فحتى الله كُلَّي القدرة لم يمكنه أن يخلق عالماً تكون فيه للناس حرية أصلية، ومن ثم لا تكون هناك أمكانية للخطية؛ وذلك لان حريتنا تتضمن أمكانية الخطية بمعناها الطبيعي. أنها معارضة ذاتية – عدم العدم – أن يكون هناك عالم يكون فيه اختيار حقيقي بينما لا تكون فيه – في نفس الوقت – أمكانية اختيار الشر. وأن تسأل لماذا لم يخلق الله مثل هذا العالم هو أن تسأل لماذا لم يخلق الله لوناً لا لون له، أو لماذا لم يخلق مربعات دائرية>>.
<<إذن لماذا لم يخلق الله عالماً بلا حرية إنسانية؟ >>
<<لأن هذا سيكون عالماً بلا بشر. هل يمكن وجود مكان بلا كراهية؟ نعم. مكان بلا معاناة؟ نعم، ولكنه سيكون أيضاً مكاناً بلا محبة، التي هي أعلى قيمة في الكون. الخير الاسمي لا يكون قد أختبر أصلاً. المحبة الحقيقة – محبتنا الله ومحبتنا لبعضنا البعض – لابدَّ ان تتضمن اختيارا. ولكن بمنح هذا الاختيار، تأتي إمكانية أن الناس يختارون أن يكرهوا بدلاً من ذلك. >>
فقلتُ له: <<ولكن أنظر الى سفر التكوين؛ فألله خلق عالماً كان فيه الناس أحراراً ومع ذلك لم تكن هناك خطية. >>
فقال كريفت: <<وهذا تماماً ما قاله. فبعد الخلق، أعلن أن العالم كان <<حَسَنٌ>>. كان الناس أحراراً لاختيار أن يحبوا الله أو يتحولوا عنهُ. ومع ذلك، فمثل هذا العالم هو بالضرورة مكان تكون فيه الخطية ممكنة بصورةٍ حرة. وفي الواقع فهذه الامكانيات لارتكاب الخطية لم يُفعلها الله، بل البشر. وأخيراً فإن اللوم يقع علينا. الله قام بما عليه تماماً، ونحن الذين أخطأنا. >>
فأشرتُ قائلاً: <<إن الحاخام هارولد كاشنر يصل الى خاتمة مختلفة في كتابه الاكثر مبيعاً <<عندما تحدث الاشياء السيئة للأخيار>>؛ فهو يقول <<إن الله ليس كُلَّي القدرة بعد كل هذا – وأنه يريد أن يساعد، لكنه ليس قادراً على حل كل المشكلات في العالم. وقال: <<حتى الله لديه وقت عصيب يتحكم فيه في الفوضى. >> (12)
فرفع كريفت حاجبهُ قائلاً: <<بالنسبة للحاخام، هذا الامر يصعب فهمهُ، لأن المفهوم اليهودي المميز حول الله هو عكس ذلك. والأمر المثير ضد الدليل يبدو هو أن اليهود قد صمموا أن هناك إلهاً كُلَّي القدرة، ومع ذلك ليس كُلَّي الصلاح.
<<لا يبدو أن الامر الآن مقنعاً كالوثنية التي تقول انه لو كان الشر مقصوداً في العالم، فلا بدَّ أن تكون هناك آلهة عديدة، كل منها اقل من كونها كلية القدرة، بعضها صالح، وبعضها شرير، ولو كان هناك ألهٌ واحد، فهو يواجه قوى لا يمكنه أن يتحكم فيها تماماً. وقد كانت هذه فلسفة شائعة جداً حتى أعلان اليهودية عن الإله الحقيقي. >>
فقلتُ مُوَّجهاً كلامي كجملة أكثر منها سؤال: <<أنت لا تؤمن كثيراً بإله كوشنر. >>
فأجبني وهو يهز كتفيه: <<بصراحة، هذا الإله يصعب الايمان به. فهل يكون لديّ اخ أكبر يفعل ما يستطيع ولكن ليس كثيراً؟ حسناً، من يهتم؟ >> في واقع الامر هذا هو نفس معنى الالحاد. أعتمد على نفسك أولاً وبعد ذلك يمكن أن يكون هناك الله او لا يكون.
<<لا، فالدليل هو أن الله كُلَّي القدرة. وما يجب أن نتذكره هو أن خلق عالم تكون فيه حرية الارادة وعدم أمكانية الخطية وهو معارضة ذاتية – وهذا يفتح باب للناس لاختيار الشر بدلاً من الله، وتكون المعاناة هي النتيجة. أن الأغلبية الساحقة من الألم المستشري في العالم سببه اختيارنا للقتل، والتشهير، والأنانية، والجموح الجنسي، وكسر وعودنا، والتهور. >>
الصفة الثانية: الله هو كُلَّي المعرفة
طلبتُ من كريفت أن ينتقل للصفة الالهية التالية – كلية معرفة الله – فضبط جلستهِ للشعور بمزيد من الراحة، وأتجه ببصره الى الجانب كما لو كان يستجمع أفكاره من جديد.
وقال: <<لنبدأ هكذا: بما أن الله كُلَّي الحكمة، فهو يعرف لا الحاضر فقط، بل المستقبل أيضاً. ولا يعرف خير وشر الحاضر فقط، بل خير وشر المستقبل أيضاً. وبما أن حكمته تسبق حكمتنا كثيراً – كما أن حكمة الصياد تسبق حكمة الدب – يكون من الممكن على الاقل، وعلى خلاف تحليل تمبلتون، أن يتساهل إله محب عمداً مع الامور المرعبة كالمجاعة لأنه يرى أنه على المدى الطويل سيكون المزيد من الناس أفضل وأسعد مما لو كان قد تم التدخل في الامور بصورة معجزيه. هذا ممكن عقلياً على الاقل.
فقلتُ وأنا أهز رأسي: <<لا يزال هذا صعب القبول، فهو يبدو كمراوغة بالنسبة لي؟ >>
فرد كريفت قائلاً: <<حسناً، إذاً لنختبر هذا. أنت تعلم أن الله قد بين لنا بكل وضوح وبشكل خاص كيف يمكن أ، يعمل هذا. وشرح لنا كيف ان اسوأ شيء حدث في تاريخ العالم. >>
<<ماذا تقصد؟ >>
فأجبني أشير إلى موت الله dei – cide؛ أي موت الله على نفسهِ على الصليب. في نفس الوقت لم ير إنسان كيف يمكن أن ينتج شيئاً طيباً من هذه المأساة. ومع ذلك فقد رأى الله مسبقاً أن النتيجة ستكون انفتاح السماء للبشر. وهكذا فأن أسوأ مأساة في التاريخ جاءت بأمجد حدث في التاريخ. وبما أن هذا قد حدث من قبل – بما أن منتهى الشر يمكنه ان ينتج منتهى الخير – يمكنه أن يحدث أيضاً في أي مكانٍ آخر؛ حتى في حياتنا الشخصية. وهنا يرفع الله الستار ويدعونا كي نراه. وفي مكانٍ آخر يقول ببساطة: <<آمنو بي. >>
<<كل هذه معناه أن الحياة الانسانية درامية بصورة لا تُصدَّق، مثل قصة لا تعرف نهايتها بأكثر صيغة علمية. في الواقع، لنتبع خط هذه القصة الدرامية لمدة قصيرة.
<<أفترض أنك الشيطان. أنت عدو الله وتريد أن تقتلهُ، لكنك لا تستطيع. ومع ذلك، فهو لديه نقطة الضعف السخيفة هذه لخلق ومحبة البشر – أولئك الذين تستطيع أن تسيطر عليهم. آها! ألان حصلت على رهائن! وهكذا تنزل ببساطة الى العالم، وتفسد الجنس البشري، وتسحب بعضاً منهم الى الجحيم. وعندما يرسل الله الانبياء لتنويرهم، فأنت تقتل الانبياء.
<<ثم يقوم الله بعمل أكثر الامور حماقةً على الاطلاق – يرسل أبنه الوحيد ويتلاعب بقواعد العالم. تقول لنفسك: <<لا يمكنني أن أؤمن أنه بمثل هذا الغباء! لقد أفسدتْ المحبة عقله! كل ما علىّ هو أن الهم بعضاً من عملائي – هيرودس، وبيلاطس، وقيافا، والجنود والرومان – وأجعله يُصلب>>. وهذا ما تريده.
<<وهكذا يُعلَّق هناك على الصليب – متروكاً من الانسان – ومتروكا-كماً يبدو – من الله ينزف حتى الموت، ويصرخ قائلاً: <<إلهي إلهي لماذا تركتني؟ >> ماذا تشعر الان باعتبارك الشيطان؟ وتشعر بالانتصار وتبرئه ساحتك! لكنك بالطبع لم يكن من الممكن أنت تكون أكثر خطأ. فهذا هو أعظم انتصاراته وأقسى هزائمك. لقد سحق عقبة فمك، وأنت تراهن هذا الدم قد حطمك.
<<والآن، لو لم يكن هذا حدث استثنائي، بل نموذجا للموقف البشري، إذاً عندما ننزف نحن أو نعاني – كما عانى المسيح – فمن المحتمل أن يكون نفس الشيء هو الذي يحدث. ربما تكون هذه هي طريقة الله لهزيمة الشيطان.
<<في وقت الصلب، لم يقدر التلاميذ أن يروا كيف يمكن أن ينتج أي شيء صالح. وهكذا عندما نواجه الصراعات والتجارب والمعاناة، لاً يمكننا أن نتخيل أحياناً أن نتخيل أحياناً ظهور الخير. لكننا رأينا كيف كان ذلك في حالة يسوع، ويمكننا أن نؤمن بحدوث ذلك في حالتنا أيضاً، على سبيل المثال، يبدو أن معظم المسيحين في التاريخ يقولون إن معاناتهم قد انتهت بجعلهم أكثر اقترابا إلى الله – ولذلك فهذا هو أفضل شيء يمكن أن يحدث، وليس أسوأ شيء. >>
الصفة الثالثة: الله كُلَّي الصلاح
وصلنا بذلك الى صفة صلاح الله.
بدأ كريفت: <<الصلاح>> كلمة يُساء فهمها بشكل كبير، لأنه حتى في العلاقات البشرية هناك مثل هذا المدى الواسع للمعنى. لكن الفرق – مرة أخرى – بيننا وبين الله أعظم حقاً بيننا وبين الحيوانات، وحيث أن الصلاح يتنوع بشكل كبير بيننا وبين الحيوانات، فلا بدَّ أنه يتنوع بشكل أكبير بيننا وبين الله. >>
فقلتُ: <<موافق، لكنني لو بقيت ساكناً ولم أفعل شيئاً بينما طفلي قد دهسته شاحنة، لا أكون صالحاً بأي معنى كلمة. سأكون أباً شريراً لو فعلت هذا. والله يفعل مرادف ذلك. فهو يبقى ساكناً ويرفض أداء المعجزات لأنقاذنا من الاخطاء التي هي أقسى حتى من مجرد أصابه شاحنة. لذلك لماذا لا يكون شريراً؟ >>
فأومأ كريفت قائلاً: <<يبدو أنه كذلك، لكن حقيقة الله يسمح عمداً بأشياء معينة – التي لو سمحنا نحن لحولتنا الى وحوش – لا تحسب بالضرورة ضد الله.
فلم أفهم حجتهِ، فقلتُ له: <<ستضطر لشرح ذلك. >>
فأجابني: <<حسناً، لأقل لك تشابهاً لذلك في العلاقات البشرية: لو قُلت لأخي الذي يقارب عمري: يمكنني أن أنقذك من مشكلة، ولكني لن أنقذك، فمن المحتمل أن أكون بذلك متساهلاً وربما شريراً. ولكننا نفعل هذا مع أطفالنا طوال الوقت. فنحن لا نقوم بعمل الواجب لهم. ولا نحاول أن نحميهم من كل أذى.
<<أتذكر حينما كانت إحدى بناتي في الرابعة أو الخامسة، وكان تحاول أن تضع خيطاً في أبره وهي في جمعية الكشافة Brownies. كان هذا صعب للغاية بالنسبة لها؛ فقد حاولت طوال الوقت، وجرحت أصبعها، ونزفت مرتين. وكنتُ أراقبها، لكنها لو تراني. لقد حاولت مراراً.
<<كانت غريزتي الأولى هي أن اذهب وأفعل ذلك من أجلها لأنني رأيت قطرة من الدم. لكنني بحكمة تراجعت لأنني قلت لنفسي: <<يمكنها أن تفعل ذلك>>. وبعد حوالي خمس دقائق، فعلتْ ذلك أخيراً. فنهضتُ من مكان اختبائي وقالتْ ليٍ: <<أبي، أبي، أنظر ما فعلته! أنظر ما فعلته! >> كانتْ فخورة جداً أنها وضعتْ الخيط في الابرة حتى أنها قد نست كل الالم.
في ذلك الوقت كان الالم جيداً بالنسبة لها. لقد كنتُ حكيماً لدرجة أنني تنبأتُ أنه سيكون جيداً لها. وألان بالتأكيد فإن الله أكثر حكمة مما كنتُ أنا مع أبنتي. وهكذا من الممكن على الاقل أن يكون الله حكيماً لدرجة أنه يتنبأ أننا بحاجة لبعض الالم لأسباب ربما لا نفهمها، لكنه يرى أنها ضرورية للخير أخيراً. وهكذا لا يكون الله شريراً عندما يسمح بوجود الألم.
<<إن أطباء الاسنان، والمدربين الرياضيين، والعلمين، والآباء يعرفون جميعاً أنه أحياناً ما يكون الشيء الصالح يكون رقيقاً. فبالطبع هناك أوقات يسمح فيها الله بالمعاناة ويحرمنا من أقل مقدار من المتعة كي يصل بنا الى أعظم مقدار للتعلم الروحي والأخلاقي. وحتى اليونانيون القدماء آمنوا أن الالهة علمتهم الحكمة من خلال المعاناة. فقد كتب أسخيلوس:
<<يوم وراء يوم، ساعة وراء ساعة يقطر الالم على الفؤاد تماماً كما تأتي <<الحكمة>> من نعمة الله المرهبة على خلاف إرادتنا، وحتى في كراهيتنا. >>
<<نحن نعرف أن الشخصية الأخلاقيةُ تشكَّل من خلال المشقات، والتغلب على العقبات، واحتمال المصاعب المؤذية. فالشجاعة مثلاً ستكون مستحيلة في عالم بلا ألم. وقد شهد الرسول بولس عن خاصية التقنية تلك التي تقوم بها المعاناة عندما كتب: <<نَفْتَخَرُ أيْضاً فَي الضِّيقَاتَ عَالَمَينَ أنَّ الضِّيقَ يُنْشَىُ صَبْراً وَالصَّبْرُ تَزْكَيَةَ وَالتَّزْكَيَةُ رَجَاءَّ>>. (13)
<<لنواجه الامر: نحن نتعلم من الاخطاء التي نصنعها والمعاناة التي تجلبها. إن الكون آلة صانعة للنفس، وجزء من هذه العملية هي التعلم والنضج، والنمو من خلال الخبرات المؤلمة الصعبة المثيرة للتحدي، وهدف حياتنا في هذا العالم ليس الراحة، بل التدرب والاستعداد الى للأبدية. يقول لنا الكتاب المقدس أن يسوع بنفسهِ: <<مَعَ كَوْنَهَ ابْناَّ تَعَلَّمَ الطاعَةَ مَمَّا تَأَلمَ بَهَ. >> (14) – وإن كان هذا حقيقي بالنسبة له، فلماذا لا يكون أكثر حقيقة بالنسبة لنا؟ >>
لقد جعل كريفت السؤال يتردد في الهواء للحظات بينما نشطتْ ملكاته العقلية، ثم أستطرد قائلاً: <<أفترض أنه لم تكن لدينا معاناة على الاطلاق. أفترض أنه كانت لدينا عقاقير لكل ألم، ومتعة حرة، وحب حر – كل شيء ماعدا الألم. لا شيكسبير، ولا بيتهوفن، ولا بوسطن ريد سوكس، ولا موت – ولا معنى، فسوف نصير أطفالاً صغاراً مُدّللين بشكلٍ رهيب.
<<ويكون الامر مثل ذلك العرض التلفزيوني القديم Twilight zone، حيث تطلق النيران على عصابة سارقي البنوك، وواحد منها ينهض ماشياً على سحب رقيقة عند البوابة الذهبية لمدينة سماوية. ويقدم له أنسانٌ رقيق لابساً رداءً أبيض كل ما يريده. لكن سرعان ما يمل من الفتيات الجميلات، اللاتي يضحكن فقط عندما يحاول أيذائهن، لان لديه نزعة سادية.
<<ولذلك يستدعي صورة القديم بطرس.
<<لا بدَّ أن هناك خطأ ما. >>
<<لا؛ فنحن لا نخطى هنا. >>
<<ألا يمكنك أن تعديني إلى الارض؟ >>
<<بالطبع لا، فأنت ميت. >>
<<حسناً، إذاً، لابدَّ أن أتبع أصدقائي في المكان الاخر. أرسلني إلى هناك. >>
<<أوه، لا، لا يمكننا ذلك، فأنت تعرف القواعد. >>
<<ما هو هذا المكان على أي حال؟ >>
<<هذا هو المكان الذي تحصل فيه على كل ما تريده. >>
<<ولكني اعتقدت أنني أريد السماء. >>
<<السماء؟ من قال شيئاً عن السماء؟ فالسماء هي المكان الآخر. >>
الفكرة من وراء هذا هي أن عالماً بلا معاناة يبدو كالجحيم أكثر من كالسماء. >>
فسألته قائلاً: <<هذا يبدو مبالغاً فيه. هل تؤمن بذلك حقاً؟ >>
<<نعم، أؤمن، ففي الحقيقة – لو لمن تؤمن بذلك – فتظاهر إذاً أنك أنت الله، وحاول أن تخلق عالماً أفضل من خيالك. حاول أن تخلق المدينة الفاضلة. لكن عليك أن تفكر في نتائج كل شئ تحاول أن تُحّسنه. فكل مرة تستخدم فيها القوة لمنع الشر، فأنت تسحب الحرية. ولكي تمنع كل الشر، لابدَّ أن تزيل كل الحرية وتُحوِّل البشر الى دمي، وهذا معناه أنهم سيفتقدون القدرة لاختيار الحب طوعاً.
<<يمكنك أن تختتم الامر بخلق عالم من الدقة يمكن أن يحبه مهندس – ربما. ولكن هناك شيء أكيد: فسوف تفقد نوع العالم الذي يريده <<الآب>>.
بوق الألم
دليل بدليل، كان كريفت يُلقي المزيد والمزيد من الضوء على سر المعاناة. ولكن كل فكرة جديدة بدتْ أنها تثير أسئلة جديدة.
فقلتُ: <<الأشرار يفلتون من عقاب إيذاء الآخرين طوال الوقت. وبالطبع لا يعتبر الله ذلك عدلاً. فكيف يمكنه أن ينهض ويراقب كل هذا؟ ولا يتدخل ويتعامل مع كل الشر الموجود في العالم؟ >>
فأصر كريفت قائلاً: <<الاشرار لا يفلتون من العقاب. فتأخر العدلة ليس معناه بالضرورة امتناع العدالة. سيأتي يوم يطالب في الله حساباً، ويكون فيه الناس مسئولين عن الشر الذي ارتكبوه والمعاناة التي سببَّوها ونقد الله لأنه لا يفعل ذلك حالاً مثل قراءة نصف رواية ونقد مؤلفيها لأنه لم يحل حبكتها الدرامية. الله سيُسّوى الحسابات في الوقت المناسب. ففي الواقع يقول الكتاب المقدس سبباً واحداً وهو أنه يتأخر لأن بعض الناس مازالوا يتبعون الادلة ومازال عليهم أن يجدوها. (15) فالله يُمهل حقاً اختتام التاريخ بسبب محبته العظمى لهم. >>
فسألته: <<ولكن في نفس الوقت، ألا يزعجك مقدار المعاناة الرهيب في العالم؟ ألا يمكن الله أن يقلل على الاقل بعضاً من الشرور الاكثر ترويعاً؟ صاغ فيلسوف حُجه ضد الله هكذا: <<أولاً، ليس هناك سبب يُبرِّر سماح الله بالكثير جداً من الشر. ثانياً، لو كان الله موجوداً، فلابد أن يكون هناك سبب. وثالثاً، الله غير موجود. >>
فتعاطف كريفت مع المشكلة، لكنه لم يقبل هذا الحل. وقال: <<هذا يشبه القول إنه من المعقول أن نؤمن بالله لو مات 6 من اليهود في مذبحة وليس 7، أو لو مات 60000 وليس 6000 وواحد. أو لو مات 6 مليون إلا واحد ليس 6 مليوناً. وعندما تترجم الجملة العامة <<كثيراً جداً>> إلى أمثلة خاصة مثل هذا، فأنها تبين كم هي سخيفة. لا يمكن أن يكون هناك حد فاصل.
حقيقي أن هناك بعض الحالات تصير فيها الكمية كيفية. على سبيل المثال غليان الماء: فحالما درجة الحرارة 212 درجة، تصل لمرحلة جديدة وهي الغاز؛ ومن هنا تنطبق قوانين الغاز، لا قوانين السائل. لكن المعاناة ليست هكذا. ففي هذه النقطة. وبالإضافة إلى ذلك، لأننا نحن لسنا الله، فنحن لا يمكننا أن نقول كم مقدار المعاناة المراد. فربما يكون كل عنصر منفرد من الألم في الكون ضرورياً. كيف نعرف؟ >>
فضحكت ضحكة خافتة قائلاً: <<أفترض أن شخصاً سيقول: <<بما إنني أتعرض للألم، فهذا معاناة كثيرة جداً في العالم! >>
فضحكتُ كريفت متعجباً: <<آه بالطبع! هذه هي المقولة الشخصية <<كثيراً جداً>>. هذه حالة كلاسيكية من التشبيهية. فلو كنت أنا الله، لما سمحت بهذا الألم الكثير، الله لا يمكنه أن يتفق معي، الله سمح بهذا الألم، ومن هنا لا يوجد الله. >>
فقلتُ: <<لقد قلت منذ لحظات إن بعض الألم يمكنه أن يكون ضرورياً. وهذا يشير إلى أن هناك معنى للمعاناة، فلو كان الأمر كذلك، فما هو؟
فقال: <<كان أحد أغراض المعاناة في التاريخ هو أنها تقود الى التوبة. فبعد المعاناة فقط، وبعد الكارثة فقط، رجع شعب إسرائيل في العهد القديم، وترجع الامم ويرجع الافراد الى الله. مرة أخرى لنواجه الامر: نحن نتعلم بالطريقة الصعبة. يقول سي أس لويس: <<الله يهمس لنا في مسيراتنا، ويتكلم في ضميرنا، لكنه يصرخ في الأمنا. فالألم هو بوق الله لأيقاظ عالم أصم. >> (16) وبالطبع فأن التوبة تقود الى شيء رائع – هو البركة، لأن الله هو مصدر كل الفرح وكل الحياة. وتكون النتيجة هي الخير – في الواقع مما هو أفضل من الخير.
ببساطة، أؤمن أن المعاناة منسجمة من محبة الله، لو كانت علاجية شافية ضرورية، وهذا لو كنا مرضى تماماً ونحتاج علاجاً بدرجة شديدة. وهذا مو موقفنا. قال يسوع: <<لاَ يَحْتَاجُ الاَصَحَّاءُ إلَىَ طبَيبٍ بَلَ المَرْضَى. لَمْ آتَ لأدْعُوَ أبْرَاراً بَلْ خطأة إَلَى التَّوبَةَ. >> (17)
فأشرت قائلاً: <<لكن الصالحين يعانون بنفس المقدار – أو أحياناً بمقدار أكبر من الأشرار. هذا هو المثير تماماً حول عنوان كتاب كوتشنر <<عندما تحدث الاشياء السيئة للأبرار>>. فكيف يكون هذا عدلاً؟ >>.
فأجاب كريفت: <<حسناً، إجابة هذا هو أنه لا يوجد صالحون؟ >>
<<فماذا إذاً عن ذلك القول القديم: <<هل يعمل الله أي شيء بلا جدوى؟ >>
<<نعم، نحن صالحون وجودياً – فنحن ما زلنا نحمل صورة الله – لكننا لسنا صالحين أخلاقياً. فقد تشوهت صورة الله فينا. قال النبي أرميا: <<لاَنَّهُمْ من صَغيَرهَمْ إلَىَ كَبَيَرهَمْ كُلُّ وَاحَد مُولَعٌ بَالرَّبْحَ>> (18)، وقال النبي إشعياء: <<وَقَدْ صَرْنَا كُلُّنَا كَنَجَس وَكَثَوْبَ عَدَّة كُلُّ أَعْمَالَ بَرَّنَا وَقَدْ ذَبُلْنَا كَوَرَقَةٍ وَأَثَامُنَا كَرَيحٍ تَحْمَلُنَا>> (19).
إن أعمالنا الصالحة مُلطخة بالمصلحة الذاتية، ومطالبنا للعدالة مختلطة بالشهوة للانتقام. والمفارقة هي أن هؤلاء هم أقل الناس الاكثر استعدادا لمعرفة نقائصهم وخطاياهم والاعتراف بها.
<<نحن أخيار وقد صرنا أشرار، تحفة مشوهة، طفل متمرد. أشار لويس إلى أننا لسنا مجرد شعب ناقص يحتاج النمو، بل متمردين نحتاج أن نخفض أذرعنا. الألم والمعاناة غالباً ما تكون الوسائل التي نصير بها متحفزين للخضوع النهائي الله وطلب علاج المسيح.
<<هذا هو ما نحتاجه بالأكثر. وهذا هو ما سيأتي لما بالفرح الأسمى لمعرفة يسوع. فأية معاناة جديرة بهذه النتيجة، وعظماء المسيحين عبر التاريخ سيقولون لك هذ>>.
احتمال الألم
ضبطتُ جلستي في المقعد وتأملت فيما قاله كريفت حتى الان. كانت بعض حُججهِ أقوى من الاخرى، لكنه على الأقل لم يكن. يقدم مجرد تفاسير مُغلَّقة؛ فقد كان يبدو أن مفاتيح الحل تقود إلى مكانٍ ما.
قرَّرتُ أن أسأله عن قولٍ لأوغسطينوس يقول: <<بما أن الله هو الخير الاسمي، فأنه لا يسمح بأي شرٍ أن يوجد في أعماله إن لم تكن كلية قدرته وصلاحه في سبيل أن تأتي بالخير حتى من قلب الشر. >> وبعد أن قرأتُ له هذه الكلمات تساءلتُ: <<هل هذا معناه أن المعاناة والشر يحتويان على الامكانية لعمل الخير؟ >>
فأجبني: <<نعم، فأنا أؤمن تحتوي على الاقل على فرصة عمل الخير، لكن ليس كل إنسان يُفعَّل هذه الإمكانية. ليس كل منا يتعلم ويستفيد من المعاناة، ومن هنا تأتي حرية الإرادة. سجينٌ في أحد المعسكرات الأشغال الشاقة سيتصرف باختلاف تامٍ عن آخر، بسبب الاختيار الذي يقوم به كل منهما للاستجابة للبيئة المحيطة.
<<ولكن حالما يكون لأي أنسان أن يتأمل في ماضيه ويقول: <<لقد تعلمت من هذه المشقة. لم أعتقد أنني سأتعلم ذلك حالياً، لكنني أنسانٌ أكبر وأفضل لأنني احتملتُ ذلك وبقيتُ>>. وحتى الناس الذين بلا أيمان سيكونون واعين بهذا البُعد من المعاناة. ولو استطعنا أن نأتي بالخير من الشر حتى دون أن نُدخل الله في الموضوع، فيمكنك أن تتخيل كم بالأحرى – لمعونة الله – يمكن أن يعمل الشر لصالح الخير الأعظم. >>
ومع ذلك أثارَ إدخال الله الى الموضوع قضيةً أخرى: <<لو كان الله يحب البشر، فكيف يتساهل عاطفياً مع الهجوم المتواصل للألم والمعاناة؟ ألا يسحقه هذا؟ سحب كتاب تمبلتون وقرأت لكريفت هذا الجزء:
قال يسوع: <<أليس خمسة عصافير تباع بفلس ولا أحد منسياً أمام الله؟ أنتم أفضل من عصافير كثيرة؟ >> لكن أن كان الله يحزن لموت عصفور، فكيف تحتمل روحه الابدية المرض، والمعاناة، وموت الملايين المضاعفة من الرجال والنساء والأطفال والحيوانات والطيور والمخلوقات الحسية الاخرى، في كل بقعة من العالم، وفي كل قرن منذ بدأ الزمان؟ (20)
فقال كريفت: <<أعتقد أن السيد تمبلتون يشبه الله بقول: <<لم أكن أتخيل كيف يمكن لأي كائن ذكي أن يحتمل هذا. >> نعم، أنه على حق – فنحن لا يمكننا أن نتخيل هذا. لكننا نستطيع أن نؤمن به. والله في الحقيقة يبكي على كل عصفور ويحزن على كل شر وكل معاناة. ولذلك فإن المعاناة التي أحتملها المسيح على الصليب لا يمكن تخيلها حرفياً. فهي ليست مجرد ما اختبرته أنت أو أنا في أقصى عذاباتنا البشرية، جسدياً أو عقلياً، لكن كل معاناة العالم كانت هناك.
<<لنعود إلى صورة تمبلتون عن المرأة المكلومة في أفريقيا بينما كان كل ما تحتاجه هو المطر. أين الله؟ لقد كان يدخل في عذابها، لا عذابها الجسدي فقط، بل أيضا عذابها الأخلاقي. أين الله؟ لماذا لا يرسل المطر؟ وإجابة الله هي التجسد. لقد دخل بنفسه قلب هذا العالم كله، وأحتمل بنفسه كل ألم هذا العالم، وهذا أمر لا يمكن تصوره، وهو أكثر تأثيراً من القوة الإلهية التي خلقت العالم في المقام الاول.
<<تخيل فقط أن كل ألم منفرد في تاريخ العالمٍ، قد تجمع معاً في شكل كرة، وقد أكلها الله، وهضمها، وذاقها تماماً إلى الأبد. في فعل خلق العالم، لم يقل الله <<لتكن إشراقات، وزهور، وأرانب صغيرة جميلة فحسب، بل قال أيضاً: <<لتكن دماء، وأحشاء، وذباب يطنّ حول الصليب. بمعنى ما تمبلتون على حق. فألله أساساً متداخل في خلق عالم من المعاناة. لكنه لم يفعل ذلك – بل نحن – ومع ذلك فقد قال: <<ليكن هذا العالم. >>
<<ولو كان قد فعل ذلك ثم أسترح قائلاً: <<حسناً، إنه خطأكم على أي حال>> -ورغم أنه سيكون له الحق تماماً بفعل ذلك – فلا أرى كيف يمكننا أن نحبه. إن حقيقة أنه أنطلق فيما وراء العدالة وبشكل لا يُصدَّق تماماً آخذاً كل المعاناة على نفسه تجعله رائعا لدرجة أن إجابة المعاناة ستكون – تفحصتْ عينا كريفت أنحاء الغرفة كما لو كان يبحث عن الكلمات المناسبة، فقال <<لدرجة أن أجابه المعاناة ستكون… كيف لا تحب مَنْ ذهب الميل الثاني، من مارس أكثر مما بشر، مَنْ دخل عالمنا، من عانى آلامنا، من يقدَّم نفسه في وسط أحزاننا؟ ماذا يمكنه أن يفعل أكثر من ذلك؟ >>
<< فقلتُ: <<بصراحة، فإن إجابة سؤال تمبلتون عن كيف يحتمل الله كل هذه المعاناة هي – لقد عانى هو. >>
فهتفتَ كريفت: <<لقد عانى هو! إن أجابه الاله لمشكلة المعاناة هي أنجاز بنفسه المعاناة. فكثيرٌ من المسيحين يحاولون أن يُخرجوا الله من موضوع المعاناة، أما الله فقد جاز بنفسه المعاناة على الصليب. ومن هنا فإن الخاتمة العلمية هي إنه لو أردنا ان نكون مع الله، فعلينا أن نكون مع المعاناة، وعلينا ألا نتجنب الصليب، لا بالفكر ولا بالفعل. لابدَّ أن نذهب حيثما يوجد الله، والصليب هو أحد الاماكن التي يوجد عندها الله. وحينما يرسل لنا الله الشروق، فنحن نشكره عليه. وعندما يرسل لنا الغروب، والموت، والمعاناة، والصليب، فنحن نشكره عليه أيضاً. >>
فأنتصبتُ قائلاً: <<هل هذا معقول حقاً أن نشكر الله على الألم الذي يصيبنا؟ >>
<<نعم، في السماء سنفعل ذلك تماماً. سنقول الله: <<شكراً جزيلاً من أجل هذا الألم البسيط الذي لم أفهمهُ في أوانه، ومن أجل ذاك الألم البسيط الذي لم أفهمه في أوانه، فألان أفهم أن هذه كانت أثمن الاشياء في حياتي.>>
<<وحتى لو لم أجد نفسي قادراً شعورياً أن أفعل ذلك الآن، حتى لو لم أقدر بأمانة أن أقول الله في وسط الألم: <<يا الله، أشكرك من أجل هذا الألم>>، بل أقول بدلاً من ذلك: <<نجني من الشر>>، فهذا حسنٌ تماماً وأمينٌ تماماً – لكني أؤمن أن هذه ليست هي الكلمة الاخيرة. فالكلمات الأخيرة من الصلاة الربانية ليست <<نجنا من الشرير>>، لكنها <<لك القوة والمجد. >>
<<أعتقد أن اي مسيحي ناضج يمكنه أن ينظر الى حياته، ويُحدَّد بعض لحظات المعاناة التي تجعله أكثر قرباً إلى الله مما كان يعتقد. وقبل أن يحدث هذا، كان يقول: <<لا أرى حقاً كيف يحقق هذا أي خير على الاطلاق، لكن بعدما يخرج من المعاناة يقول: <<هذا مدهشً. لقد تعلمت شيئا لم أكن أتصور أنني كنت سأتعلمه. لم أعتقد إن أراداتي المتمردة الضعيفة ستكون قادرة بمثل هذه القوة، لكن الله – بنعمته – أعطاني القوة. فلولا المعاناة، لما كان ذلك ممكناً. >>
<<الاقتراب الى الله، التشبه بالله، المتلائم مع الله، لا مجرد الشعور بالاقتراب أب الله، بل الاقتراب الوجودي الحقيقي إلى الله، تشّبه النفس بالله – كل هذا ينتج عن المعاناة بفاعلية ملحوظة. >>
فقلتُ: <<لقد ذكرت السماء، والكتاب المقدس يتحدث عن معاناتنا في هذا العالم بأنها خفيفة ووقتية مقارنة بما سنختبره تابعو الله في السماء. فكيف تلعب السماء دورها في هذه القصة كلها؟ >>
اتسعت عينا كريفت وقال: <<لو لم يكن الأمر هكذا، لكان من الصعب وجود قصة. تجاهل كل الاشارات التي تدل على السماء من العهد الجديد، وسوف ترى القليل جداً من المتبقي. قالت القديسة تيريزا Saint Teresa: <<في نور السماء، فأن أسوأ معاناة على الارض، وحياة مليئة بأقسى العذابات على الارض، سوف ترى وكأنها ليست أخطر من ليلة واحدة في فندق غير مريح. >>هذه جملة تثير التحدي أو حتى الخيال! لكنها لم تتكلم من أطار حياة فارغة يعيش فيها الكثيرون جداً منا، لكنها تكلمتْ من إطار حياة مليئة بالمعاناة.
<<يستخدم الرسول بولس كلمة مفرطة أخرى في سياق مشابه حينما يقارن المسرات الارضية بمسرة معرفة المسيح. فقد قال إن امتيازات المواطنة الرومانية، وأن تكون فريسياً أبن فريسي، وأن تكون متعلماً جيداً، ومن جهة الناموس بلا لوم – كل هذا <<نفاية>> مقارنة بمعرفة المسيح – (21) وهذه كلمة صريحة جداًّ!
وبالمثل، مقارنةً مع الله أبدياً، ومقارنة مع الاُلفة مع الله التي يدعوها الكتاب المقدس زوجاً روحياً، فلا شيء آخر يهم. لو كان الطريق إلى ذلك هو من خلال العذاب، حسناً، فالعذاب لا شيء مقارنة بذلك. نعم إنه شنيع في حد ذاتهِ، لكنه لا شيء مقارنة بذلك.
<<ولذلك فأن إجابة تمبلتون هي: نعم، أنت ايضاً على حق تماماً عندما تقول إن صورة تلك المرأة الافريقية لا تُطاق. فنقص المطر هذا، وتلك المجاعة لا تطاق حقاً في حد ذاتها. وبمعنى ما، فأن الاجابة ليست أن نحلها، لكن الاجابة هي أن ننظر الى وجه الله ونقارن هذين الشيئين.
<<على الجانب الاول من الميزان هذا العذاب أو كل عذابات العالم، وعلى جانب الاخر وجه الله، الله الموجود لكل من يطبله وسط ألمهم. أن خير الله، وفرح الله سيفوق أخيراً كل المعاناة، وحتى أفراح هذا العالم. >>
قوة حضور الله
سعدتُ أن كريفت قد أعاد الحوار حول المرأة صاحبة صورة تمبلتون. لم أرد أن يبتعد عنها اللقاء كثيراً. فلقد شخصَّتْ هذه المرأة قضية المعاناة، وهي تقف كممثلة ادعاء قوية عن محرومي العالم البالغ عددهم مليار إنسان.
قلتُ لكريفت: <<لو كانت هذه المرأة هنا حالياً، فماذا كنتَ ستقول لها؟ >>
فقال ببساطة دون تردد: <<لأشيء>>.
فنظرتُ مندهشاً دون أن أصدق” <<لا شيء؟ >>
فقال: <<لا شيء في البداية على أي حال. سأدعوها أن تتحدث إلىّ. فمؤسس إحدى المنظمات المعوقين يقول إنه يعمل مع المعاقين لسبب أناني للغاية: وهو أنهم يعلمونه شيئاً أقيم بكثير جداً مما يمكنه أن يعلمهم إياه – وهذا الشيء هو من يكون هو. هذا يبدو عاطفياً لكنه حقيقي.
<<أن واحدة من أطفالي الاربعة معاقةً بدرجة متوسط، وقد تعلمتُ منها أكثر مما تعلمتهُ من الثلاثة الأخرين. تعلمت أنني معاق بدوري، وأننا جميعاً معاقين، والأصغاء إليها يساعدني أن افهم نفسي.
<<وهكذا فإن الشيء الاول الذي نحتاج أن نقوم به مع هذه المرأة هو أن نستمع أليها. أن نكون واعين بها. أن نرى ألمها. أن نشعر بألمها. نحن نعيش في وضع نسبي من الراحة، وننظر الى الألم كشيء مراقب، كلغز فلسفي، أو كمشكلة لاهوتية. وهذه هي الطريقة الخاطئة في النظر الى الألم. الشيء المطلوب مع الألم هو اجتيازه، والتوحد معه، ومن ثم التعلم منه.
هذه ظاهرة لاحظها الكثير من الكتاب. فبعد بحث طويل في موضوع المعاناة كتب فيليب يانسي قائلاً: <<فيما زرتُ أناساً فاق المهم ألمي بمراحل…اندهشت لتأثيراته. >> (22) وقال اللاهوتي الإسكتلندي جيمس ستيوارت: <<إن المتفرجين الذين يراقبون المأساة من الخارج هم الذين يخرج منهم المتشككون، وليس من الذين هم حقاً في ساحة المعاناة ويعرفونها من الداخل. حقاً، فأن الحقيقة هي أن أعظم من عانوا في العالم هم الذين قدَّموا بأنفسهم أروع أمثلة الإيمان الذي لا يقهر. >> (23)
فسألت كريفت: <<لماذا؟ >>
فكانت أجابه واضحة: <<حرية الإرادة>>. هناك قصة عن حاخامين في معسكر اعتقال. أحدهما فقد أيمانه وقال لا إله، والاخر حفظ إيمانه وقال <<الله سيخلصنا. >> وكان الاثنان في صف للمثول للموت. نظر المؤمن حوله وقال: <<الله سيخلصنا>> ولكن حين جاء موعد موته، كانت كلماته الاخيرة هي <<لا إله>>.
ثم دخل الحاخام الملحد الذي ضايق أيمان الآخر كثيراً غرفة الغاز، وصلاة <<أسمع يا إسرائيل Shema Israel>> على شفتيه. لقد أصبح مؤمناً. حرية الارادة تسلك كلا المسارين. لماذا يصبر البعض في أفريقيا الجائعة أو معسكرات الاعتقال مؤمنين ويفقد آخرون أيمانهم، هذا هو لغز عدم التنبؤ بالسلوك الانساني. >>
فأجبتُ: <<لنرجع إلى المرأة لقد قلتَ إنه علينا أن نستمع أليها ونتفاعل معها، وهذا يبدو شيئاً جيداً. ولكن لا بدَّ أن يكون هناك المزيد. >>
فقال: نعم، علينا ان نُمثَّل يسوع بالنسبة لها، أن نخدمها ونحبها ونريحها، ونحتضنها ونبكي معها. ويجب أن تثيرنا محبتنا – التي هي انعكاس محبة الله – لمساعدتها مع الاخرين المتألمين. >>
أومأ كريفت نحو المدخل وقال: <<على بابي يوجد كارتون لسلحفتين. تقول الواحدة: <<أحياناً ما أحب أن أتساءل لماذا يسمح الله بالفقر والمجاعة والظلم بينما يمكنه أن يفعل شيئاً حيال ذلك. >>
فتقول الاخرى: <<أخشى أن يسألني الله نفس السؤال. >> أولئك الذين لديهم قلب يسوع نحو المتألمين يحتاجون أن يعيشوا أيمانهم بتخفيف المعاناة على قدر أستطاعهم، بعمل اختلاف، وبتجسيد حبه بطرق عملية. >>
فعلقتُ قائلاً: <<هذا الكرتون يذكرني بالطريقة التي يحب بها الله أن يقلب الاسئلة. >>
<<نعم، هذا دائماً ما يفعله، وقد حدث هذا مع أيوب. فقد كان أيوب يتساءل من هو الله، لأن الله بدا وكأنه سادي كوني. وفي نهاية سفر أيوب – كلاسيكية جميع العصور حول مشكلة المعاناة – يظهر الله أخيراً بالإجابة، وتكون الاجابة على شكل سؤال.
فهو يقول لأيوب: <<من أنت؟ هل أنت الله؟ هل كتبت هذا السفر؟ أين كنت عندما وضعتُ أساسات الارض؟ >> ويدرك أيوب أن الاجابة بالنفي. ثم يشعر بالرضا. لماذا؟ لأنه يرى الله! الله لا يكتب له كتاباً، فقد كان يمكنه كتابة أعظم كتاب حول مشكلة الشر في العالم، ولكن بدلاً من ذلك يُظهر نفسه لأيوب. >>
<<وقد أرضاه هذا->>
<<نعم، لا بدَّ أن يُرضيه – فهذا ما سيُرضينا إلى الابد في السماء. أعتقد أن ايوب يحصل على حالة مسبقة عن السماء في نهاية سفر أيوب لأنه يقابل الله. فلو كان الله قد أعطاه مجرد كلمات، لكان معنى ذلك أن أيوب كان عليه أن يتحاور معه ويسأله سؤالاً آخر ثم يجيبهُ الله إجابات صحيحة، ثم يسأله أيوب سؤالاً ثالثاً في اليوم التالي والتالي، لأن أيوب كان فيلسوفاً ملحاً للغاية، ولكان هذا الوضع قد أستمر طويلاً بلا نهاية. فماذا سينهي هذا؟ حضور الله!
<<لقد سمح الله بمعاناة أيوب، لا لآن الله يفتقد المحبة، بل لأنه قد أحب، حتى يأتي بأيوب الى نقطة لقاء الله وجهاً لوجه>> وهذه هي سعادة الانسانية العظمى. لقد حفرت معاناة أيوب فارغاً كبيراً في داخلهِ حتى يمكن أن يملأه الله والفرح.
<<بينما ننظر الى للعلاقات البشرية، فأن ما نراه هو أن المحبين لا يريدون شروحات، بل حضوراً. والله أساساً هو حضور – فقانون الثالوث يقول إن الله ثلاثة أقانيم حاضرة لبعضها البعض في معرفةٍ تامة ومحبة تامة. ولهذا فإن الله هو الفرح اللانهائي. وبقدر ما يمكننا أن نشترك في هذا الحضور، يكون لدينا نحن أيضا الفرح اللانهائي.
وهذا ما أختبره أيوب – رغم ضيقه الشديد، وقبل حتى يستعيد ممتلكاته العالمية – حالما رأى الله وجهاً لوجه.
<<وكما قلتُ إن هذا له معناه حتى بين الشر. لنقل إن روميو وجولييت كان لديهما حبٌ أكثر نضجاً وأكثر عمقاً مما في مسرحية شيكسبير. ولنقل إن ما يريده روميو بالأكثر في العالم كله هو جولييت. ولنقل انه قد فقد جميع أصدقائه وممتلكاته، وأنه ينزف ويعتقد أن جولييت قد ماتت.
<< ثم يرى جولييت تنهض وتقول: <<روميو، أين أنت؟ أنا لستُ ميتة>>، فهل يكون روميو في منتهى السعادة؟ نعم، في منتهى السعادة؟ نعم، أيمانع على الاطلاق أن ينزف ويلبس ملابس الرثة ويكون فقيراً؟ لا، على الاطلاق! سيفضل كثيراً أن يكون محباً في برونكس الجنوبية عن أي يكون مُطلَّقاً في هونولولو. >>
كل دمعة، هي دمعته
كنا ننتقل بوضوح نحو ذروة مناقشاتنا؛ فمفاتيح الحل التي ذكرها كريفت في بداية لقاءنا كانت تتقارب، واستطعت أن أشعر في صوته بعاطفيةٍ وبأقناع متزايد. أردت أن أرى مزيداً من أعماق قلبه، ولن أصاب بخيبة الأمل.
فقلتُ محاولاً تلخيص ما توَّصلنا اليه: <<إجابة المعاناة إذاً ليست إجابة على الاطلاق. >>
فقال وهو يتكئ كما لو كان يدافع عن أرائه مؤكداً: <<هذا صحيح، أنها المُجاوب. يسوع نفسه. لا مجموعة كلمات، بل <<الكلمة>>ذاتها. لا حجة فلسفية منسوجة جيداً. بل اقنوم. الاقنوم. إجابة المعاناة لا يمكن أن تكون مجرد فكرة مجردة، لأن هذا ليس موضوعٌ مجرد، لكنه موضوعٌ شخصي، ومن ثم فهو يتطلَّب إجابة شخصية. والاجابة لابدَّ أن تكون شخصاً، لا شيئاً، لأن الموضوع يتضمن شخصاً، وهو الله، أين أنت؟ >>
ترَّدد صدى هذا السؤال في مكتبة الصغير. فقد كان يتطلب أجابه. بالنسبة لكريفت، هناك إجابة – أجابه واقعية جداً <<الحي>>.
قال كريفت: <<يسوع هناك، جالسٌ بجوارنا في أسوأ فترات حياتها. هل نحن منكسرون؟ لقد كسر عنا كالخبز. هل نحن محتقرون؟ لقد أحتقر ورُفض من الناس. هل نصرخ حتى لا نصاب بالمزيد؟ لقد كان رجل أوجاع ومختبر الحزن. هل يخدعنا الناس؟ لقد بيع بنفسه؟ هل تنكسر أرق علاقاتنا؟ لقد أحب هو أيضاً ورُفض. هل يتحول الناس عنا؟ لقد ستروا عنه وجوههم كما عن أبرص.
هل ينزل الى الجحيم كل منا؟ نعم، من اعماق أحد معسكرات الموت النازية، كتبتْ كورى تن بوووم: <<مهما كان عُمق ظلامنا، فهو لا يزال أعمق بكثير. >> إنه لم يقم فقط من الأموات، بل غيَّر معنى الموت؛ ومن ثم غيَّر معنى كل معنى صغير – المعاناة التي تتوقع الموت وتجعله جزءاً منها.
<<يسمم بالغاز في أوشفتنز Auschwitz. ويسُخرَ منه في سويتوا Soweto. ويهزأ به في أيرلندا الشمالية. ويستعبد في السودان. أنه الواحد الذي نحبه حتى الكراهية، ومع ذلك فقد أختار أن يُبادلنا
————————
1 أكبر معسكرات الأشغال الشاقة النازية. كان يحتوي على ثلاث معسكرات رئيسية تضم في ثناياها 40 – 50 معسكراً فرعياً – المترجم
2 إحدى مدن جنوب أفريقيا. كانت مسرحاً لأحداث شغب عنيفة في العام 1976 – المترجم
بالمحبة. كل دمعة نسكبها تصبح دمعتهِ. ربما لا يمسح هذه الدموع الآن، لكنه سيمسحها فيما بعد. >>
توقفَ قائلاً بهدوء وحشرجة في صوته -قد تحولت نغمته الواثقة الى مغمة مؤقتة: <<في النهاية، أعطانا الله تفسيرات جزئية. وربما يكون سبب هذا هو أنه رأى أن التفسير الافضل أن يكون جيداً بالنسبة لنا. لا أعرف لماذا. كفيلسوف أنا فضولي جداً وكانسان، أتمنى لو كان قد أعطانا مزيداً من المعلومات. >>
وبهذه الكلمات، تطلع إلىَّ بنظرة فاحصة.
وقال بحزم: <<لكنه عرف أن يسوع كان أكثر من مجرد تفسير. فهو ما نحتاجه حقاً. لو كان صديقكَ مريضاً يحتضر، فالشيء الأهم الذي يحتاجه ليس تفسير، بل يحتاج أن تجلس معه. إنه مرتعب أن يبقى وحيداً أكثر من أي شيء أخر. ولذلك لم يتركنا الله وحدنا. >>
ضبط كريفت جلستهُ وأسترخى، وكان هناك شيء واحد أراد لي أن أعرفهُ.
فقال: <<ولذلك فأنا أحبه>>.
انتزاع الخير من الشر
بعد أقل من ساعة، كان كل شيء هادئاً في السيارة حيث تسللتْ خلال شوارع بوسطن المنزلقة بالأمطار في طريق العودة الى المطار. تطوع صديقي مارك هارينجر – أحد سكان بوسطن لمدة طويلة – بأن يقودني الى ومن مكتب كريفت. نظرتُ خارج النافذة إلى لا شيء تحديداً. كنتُ أسترجع في ذهني اللقاء. وعلى أي حال، كنتُ أتساءل كيف كانت تلك المرأة الافريقية ستتجاوب مع كلمات فيلسوف الجادة.
كان مارك يجلس أثناء اللقاء وهو يُصغي عن كثبٍ من مقعد خشبي مسنوداً على جدار. ولم يكن هذا بمثابة موضوعٌ تأمل تافه بالنسبة له.
قطع مارك الصمت في السيارة وقال: <<هذا حقيقي>>
فسألته: <<وما هو؟ >>
فقال: <<ما قاله كريفت حقيقي. فأنا أعرف ذلك، وقد اختبرته. >>
منذ سنوات ماضية، كان مارك يجرف الثلج عن طريق قيادتهِ عندما قالت زوجته أنها ستُحرك السيارة، وطلبتْ منه أن يُراقب أبنتهما الصغيرة. وبينما انطلقت السيارة، اندفعا فجأة إلى أسوأ كابوس يمكن أن يتصوره أبوان: فقد دهستْ الصغيرة تحت عجلة السيارة.
وكالمرأة الإفريقية، عرف مارك معنى أن يمسك طفلاً ميتاً بين ذراعيه. وبينما لم أكن قادراً على التكلم مع تلك الأم الحزينة، استطعت أن أتكلم معه هو.
كان يأس مارك المبدئي عميقٌ جداً حتى أنه اضطر أن يطلب من الله أن يساعده على التنفس، والأكل، والتصرف الطبيعي، والا لا صيب بالشلل من جراء الألم الشعوري. لكنه شعر بشكل متزايد بحضور الله، ونعمته، ودفنه، وتعزيته، بدأت جروحهِ تشفى بمنتهى البطء عبر الايام.
مختبراً الله عند نقط أشد احتياج، خرج مارك من هذا الأتون رجلاً جديداً، تاركاً موقعه في العمل لحضور معهد ديني. من خلال معاناته – رغم أنه لم يخترها على الاطلاق، ورغم أنها كانت مؤلمة للغاية، ورغم أنها كانت محطمة للحياة في ذاك الوقت – تحول مارك إلى أنسان يكرّس راحة الحياة لتقديم عطف الله للآخرين الوحيدين في يأسهم.
وعلى المنبر للمرة الاولى أستطاع مارك ان يعتمد على اختباراته الشخصية مع الله في أعماق الحزن. كان الناس متأثرين لأن خسارته الشخصية قد وهبت تأملات خاصة، وتعاطفاً، ومصداقية. وفي النهاية أستجاب العشرات منهم قائلين: أنهم يريدون أيضاً أن يروا يسوع هذا – أله الدموع. والآن كانت هناك قلوبٌ أخرى تشفى لآن قلب مارك كان قد أنفطر. من يأس زوجين يأتي رجاءٌ جديد لكثيرين.
قال مارك: <<أحياناً ما يسخر المتشككون من الكتاب المقدس قائلين إن الله يمكنه أن يجعل الخير يخرج من ألمنا لو لجأنا اليه بدلاً من ابتعادنا عنه، لكني رأيتُ هذا يحدث في حياتي الخاصة. لقد اختبرت صلاح الله من خلال الألم العميق، ولا يوجد متشكك يمكنه أن ينفذ هذا. فألله الذي ينكره المتشكك هو نفس الاله الذي أمسك أيادينا في الأماكن المظلمة العميقة، ودعمَّ زواجنا، وعمًّق أيماننا، وأكثر من اعتمادنا عليه، وأعطانا طفلين أخرين، وأثرى حياتنا بهدف جديد وبمعنى جديد حتى يمكننا أن نشكل اختلافا لآخرين. >>
فسألته في رفق: <<هل تتمنى أن تكون لديك إجابات أكثر عن لماذا تحدث المعاناة في المقام الاول؟ >>
<<نحن نعيش في عالم قلق، فقد كان يسوع أميناً لدرجة أنه يخبرنا بأننا سنتعرض لضيقات التجارب. (24)
بالطبع، أود أن أفهم أكثر لماذا يحدث هذا. لكن خاتمة كريفت كانت صحيحة – فالإجابة النهائية هي حضور يسوع. هذا يبدو ساذجاً كما أعرف. ولكن مهلاً، فعندما يهتز عالمك، فأنت لا تحتاج الى الفلسفة أو اللاهوت بقدر ما تحتاج الى حقيقة المسيح. لقد كان المسيح هو الأجابة بالنسبة لي. وكان هو الأجابة التي كنا نحتاجها. >>
إن وجود الألم والمعاناة اتهامات قوية ضد الله. ومع ذلك فالسؤال هو ما إذا كان الدليل يتبعُ بأدانتهِ. لقد اعتقدت أن تحليل وتمثيل كريفت الانيق قد ذهب بعيداً نحو تقويض تلك العقبة الرهيبة في سبيل الايمان، لكن كثيرٌ من الاعتراضات الاخرى بقتْ. كانت هذه مجرد بداية رحلة طويلة الاستكشاف، قد قررت أن أحجب حكمي الأخير حتى تواجه كل عقبات الايمان وتظهر كل الحقائق.
في نفس الوقت، وصل القس البريطاني اللامع جون ستوت الذي أقرَّ بأن المعاناة هي <<أعظم تحد منفرد للأيمان المسيحي>>
إلى الخاتمة الشخصية:
لم يكن من الممكن أن أؤمن بالله شخصياً لولا الصليب…ففي عالم الألم الواقعي، كيف يمكن الانسان أن يعبد الهاً يستثنى من الألم؟ لقد دخلتُ الكثير من المعابد البوذية في دولٍ أسيوية مختلفة، ووقفت باحترام أمام تمثال بوذا، الجالس القرفصاء، وذراعاه مثنيتنان، وعيناه مغلقتان، وشبح ابتسامة يرتسم حول فمه، ونظرة بعيدة عن وجههِ، بعيدة عن عذابات العالم. وبعد ذلك اضطرتُ في كل مرة أن أذهب بعيداً. وفي الخيال اتجهت بدلاً من ذلك الى ذاك المصلوب المُعذب، المتألم، الوحيد على الصليب، حيث المسامير في يديه وقدميه، والظهر مضروب بالسياط، والاطراف ملتوية، والحاجب ينزف من وخز الاشواك، والفم جاف وظمآن بلا رحمة، وهو مطمورٌ في ظلمة الله المنسية. هذا هو الله بالنسبة لي! لقد طرح جانباً حصانته ضد الألم. ودخل عالماً جسداً ودماً، ودموعاً وموتاً. عانى عنا. ومعاناتنا تصير أكثر سهولةً في ضوء معاناتهِ هو. ومازالت هناك علامة استفهام ضد المعاناة البشرية، بل عليها نضع بجرأة علامة أخرى، الصليب الذي يمثل المعاناة الالهية! صليب المسيح…هو تبرير الله الوحيد عن ذاته في عالمنا. (25)
مشاورات – أسئلة للتأمل ومجموعات الدراسة
- كيف شكلت الصعبات والتحديات وحتى الآلام شخصيتك وقيمك؟ وكيف تختلف اليوم نتيجة المشكلات التي واجهتا في الحياة؟ هل يمكنك أن تتخيل أبداً شكر الله يوماً لطريقة تشكيل المعاناة لك؟ قال كريفت: <<أؤمن أن كل المعاناة تحتوي على الاقل على الفرصة لصالح الخير. >> هل كان هذا صحيحاً في حالتك؟
- ماذا كانت أقوى نقاط كريفت؟ وماذا كانت أضعفها؟ لو أتيحت لك الفرصة لسؤاله، فماذا تسأله؟ بناءً على ملحوظاته الاخرى، كيف تعتقد أن سيجيب على سؤالك؟
- لو كنت أنت الله، فكيف كنت ستشكل العالم بشكل مختلف؟ بينما تزيل المعاناة أو الشر، وتُعدَّل حرية أرادة البشر، فكر في النتائج التي يمكن أن تكون. كيف سيشكل الناس الشخصية في مدينتك الفاضلة؟ هل سيتحفزون لطلب الله وسط مسراتهم؟ لقد تدَّخلت بقوة تفوق الطبيعة الإزالة الشر، فمن أين سيبدأ – لمنع القتل؟ سوء استغلال الاطفال؟ السرقة؟ التشهير؟ الأفكار الشريرة التي يمكنها أن تؤدي لأفعال شريرة؟ في أية نقطة يتحول فيها الناس إلى دمى يفتقدون حرية الارادة، ومن ثم لا يمكنهم التعبير عن المحبة حقاً؟
- لو أتيح لمارك أن يجلس مع المرأة صاحبة صورة مجلة لايف Life، فما هي الأمور الثلاثة التي تعتقد أنه سيقولها لها؟ كيف تعتقد أنها ستجيبه؟
لمزيد من الادلة
مصادر أخرى حول الموضوع
Peter Kreeft. Making Sense Out of Suffering. Ann Arbor, Mich.: Servant, 1986.
Philip Yancey. Where is God when It Hurt? Grand Rapids, Mich.: Zondervan, 1990.
Joni Eareckson Tada and Steven Estes. When Good Weeps, Grand Rapids, Mich.: Zondervan, 1997.
Luis Palau. Where Is God When Bad Things Happen? New York. Doubleday, 1999.
- John R. W. Stott, the Cross-of Christ (Downers Grove, 111.: Intervarsity Press, 1986), 311.
- See: Lee Strobel, “Thanksgiving Near; Only Food Rice,” The Chicago Tribune, November 25, 1974.
- Peter Maass, “Top Ten War Crimes Suspects,” George, June, 1999.
- Peter Kreeft, Making Sense out of Suffering (Ann Arbor, Mich.: Servant: 1986), viii.
- Philip Yancey, Where Is God When It Hurts? (Grand Rapids, Mich.: Zondervan, 1990), 15.
- 20, quoting novelist Peter De Vries.
- The Omni Poll conducted by Barna Research Group, Ltd., January 1999.
- Charles Templeton, Farewell to God, 201-2.
- See: Matthew 7:7.
- See: Peter Kreeft and Ronald K. Tacelli, Handbook of Christian Apologetics (Downers Grove, 111.: Intervarsity, 1994), 48-88.
- See: Leo Tolstoy (David Patterson, Translator), Confession (New York: W.W. Norton & Co.: 1996), Reprint edition.
- Harold Kushner, When Bad Things Happen to Good People (New York: Schocket Books, 1981), 43.
- See: Romans 5:3 -4.
- Hebrews 5:8: “Although he was a son, he learned obedience from what he suffered….”
- 2 Peter 3:9: “The Lord is not slow in keeping His promise, as some understand slowness. He is patient with you, not wanting anyone to perish, but everyone to come to repentance.”
- S. Lewis, the Problem of Pain (New York: Macmillan, 1962), 93.
- See: Matthew 9:12-13.
- Jeremiah 6: 13a.
- Isaiah 64:6a.
- Charles Templeton, Farewell to God, 201.
- Philippians 3:8 (KJV): “I count all things hut loss for the Excellency of the knowledge of Christ Jesus my Lord: for whom I have suffered the loss of all things, and do count them but dung, that I may win Christ.”
- Philip Yancey, Where Is God When It Huns? 255-56.
- Warren W. Wiersbe, Classic Sermons on Suffering (Grand Rapids, Midi.: Kregel Publications, 1984), 92.
- Jesus said in John 16:33: “These things I have spoken to you, that in me you may have peace. In the world, you have tribulation, but take courage; I have overcome the world” (NASB).
- John R. W. Stott, The Cross of Christ, 335-36, the last sentence quoting P.T. Forsyth, Justification of God (London: Duckworth, 1916), 32.