ماذا كان الله يصنع قبل بدء العالم؟
ماذا كان الله يصنع قبل بدء العالم؟
ماذا كان الله يصنع قبل بدء العالم؟
ولكنّ ثمة من يحتجّ[1] علينا قائلاً: إن كان العالم قد بدأ في الزمن، فماذا كان الله يصنع قبل بدء العالم؟ إن القول بأن طبيعة الله متكاسلة لا حراك فيها[2] كفر وبهتان معاً؛ كذلك الأمر لدى التفكير بأنّه كان ثمّة حينٌ لم يأتِ فيه صلاحُ الله فعلَ الخير، وجبروتُه ممارسةَ سيادته. لقد طالما اعترض علينا أحدهم كلّما تفّوهنا بهذا، أنّ العالم أبتدأ في وقت، وحينما نعدّ سنوات أجله على وفق شهادة الكتاب[3]. ولست إخال أنّ في وسع منشقّ[4] الإجابة عن هذه الطروحات بيُسْر فيما يحفظ منطق معتقده[5]. أمّا نحن فنجيب بمنطقٍ فيما نثابر على الأمانة لقاعدة التقوى[6]: لم يباشر الله عمله حينما فطر هذا العالم الذي يُرى؛ ولكن، إذ سيكون ثمّة عالم آخر بعد انحلال هذا العالم، كذلك نعتقد بقيام عالمين آخرين[7] قبل قيام هذا الأخير. إنّ هاتين النقطتين يثّبتهما سلطان الكتاب الإلهيّ. ها هو إشعيا يعلّم[8] بعالم آخر يقوم بعد هذا العالم: سيكون عالم جديد، وأرض جديدة، وأجعلهما يدومان أمام وجهي، يقول الربّ[9]. ويُظهِر سفر الجامعة عالمين وُجدوا قبل هذا العالم: ماذا صُنع؟ الشئ عينه الذي سوف يُصنَع. وماذا جُبِل؟ إنما الذي سوف يُجبَل. ما من شئ جديد تحت الشمس. إذا قال أحد: أنظر، هذا جديد. إلاّ أنّ هذا كان في الأحقابب التي سبقتنا[10]. فإنّ الشهادات تقيم الذليل على كلا النقطتين، وجود أحقاب قبلنا، وأحقاب أخرى بعدنا. ولا ينبغي الاعتقاد بأنّ عالمين متعدّدين وجِدوا معاً[11]، بل يتبع ذاك هذا. ما من ضرورة، في هذا الخصوص، لاستعادة الفصيل في كلُ شئ، لأّننا سبقنا إلى هذا أعلاه[12].
[1] سبق هذا السؤال فجرى طرحه في 1-2-10، ومناقشته في 1-4: 3-5. لم يُخْفِ أوريجانس في حينه صعوبته القصوى، بل قدّم كحلّ ما كان يراه أنّ فيه حفاظاً على مقتضيات الإيمان. أمّا هنا فإثارة المسألة عامّة وشاملة، وتتناول بالكلام موضوع عالمٍ تالٍ، لا عالم سابق وحسب.
[2] جاء هذا القول على لسان بعض الوثن، وملخّصه أنّ الإله يخلد إلى السكون، ولا يأتي عملاً ما.
[3] إنّ حساب الوقت على هذه الطريقة، أي تحديد عمر الكون بناء على معطيات الكتاب، قد وضعه معاصر أوريجانس يوليوس الأفريقيّ. ولنا في مجموعة الآباء اليونانيّين نتف من كتاباته (جزء 10، 63-94). وقد ذكره كل من أوسابيوس المؤرخ، وإيرونيمس، وفوتيوس. وممّا جاء به هذا الأخير أنّ يوليوس بدأ حسابه بخلق العالم كما جاء وصفه في كتب موسى، وأنهى سنيه بملك ماكرينس، خَلَف كراكلاً (217-218). وحسب فوتيوس نفسه، إنتهى يوليوس من وضع حسابه في هذا العام المذكور للتوّ، فيكون كتابه إذاً متقدّماً على كتاب المبادئ، ومعروفاً عن أوريجانس عندما ألّف كتابه المذكور. وفي هذا الحساب المزعوم استطاع يوليوس أن يحصي 5723 سنة منذ خلق العالم حتى ملك ماكرينس. وإذ إنّ أوريجانس يذكر في هذا الفصل حساب الزمن الذي وضعه الأفريقيّ، فإنّ كتاب المبادئ قد وضعه إذاً صاحبه بعد زمن ملك ماكرينس.
[4] يقول الزنادقة أيضاً ببدء العالم ونهايته، فيما الوثن لا يؤمنون بشئ من هذا القبيل؛ وعليه فهم المعارضون. ـمّا دعاة الأفلاطونّية الجديدة فكانوا منقسمين فيما بينهم حول أزلية العالم؛ فإن أفلاطون قال بخلق العالم على يد وسيط إلهيّ. بينما تحدو بهم نظريّتهم الخاصة إلى القول بأنّ العالم انبثاق لا بدّ منه من صلاح الله. وهناك أخرون قالوا ببدء العالم، ورفضوا أن يقولوا بنهاينه.
[5] يدفع إيرونيمس بمقطع يزعم أنّه من قول أوريجانس ويحلّه محلّ المقطع الآتي: ” أمّا نحن فنجيب… وأحقاب أخرى بعدنا”، الذي ترجمه لنا روفينس. دونك مقطع أيرونيمس: “يقول: إنّنا نسلّم بوجود عالم قبل هذا، وبوجود أخر بعده. أتريد أن تعرف بأنّ عالماً آخر سوف يوجد بعد أن يتلاشى هذا العالم؟ ألا فاستَمِع إلى إشعيا: ستكون سماء جديدة، وأرض جديدة، أقيمها دوماً أمام وجهي. أو تريد أن تعرف بأن عالمين آخرين وجدوا في الماضي قبل إنشاء هذا العالم؟ إستمع إلى الجامعة: ما كان؟ فهو الذي سيكون. وما صُنِع فهو الذي سيصُنَع. فليس تحت الشمس شئ جديد يمكنه الكلام والقول: أنظر، هذا جديد، بل قد كان في الدهور التي قبلنا. ويعلّق إيرونيمس قائلاً “بهذا يدلّ على أنّ هذه الشهادة ليست الوحيدة، وأنّ عالمين سوف يوجدون في المستقبل، لا كلّهم معاً في آنٍ واحد، وإنّما الواحد تلو الآخر”.
والحقّ يقال إن الحديث عن عالمين سوف يوجدون في المستقبل تأويل جاء به إيرونيمس. فإنّ أوريجانوس كروفينس، ناقله، يتكلّم على عالمين سابقين، في الجمع، وعلى عالم واحد في المستقبل، وهو الأمر الذي يدعمه الاستشهاد بإشعيا. فحسب أوريجانس، وجد عالمان في الماضي، قبل هذا العالم الحاضر: عالم الأفكار والمدارك والأسرار، وهو عالم عقليّ محنون بأسره في الابن، الحكمة، خلقه الله بولادة الابن لأزلّية؛ فهو مساوٍ لله، إذاً في أزلّيته (1-3: 4-5). وعالم الإدراكات السابقة في وجودها، الذي بدأ في الزمن وانتهى الأمر به إلى السقطة، التى تلاها خلق الله لهذا العالم الحاضر. بعد هذا العالم الأخير، سيكون هناك عالم القيامة. والسؤال الذي يُطَرح في هذا الخصوص هو الآتي: كم يكون لنا سويّاً أن نأخد بتأويل إيرونيموس، الذي يبدو علية العودة بهذا المقطع إلى الافتراض المذكور في 3: 1-3 أي وجود عدّة عالمين يلي أحدهما الآخر، وتدفه إليه سقطاتٌ جديدة تهوي فيها حريّة القرار الذي تحوزه الخليقة؟ بيد أنّنا حريّ بنا أن ننتبه إلى أنّ أريجانس يطرح أفتراضه المذكور هذا على سبيل البديل، ضمن مجادلة يقودها بمثابة البحث النظريّ.
[6] لما كان مقطع إيرونيمس المذكور في الحاشية السابقة لا يتكلّم على “قاعدة التقوى” فإنّه محتمل أن يكون روفينس قد عمد إلى إضافة العبارة من تلقاء ذاته؛ أنظر 3-1-7.
[7] راجع الحاشية 20. على القارئ أن يجيد فهم المقصود الذي يرمي إليه أوريجانس؛ إنّه يولي عمل الله أهميّة خطابه، فلا ينبغي بالتالي التشديد على عبارات الحديث عن عالمين.
[8] يزوّدنا أوريجانس هنا بشروح تفوق ما قدّمه في 1-4: 3-5، لأّنه لم يتطرّق ثمّة إلاّ إلى عمل الله قبل أن يخلق هذا العالم، فيما يتناول الآن عمله تعالى بعد هذا العالم عينه: ذلك أنّ جا 1: 9 هو المناسبة لأن يقوم بالتوسّع في شرحه. ففي 1-4-5، إستخدم نصّ سفر الجامعة المذكور للدلالة على وجود عالم سابق. وفي 1-6-2، استخدم نصّ إشعيا 66: 22 للتأكيد على وجود عالم في المستقبل، ذي علاقة مع معتقد سقطة الخلائق العاقلة.
[9] إش 66: 22.
[10] جا 1: 9ي.
[11] رفض أوريجانس في 2-3-6 وجود عالم آخر يتزامن وعالمنا، ويكون أسمى منه وأشدّ كمالاً: فإنّ عالم الأفكار قابع في الابن، ومسكن المغّطين الذي يتّخذ مكانه في الدائرة التاسعة جزء من عالمنا. لذا، يؤكّد أنّه لا عالم آخر غير عالمنا ونيته أم يجابه أهل العرفان، حتى يجتنب ثُنائية الملء الإلهي والعالم الأرضي.
[12] بخصوص عمل الله منذ الأزل وإلى الأبد، راجع 1-4: 3-5؛ وفيما يتعلّق بوحدة العالم، أنظر 2-3-6.