إله العهد القديم، هل هو اله يستجيب لطلب اللعنه والانتقام؟
ثُمّ َصَعِد َمِنْ هناك َإلَى بَيت ِإيلَ. وفيماهوصاعِد ٌفي الطريقِ إذا بصِبيان ٍصِغارٍ خرجوا مِن َالمدينةِ وسَخِروا مِنه ُوقالوا لهُ: اصعَد ْيا أقرَعُ! اصعَدْ ياأقرَعُ!. فالتَفَت َإلَى ورائهِ ونَظَرَإليهِم ْولَعَنَهُمْ باسمِ الرَّبِّ،فخرجَت ْدُبَّتانِ مِنَ الوَعرِ وافتَرَسَتا مِنهُمُ اثنَين ِوأربَعي نَولَدًا. وذَهَبَ مِنْ هناكَ إلَى جَبَل ِالكَرمَلِ،ومِنْ هناك َرَجَعَ إلَى السّامِرَةِ.(2مل23:2-25).
تقول القصة التي أمامنا أن أليشع كان في طريقه من أريحا الى بيت ايل , وفيما هو في الطريق اذا بمجموعة صبيان صغار قد خرجوا من بيت ايل يسخرون منه قائلين : يا أقرع يا أقرع! فلعنهم بأسم الرب. فخرجت دبتان من الوعر وافترستا من الاولاد اثنين واربعين ولداً. هذه القصة تطرح العديد من الأسئلة مثل :
يعلق د.منقذ بن محمود السقار على هذه القصة قائلاً : «هل يُعقل أن نبياً يدعو بالهلاك على أطفال صغار عيَّروه؟ وهل يستجيب الله. فيقتل الطفل البريء الذي أساءَ الأدب؟ ثم لو كان هذا صحيحاً, فما فائدة تخليده في كتاب ينسب الى الله. وأي خير أو هدى تتعلمه البشرية منهْ. هل نقتل أطفالنا وندعو عليهم بالثبور اذا أخطأوا في حقنا أو حق الآخرين؟» (1)
هذه القصة تطرح فعلاً العديد من الأسئلة مثل :
لماذا يسمح الله بإفتراس 42 صبياً لمجرد أنهم نطقوا بكلمات سخرية ضد أليشع ؟
لماذا لم يسامح نبي الله هؤلاء الأطفال؟
كيف يستجيب الله طلبة مثل هذه ويقتل أولاداً صغاراً؟
كيف يرسل الله المُحب دبتان لتفترسا الأطفال؟
أليس هذا في غاية القسوة؟
وللإجابة على هذه الأسئلة , وقبل أن نتهم النبي أليشع , أو الله بالقسوة . يجب علينا أن نفكر في عدة أسئلة هامة جداً تساعدنا على فهم صحيح لهذه الحادثة في سياقها اللغوي والحضاري والتاريخي واللاهوتي وهي :
متى حدثت هذه الحادثة ؟
وأين حدثت هذه الحادثة ؟
ومن هم هؤلاء الأولاد الصغار ؟
وهل كانوا فعلا اطفالاً صغاراً ؟
وماذا كانوا يريدون من أليشع ؟
ولماذا غضب أليشع ؟
أولاً : متى حدثت هذه الحادثة ؟
لقد حدثت هذه القصة في بداية خدمة أليشع النبي , فبعد أن صعد ايليا النبي الى السماء عند نهر الأُردن , صنع أليشع معجزاته الاولى , إذ ضرب ماء نهر الأردن فإنفلق النهر, وعبر أليشع الى الارض اليابسة , بعدها مباشرة ذهب أليشع إلى اريحا , وهناك جاءه رجال مدينة أريحا بشكوى قالوا فيها : «هوَذا مَوْقِعُ المَدينَةِ حَسَنٌ كَمَا يَرى سَيِّدي, وأَمَّا المِياهُ فَردِيَّةٌ وَالأَرضُ مُجَدَّبَةٌ» (2مل 19:2) .
وهنا طلب النبي أليشع أن يجيئه أهل أريحا بصحن جديد يضعون فيه ملحاً , وذهب بالملح الى نبع الماء , وطرح الملح فيه وقال : «هكذاقالَ الرَّبُّ: قد أبرأتُ هذِهِ المياهَ. لايكونُ فيها أيضًا موتٌ ولاجَدبٌ» فبَرِئَت ِالمياهُ إلَى هذا اليومِ،حَسَب َقَوْلِ أليشَعَ الّذي نَطَقَبهِ.». (2مل 21:2-22) .
وهكذا حَوَّل الله المياه الرديئة إلى مياه صالحة للشرب والري , وانصلح حال الأرض المجدبة وجادت بالثمر . ومن اريحا سافر أليشع إلى بيت ايل , وعندما كان في الطريق حدثت القصة موضوع نقاشنا , وبحسب التقليد الكتابي فقد صعد إيليا حياً إلى السماء حوالي عام 860 ق.م .
والدارس يعرف أن خدمة أليشع كانت في عهود الملوك يهورام وياهو ويهوآحاز ويوآش. وبدراسة التسلسل التاريخي حياة أليشع نستطيع أن نقدر عمر أليشع عندما حدثت هذه الحادثة المُشار إليها اعلاه بحوالي 25 عاماً, أي ان أليشع كان في ريعان شبابهِ , وفي بداية خدمته بَعد أن فارقه معلمه ومرشده إيليا النبي , وقد كان أليشع في حاجة شديدة إلى ما يؤيِّد ويدعم خدمته ليتمكن من القيام بمهمته النبوية في فترة زمنية صعبة وعصبية , ووسط شعب صلب الرقبة , وكان يمكن لأي حركة معارضة أن تهدم خدمته في بدايتها
ث
انياً : أين حدثت هذه الحادثة ؟
لقد حدثت هذه الحادثة عندما كان اليشع في طريقه إلى بيت ايل . والدارس المدقق يعرف أنه بعد أن تولى يريعام بن ناباط المُلك على المملكة الشمالية . جعل من بيت ايل مركزاً رئيسياً لعبادة العجل فنقرأ : «فاستَشارَالمَلِكُ وعَمِلَ عِجلَي ْذَهَبٍ،وقالَ لهُمْ:كثيرٌعلَيكُمْ أن ْتصعَدواإلَى أورُشَليمَ. هوذا آلِهَتُك َياإسرائيلُ الّذينَ أصعَدوك َمِنْ أرضِ مِصرَ,ووضَعَ واحِدًا في بَيتِ إيلَ،وجَعَل َالآخَرَفي دانَ». (2مل 28:12-29)
لقد تجاهل ما حَدَث في القديم مع الشعب عندما صعد موسى إلى الجبل وقال الشعب لهارون :« قُمِ اصنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسيرُ أَمامَنَا (خر4:32) . وصنع لهم العجل الذَّهبي , وقالوا نفس العبارة التي قالها يربعام . ولقد تجاهل ما قاله الرب لموسى عندما صنع الشعب العجل الذهبي . «اتْرَكْني لِيَحْمَى غَضَبيْ عَلَيهِمْ وَأفِنيهُمْ » (خر 10:32)
ولَعلَّ السؤال الذي يواجهنا هو : لماذا العجل الذهبي بالذات؟ إن أي دارس للتاريخ يعرف أن الشعوب الشرقية القديمة كانت تعبد العجول وتقدسها . فالعجل في الشرق القديم هو إله الخصب والنماء . وكان شعب آرام ينظر للثيران على أنها رمز القوة . وكان العجل أبيس من آلهة المصريين المقدسة , لذلك أطلق هوشع على «بيت ايل»«بيت آون» (هو15:4 , 8:5 , 5:10 ) أي بيت البُطل , بيت الأصنام
لذلك لم يكن خروج هؤلاء الأولاد واعتراضهم طريق أليشع عند دخوله بيت إيل بالصدفة, أو مجرد مجموعة من الأطفال يلعبون , وإنما كانت خطة قد أعدَّها كهنة البعل والعاملين لحساب الوثنية لمنع رجل الله من دخول المدينة , فهناك ايضاً كان يقيم بعض بنى الأنبياء الذين كانوا يعتبرون إيليا سيداً ومعلماً لهم . لذلك كان هناك صراعاً دينياً عنيفاً فكانت سخريتهم بقصد تحطيم الإيمان بالله الحي .
ويرى آخرون أنهم كانوا تلاميذأً لأحد قادة الوثنية , كرَّس حياته للتعليم ضد التقوى والحياة الصالحة , وربما كانوا يجتذبون أعداداً كبيرة من الشباب حولهم .
ثالثاً : هل كانوا فعلاً أطفالاً صِغاراً ؟
إن قول البعض أن النبي أليشع تعرض لمجموعة من الأطفال الصغار هو أمر لا يتوافق مع القراءة الدقيقة للنص الكتابي , فالعبارة المترجمة إلى العربية “صِبيانٌ صِغارٌ” أَو “الَفتيانِ الصِّغارِ” بحسب (ت ك ح ) هي في اللغة العبرية (וּנְעָרִ֤ים קְטַנִּים֙) (نعريم قنطيم) وهي لا تعني أولاداً صغاراً بين السادسة والعاشرة من العمر , بل تُشير إلى فتيانٍ بين الثانية عشر و الثَّلاثين سنة (2) ( راجع تك12:22 , 2:37 , املوك 14:20-15) .
فيقول آدم كلارك (Adam Clarke) (3) : إن هذه العبارة تعني رجالاً صغاراً (young men ) . وان الكلمة العبرية المترجمة ” صبي ” هي (וּנְעָ) “نعار” أُطلقت على اسحق وهو ابن 18 سنة (تك 5:22-12) . وأُطلقت على يوسف وهو ابن 29 سنة .
فقد قالَ رَئيسُ السُّقاةِ لِفِرعَونَ : “وَكَانَ هُنَاكَ مَعَنَا غُلامٌ (וּנְעָ) عِبرانِيٌّ عَبْدٌ لِرَئيس الشُّرطِ, فَقَصَصْنَا عَلَيْهِ, فَعَبر لَنَا حُلمينَا . عبر لِكُل وَاحِدٍ بِحَسَبِ حُلمِهِ ” (تك12:41). وأُطلقت على سليمان في بداية مُلكهِ ” وَالآن أيُّها الرَبُّ إِلهي, أَنتَ ملَّكتَ عَبدَكَ مَكانَ داؤدُ أَبِي , وَأَنا فَتَى (וּנְעָ) صَغيرٌ لا أَعلمُ الخُروجَ وَ الدُّخولَ ” (امل7:3) . بل وأُطلِقَ عَلى “رَئيسِ المُقاطعة ” كلمة غلام فنَقرأ : “هكَذَا قالَ الرَّبُّ : هَلْ رَأَيتَ كُلَّ هذا الجُّمهور العَظِيم ؟ هانَذَا أَدفَعُهُ لِيَدِكَ اليَومَ. فَتَعلَمْ أَنّي أَنَا الرَّبْ “. فَقَالَ آخابْ : “بِمَنْ؟” . فَقَالَ :”هكَذا قالَ الرَّبُّ :بِغِلمانِ (וּנְעָרִ֤ים) رُؤَساء المُقاطَعاتِ”. فَقالَ :” مَنْ يَبتَدِئ بِالحَربِ؟ ” فَقالَ : “أَنتَ ” . فَعَدَّ غُلمانَ (וּנְעָרִ֤ים) رؤساءِ المُقاطَعاتِ ” فَبَلَغوا مِئَتَين وَاِثنَينْ وَ ثَلاثينَ , وَعَدَّ بَعدَهُم كُلَّ الشَّعبِ . كُل بَني إسرائيل , سبعَة آلافٍ (ا مل 13:20-15)
ويقول جون جيل (John Gill)(4) في تفسيره ..
(John Gill’s exposition of the entire Bible)
إن هذه العبارات كانت تُطلق على أشخاص في سن الثلاثين أو الاربعين .
وقد وردت هذه العبارة في بعض الترجمات كالآتي :
(HNV) some youths
(WEB) some youths
(ASV) young lads
فَلم تكن القصة عبارة عن مجموعة أطفال يلعبون , وإنَّما اعترض طريق أليشع مجموعة كبيرة من الشباب المراهقين والمستهزئين
والمستهترين , ربما يزيد عددها عن 90 أو 100 شاب , فإن كانت الدبتان قتلت 42 شاباً , فكم يكونُ عدد النَّاجين ؟
رابعاً : ماذا كانوا يريدون من أليشَع ؟
قد يتسائل القارئ السطحي : ما هو الجُرم الذي إقتَرَفه هؤلاء الشباب حتى يطلب لهم أليشع اللعنة ؟ أليس ما كانوا يقولونه من كلمات استهزاء وسخرية هو نفس ما نسمعه بين الحين والآخر في شوارع مدننا وقرآنا ونغض الطرف عنهُ؟
ولكن الدراسة العميقة للنص تُرينا أن عبارات هؤلاء الشباب لم تكُن بسيطة ولا ساذجة ولا نَوعاً من التسلية , إنَّما كانت عميقة وهادفة إلى أبعد مما تبدو للوهلة الأولى, فدَعنا نحلل ما كانوا يقصدونَه :
كانَ هؤلاء الشَّباب يقولون :” اصْعَد يَا أَقْرَع ! اِصْعَد يَا أَقرَعْ ! . وَالسُؤال : لِماذا كانوا يصفون أليشع بأنه “أَقرَع” ؟
هل كان اليشَع فِعلاً أقرَعاً ؟
بكل تأكيد لم يكن أليشع أقرع , فكَما ذكرت سابقاً كان عمره حوالي 25 سنة , فلم يكن شعره قَد تساقَط بعد , وقد كانت الشُّعوب الوثنية قديمَاً تمارِس عادَة حِلاقة الشعر تماماً . ولكن الله منع الإسرائيليين من اتباع هذه المُمارسة فنقرأ : ” لَا يَجْعَلُوا قَرعَةً في رُؤوسِهِمُ . وَلا يَحلِقوا عَوارِضَ لِحاهُم ” (لا 5:21 ؛ راجع تث 1:14) . إذن فليس من المعقول أن يكون أليشع قَد حَلَق شعره وخالف هذه الوصية الصَريحة , ولكن قد يقول القائل : ربما كان أليشع أقرع بالطبيعة. أو خالف الوصية وحلق شعره رأسهُ . نقول حتى لو كان هذا الأمر أو ذاك . فقد كان من المستحيل أن يرى أحد رأسَهُ ليعرف إن كان أقرعاً او لا . لأن العادة كانت أن يُغطي الأنبياء رؤوسهم . الحقيقة هي أن كلمة “أقرع ” كانت تستخدم قديماً ككلمة سخرية واستهزاء وإحتقار . وليس بالضرورة لتصف خلو الرأس من الشعر. وتشير ايضاً دائرة المعارف الكتابية إلى ان هذه الكلمة أُستُخدمت في هذه الحادثة بصورة مجازية , أي ككلمة سباب لأليشع , فالأمر ليس مجرد تعيير بالقرع بل إهانة وإحتقار هادفين (5) . ويرى بعض المفسرين أن كلمة “أقرع” كانت تُشير إلى المصابين بالبرص . فقد أمرت الشريعة بحلق شعر الأبرص , لذلك قولهم “يا أقرع ” كانت شتيمة كبيرة , لان عبارة ” يا أقرع ” كانت تعادل ” يا أبرص ” وهذا يعني أن هؤلاء الصبيان يريدون أن يقولوا لأليشع ” يا أبرص” …” يا نجس ” .
ونأتي للسؤال الثاني : ماذا كانوا يقصدون بكلمة “اصعد ” ؟
يرى عدد كبير من المفسرين في قولهم لأليشع : “اصعد يا أقرع” مكررين ذلك انهم يسخرون مما اعلنه للشعب عن صعود معلمه إيليا . فقد كانوا يحملون عداوة لإيليا ولتلاميذه , وكأنهم يقولون : هل تقول أن إيليا صعد , ونحن نريدك أن تصعد انت أيضاً . إن كنت تقول أن إيليا صعد في مركبة نارية إلى السماء . فما الذي يمنع من صعودك يا ايها المجنون ؟ “هيا يا أقرع ! اتبع سيدك الذي صعد قبلاً , هيا أصعد كما صعد هو , أرحنا منك ومن تعاليمك , أُغرب عن وجوهنا , إننا لا نريدك ! ” وهي ترد في (ت ك ح ) كالآتي :
” وَ فيِمَا هُوَ سَائِرٌ فِي طَريقِهِ خَرجَ بَعْضُ الفِتيانِ الصِّغارِ مِنَ المَدينَةِ وَ شَرعَوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ قَائِلينْ : ” اِصْعَدْ (في العاصِفَة) يا أَقرَعْ! “.
إن ما فعله هؤلاء الصبيان كان يمثل خطة خطيرة قام بها أهل بيت إيل . بعدما سمعوا كيف كرَّمه بنوا الأنبياء في أريحا عندما رأوه قد شقَّ نهر الاردن أمامهم بقوة الله . وحوَّل مياه النبع الرديئة إلى مياه صالحة , وأصلح الأرض المجدبة لحساب كل أهل المدينة , وبدأت أريحا تشهد لصعود إيليا رجل الله . فَلِكَي يحطموا هذه الكرازة قبل وصول أليشع الى بيت إيل أرسلوا هؤلاء الصِّبيان , ليسخروا منهُ , ويتحرشوا به , وليُحطموا نفسيته , وليشوهوا سمعته , حتى لا يصدق أحد كلامهُ إن رُدِّدَ في بيت إيل ما قد اقنع به كثيرين في أريحا , ولكي لا يصغي أحد من بيت إيل إلى كلماته بخصوص صعود ايليا بمركبة نارية .
خامساً : لماذا لعنهم أليشع بأسم الرب ؟
لقد لعنهم أليشع بأسم الرب للاسباب الآتية :
(1) رآى أليشع في لحظة أن حياته مهددة بالخطر , فمجموعة كبيرة من الشباب تحيط به , غاضبة جِداَ , وتسخر منه , وتكيل له السباب . فَمن يدري ماذا سوف يحدث بعد قليل ؟ هل سيضربونه بالعصي ؟ هل سيطرَحونهُ أرضاً ؟ هل سيرمونه بالحِجارة ؟
والجدير بالملاحظة في هذا السياق , أنه في الترجمة السبعينية للعهد القديم , وردت عبارة “ورجموه بالحجارة ” وفي هذا إشارة إلى توقع أحد النساخ قديماً لما كان متوقعاً أن يحدث لأليشع من قِبل هؤلاء الشَّباب .
(2) لم يشعر أليشع ان ما يحدث مجرد إهانه شخ
صية له , ولا مجرد إهانة لسيده ايليا الذي صعد في مركبة نارية للسماء ,وللأسف مازالو يقاومونه حتى بعد صعودهُ. وإنما كانت إهانة بالغة الى رسالته النبوية التي أوكله الله بها . وإلى عمل الله من خلاله وخلال معلمه ايليا . وبالتالي هي إهانـة موجهة مباشــرة الــى الله (لا10:24-16) . فمعارضةالنبي وخدمته هي بمثابة معارضة لله ومقاصده .
(3) لم يرد في كل الكتاب المقدس أن أليشع صلى لكي يُعاقبوا بمثل هذا العِقاب . فهو لم يطلب من الله إرسال الدبَّتين للدفاع عنه , ولم يطلب النقمة لنفسه , ولم يسأل شيئاً لتأديبهم , إنما ترك الأمر في يدي الله , لقد نظر الى الشباب ولعنهم بأسم الرب .
وكلمة “لعنة” في اللغة العبرية مشتقة من الفعل “قلل” . أي أنه طلب من الله أن يقلل شأنهُم . إن الذي يكرم أنبياء الله يكرمه الله . ومن يقلل من شأنهم يقلل الله من شأنه . وكانت النتيجة ان الله أرسل الدبتين من الوعر فإفترستا الشباب .
لم يقتل أليشع هؤلاء العابثين , بل الذي قتلهم هو الله الذي أرسل الدبتين لإفتراسِهِمْ , وهو الحكيم العارف القلوب العادل في الحكم .
سادساً : لماذا سمح الله بإفتراس هؤلاء الشباب ؟
لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل الأمر يستحق خروج الدببة لتفتك بهؤلاء الشباب ؟
ورداً على هذا السؤال اقدم هذه الملاحظات الهامة :
(1) لم يتصرف الله بخلاف ما أعلنه في شريعته , فالشريعة قضت بالعقاب الصَّارم – بواسطة الوحش – لكل من لا يطيع صوت الرب : «وإنْسلكتُم ْمَعي بالخِلافِ،ولَم ْتشاءوا أن ْتسمَعو الي،أزيدُعلَيكُم ْضَربات ٍسبعَةَ أضعافٍ حَسَبَ خطاياكُمْ.أُطلِق ُعلَيكُمْ وُحوشَ البَرّيَّةِ فتُعدِمُكُمُ الأولادَ،وتَقرِض ُبَهائمَكُمْ،وتُقَلِّلُكُم ْفتوحَشُ طُرُقُكُمْ ” (لا 21:26-22) .
كانت هذه الحادثة التي ربما ذهب ضحيتها عدد من الشباب . بمثابة تحذير وتنبيه وتذكير للشعب في حال عدم طاعته وإزدرائه بالله وبأنبيائه . إن دينونة الله مرعبة تنتظر من يفعل ذلك . فهل اتعظ الشعب آنذاك ؟ يبدو أن ملك يهورام بن آخاب عامل أليشع باحترام بعد هذه الحادثة (2مل11:3-13) . ولكن يخبرنا السجل التاريخي أن الشعب ككل لم يتعظ . فكان لابد من دينونة أقصى وعقاب أمَر . وهذا ما حدث فعلاً عندما هجم الآشوريون عام 722 ق.م . وسبوا الشعب ويخبرنا التاريخ أن الآشوريون كانوا أشد شَراسة بما لا يُقاس من الدبتين: “فَكَانُوا (الشعب ورؤساء الكهنة) يَهزَأون بِرُسلِ اللهِ ورَذَلوا كَلامَهُ وَتَهاوَنوا بِأَنبِيائِهِ. (تماماً كما فَعَلوا بأليشع) حتَّى ثارَ غَضَبُ الرَّبِ عَلَى شَعبِهِ حَتَّى لم يكن شفاءٌ . فَأَصعَدَ عَليهِم مَلِكَ الكِلدانِيينْ فَقَتل مُختاريهِم بِالسَيفِ فِيْ بَيتِ مَقدِسِهِم , وَلَمْ يُشفِقْ عَلى فَتَى أَو عَذرَاءْ وَلَا عَلى شَيخْ أوْ أشيبَ. بَل دَفَعَ الجَّميعَ لِيَدِهِ” (2أخ16:36-17) .
لم يتعظوا فكان العقاب الموعود به !
(2) لقد سمح الله بما حدث مع هؤلاء العَابثين المستهزئين حتى يتغلغل الخوف في قلوب أية عصابة أخرى مثل هذه تفكر في السخرية والإستهزاء برجال الله. وما فعله
هؤلاء الشباب ليس بالاهانة الصغيرة , فقد سخروا بنبي الله . وبما أن النبي يمثل فم الله بالنسبة للشعب . لأنه يكلمهم بكلام الله . يكون خطأ هؤلاء الشباب موجه أيضاً إلى الله في شخص هذا النبي . فالذي يضطهد خادم الله يضطهد الله نفسه . وقد أراد الله بذلك تقديم درس للأجيال كلها . فما حدث لم يقدم حمايَة لأليشع فقط , بل لكل خدام الله الذين يمكن أن يكونوا موضوع هزء العابثين , فلو لم يحدث ما حدث مع هؤلاء العَابثين لَصاروا هم وغيرهم خطراً يهدد حياة جميع رجال الله .
تخيل معي مجموعة من الشباب الفاسد تعترض طريق احد الوزراء وتسيء إليهِ وتتحرش به وتكيل له الشتائم, وكل أجهزة الأمن لا تتحرك ولا تتخذ الحكومة أي موقف . فكيفَ سيكون حالُ البَلد . وما هو موقف باقي الوزراء ؟!
لقد أراد الرب ان يتعلَّم كل بني إسرائيل أن الله الإله الحي قادرٌ أن يحمي كلمته ورجاله من مؤامرات الأشرار . فارسل الدبتين من الغابة لتشهدا لكل الأجيال والعُصور عن خُطورة مُقاوَمة الحق الالهي والإستهانة برجال الله, فإفترسَتاهُم .
(3) يرى بعض المفسرين أن ما حلَّ بالصبيان كان لتأديب عائلاتِهِم المقاومين للحق الالهي . فيشير القديس أغسطينوس في تعليقه على هذه الحادثة إلى أن أهالي المدينة كانوا وراء أولادهم في مقاومة نبي الله أليشع . ويقول القديس أفرام السرياني : “يبدو أن وقاحة الأولاد كانت ثمرة تعليم والديهِم , ويمكننا أن نقول إنهم قد ارسلوا من والديهم ليرددوا ما قد تَعَلَّموه ” . ويقول أيضاً الأب قيصريوس أسقف ارل: “إن
ما فعله الصبيان كان بتحريض من والديهم , فإنه واضحٌ أنه ما كان لهؤلاء الصبية أن يصرخوا هكذا لو أن هذا لا يسر والديهم ” . ويضيف قائلاً :لقد أراد الروح القدس من خلال أليشع أن يوقف كبرياء اليهود. فجعل دبتين تأتيان وتمزقان الأثنين وأربعين صبياً . وذلك لأنه عندما يضرب الصبيان يتأدب الكبار, ويكون موت الأولاد درساً للآباء لعلهم يتعلمون على الأقل مهابة نبي الله . هذا الذي رَفضوا أن يحترموه عندما صنع المعجزات امامهم . وعلى أي الأحوال تمادى اليهود في شرورهم … فتحقق فيهم المكتوب : “لبَاطِل ضَرَبت بَنيكُم .لَم يَقبَلوا تأديباً ” (إر30:2) .
(4) يرى العلامة ترتليانوس أن الله سمح بإفتراس هؤلاء الصبية الساخرين بالنبي أليشع ليؤكد أنه ليس لديهِ محاباة . فكما يهلك الله الغرباء الوثنيون عندما يُقاومون الحق هكذا يؤدب شعبه أيضاً وإن كانوا شباباً صغاراً متى أصروا على الشر(6)
(5) يعتقد عدد كبير من العلماء أن كلمة “افترستا” (וַתְּבַקַּ֣עְנָה) لا تعني بالضرورة الموت كلية . بل قد تشير إلى هجوم الدبتين على الشبان بقصد تفريقهم وتخويفهم عن طريق العض والنهش . وقد تُرجِمت الكلمة العبرية “افترستا ” (וַתְּבַקַּ֣עְנָה) في بعض الترجمات الى الانجليزية (Mauled) وهي تعني “نهشتهم ” أو “وجهت لهم ضربات موجعة”
(HNV) He looked behind him and saw them and cursed them in the name of the LORD . Two famele bears came out of the woods. And mauled forty-two of those youths .
(WEB) He looked behind him and saw them .and cursed them the name of yahweh. Two famele bears came out of the woods. And mauled forty-two of those youths
(NIV) He turned around . looked at them and called down a curse on them in the name of LORD . Then Two bears came out of the woods. And mauled forty-two of the boys .
(NLT) Elisha turned around and looked at them . and he cursed them in the name of Lord. Then two bears came out of the woods and mauled forty-two of them.
وتُرجمت في بعض الترجمات الأخرى الى الانجليزية (tare) وهي تعني “طرحتهم” أو “أصابتهم بعاهة”.
(ASV) And he looked behind him and saw them. And cursed them in the name of jehovah . And there came forth two she bears out of the wood . and tare forty and two lads of them .
(KJV) And he turned back. And looked on them . and cursed them in the name of LORD. And there came forth two she bears out of the wood. And tare forty and two children of them .
سابعا: لماذا غضب أليشع ؟
حين تسمع أن أليشع لعن الصبيان . فلا تظن بأنه غضبه غلبه . أو أنه كان يطلب النقمة لنفسه . كلا . فالشجرة الصالحة التي تخرج ثماراً طيبة . لايمكن أن يخرج منها فرعاً يصنع ثماراً رديئة. لأن كل ثمارها حسنة . وهكذا كان أليشع . تأمل في كل تصرفاته كيف كانت حسنه . إذ اهتم بشفاء الناس. وراحتهم وسلامهم وحياتهم الابدية . إن ما فعله أليشع كان بهدف تنقية البشرية من روح السخرية والاستهزاء بكلمة الله. وأنبياء الله . ومن روح الاستهتار بالمقدسات .إن ما فعله يشبه ما فعله فينحاس بن ألعازار من أجل غيرته على تقديس هيكل الله . (سفر العدد 25 ) . فما فعله فينحاس في ظاهره قتل اللذين كانا يستخفان بتقديس الهيكل . لكن في نية فينحاس كان ذلك تطهيراً من الزنا والفساد والاستخفاف بمقادس العلي . فلو لم يكن يقصد أن يفيدهم ويفيد كل البلد لما منعهم من الاستهزاء والسخرية. ولما فوّض الامر الى الله . وما اروع ما قاله العلامة ترتليانوس من ان الله أفتقد شعبه بأن ارسل الدبتين لتأديبهم . فما أتعس الشعب الذي يعيش بلا تأديب . فالتأديب هو علامة الرحمة الالهية .
المراجع
(1) د. منقذ بن محمود السقار , اله العهد القديم , ص83
(2) William L. Holladay. A Concise Hebrew and Aramaic lexicon the O.T .p299.
(3) Adam clarke,s Commentary on the Bible .p247.
(4)John Gill,s Exposition of the Entire Bible p237.
(5) دائرة المعارف الكتابية. ج1 . ص213.
(6)تادرس يعقوب ملطي – الأب . الملوك الثاني . ص288.