إله العهد القديم، هل هو اله يباغت عبيده بارواح شريرة؟ شبهة والرد عليها
إله العهد القديم، هل هو اله يباغت عبيده بارواح شريرة؟
“وَذَهَبَ رُوحُ الرَّبِّ مِنْ عِنْدِ شَاوُلَ، وَبَغَتَهُ رُوحٌ رَدِيءٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. فَقَالَ عَبِيدُ شَاوُلَ لَهُ: «هُوَذَا رُوحٌ رَدِيءٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ يَبْغَتُكَ.” ( 1صم 15,14:16)
و السؤال : كيف و لماذا أرسل الله روحًا رديئًا لشاول الملك ؟
وهل يعقل أن الاله الصالح يباغت عبيده بأرواح شريرة ؟
اولا: الرب صالح و مصدر كل صلاح :
ان الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد يعلن لنا ان الرب صالح : لدرجة ان عبارة ” الرَّبُّ صَالِحٌ ” وردت عشرات المرات في الكتاب المقدس (مز8:25 , 9:52 , 6:54 , 1:73 , 5:86 , 5:100 , 3:135 , ار11:33 , 1بط 3:2 ) . و قد هتف المرنم أكثر من مرة ” اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ” (مز 1:106 , 1:107 , 1:118و29 , 1:136).
وأضاف في مزمور آخر ” الرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ” (9:145). فهو صالح مع كل إنسان , بل هو كلي الصلاح و الحب و الحكمة و الرحمة لذلك فكل ما يخطط له و يفعله وبأمر به و يرضي عنه صالح و في الحقيقة لا يوجد من هو صالح بلا حدود إلا الله (مر18:10) .
و عندما خلق الله العالم أبدع في صنعه و كان ينظر بعد كل مرحله و يري انها ” حَسَنٌ ” (تك4:1و10و12و18و21و25) . و عندما أتم كل شئ نقرأ : ” وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا.” (تك31:1) . فالله لم يخلق إلا مل ما هو جميل و رائع لذلك هتف المرنم ” مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ.” (مز 24:104)
و حتي الشيطان عندما خلقه الله كان ملاكا نورانيا لكنه سقط (يه16 , إش 15,12:14)
وكل عطايا الله صالحة كما يقول الرسول يعقوب : ” كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ… ” (يع17:1) .
وقال زكريا : ” مَا أَجْوَدَهُ وَمَا أَجْمَلَهُ! ” (زك17:9).
يصرخ القديس أغسطينوس : ” يؤلمني إنني تاخرت كثير في معرفتك أيها الجمال القديم وماتزال جديدا ” . و قال تشارلس كنجلي في مرضه الأخير : ” كم هو جميل الرب . كم هو جميل ” .
إن الرب صالح و مصدر كل صلاح و بركة و شفاء و سعادة للإنسان . لذلك هو لا يصنع البلايا . ولا يحدث الكوارث للبشر ولا يرسل روحا شريرا ليعذب به البشر إنه يرسل روحه القدوس ليسند ويعضَد و يرشد ويعزي شعبه فهو صالح و إلي الأبد رحمته
ثانيا: ما معني “من قبل الله” ؟
إن الكلمة العبرية المترجمة “من قبل” هي (את) (أت) و هي عبارة عن ضمير يعبر عن شئ مستقل او كينونة مستقلة ولا توجد كلمة في الإنجليزية تساويها . لذلك فالمعنى المقصود: “روح شرير مستقل عن الرب ولكن بسماح منه وليس روح شرير (مِنْ قِبَلِ) الرب” .
فالكلمة العبرية المترجمة ” مِنْ قِبَلِ ” (את) (أت) تختلف تماما عن (עם) (عم) والتي تعني “من قبل” او “من عند” والتي وردت في أول الآية وأرجو أن تلاحظ الفرق:
النص العبري:
וְר֧וּחַ יְהוָ֛ה סָ֖רָה מֵעִ֣ם שָׁא֑וּל וּבִֽעֲתַ֥תּוּ רֽוּחַ־רָעָ֖ה מֵאֵ֥ת יְהוָֽה
“وذهب روح الرب من عند (מֵעִ֣ם) شاول و بغتة روح ردئ من قبل (מֵאֵ֥ת) الرب”
الكلمة الأولي (מֵעִ֣ם) و التي ترجمت “من عند” تعني أيضا “من قبل” وقد وردت أيضا في تكوين 32:41 .
” وَأَمَّا عَنْ تَكْرَارِ الْحُلْمِ عَلَى فِرْعَوْنَ مَرَّتَيْنِ، فَلأَنَّ الأَمْرَ مُقَرَّرٌ مِنْ قِبَلِ (מֵעִ֣ם) اللهِ، وَاللهُ مُسْرِعٌ لِيَصْنَعَهُ. “.
لذلك نجد كاتب السفر و هو يشرح ما حدث مع شاول بالتفصيل في الإصحاح الثامن عشر يقول: ” وَكَانَ فِي الْغَدِ أَنَّ الرُّوحَ الرَّدِيءَ مِنْ قِبَلِ اللهِ اقْتَحَمَ شَاوُلَ وَجُنَّ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ. وَكَانَ دَاوُدُ يَضْرِبُ بِيَدِهِ كَمَا فِي يَوْمٍ فَيَوْمٍ، وَكَانَ الرُّمْحُ بِيَدِ شَاوُلَ. ” (اصم 10:18 ) .
وهذه الآية ترد في بعض الترجمات كالآتي:
(CEV) the next day the lord let an evil spirit take control of Saul. And he began acting like a crazy man inside his house. David came to play the harp for Saul as usual. But this time Saul had a spear in his hand.
وفي اليوم التالي سمح الرب للروح الردئ ان يسيطر على شاول وأصبح كالمجنون في وسط بيته …
وهذا يتضح أن الروح الشرير كان مستقلا عن الله ولكن بسماح منه.
ويشرح هذا المعني د. القس الدكتور منيس عبد النور فيقول: “لما كان الله كلي السلطان فإن الأرواح الشريرة تخضع لسلطانه. وكل ما يحدث في عالمنا هو من عمل الله. أو بسماح منه . وقد سمح الله للروح الردئ أن يهاجم شاول ويستولي عليه. لأنه كان رفض طاعة الله. فرفضه الله من الملك. وسماح الله للروح الردئ أن يتملك من شاول يشبه سماحه للشيطان أن يجرب أيوب بالخسارة المادية والعائلية والمرض. ولكنه دائما يحقق مقاصده الصالحة بالرغم من أعمال إبليس”
والدارس المدقق يعرف أن قصة شاول وردت إجمالا في 1صموئيل 16 ثم شرحها تفصيلا في أصحاحي 17و18. وفيهما نري كيف أن شاول تمرد علي الله.ولم يطع وصاياه. وتملكته روح الغيرة المرة من داود ورغم أن داود لم يفعل شرًا إلا أن شاول بدأ يفكر في قتله.وهو بهذا سلم قلبه للشرير ولم يسع إلي تطهير قلبه. ولهذا تركه الرب لإرادته أو تركه الرب للروح الشرير الذي سلم نفسه بإرادته له فباغته. أو نقول لأنه قاوم روح الرب كثيرا لذلك هيأ نفسه كمسكن مستعد لقبول هذا الروح الردئ.
وما أروع ما كتبه القديس جيروم: “لا يجب أن ننزعج من القول: ” وَذَهَبَ رُوحُ الرَّبِّ مِنْ عِنْدِ شَاوُلَ، وَبَغَتَهُ رُوحٌ رَدِيءٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. ” (1صم15:16). فهذا لا يعني أن الروح الردئ مصدره الرب. او أن ما حل بشاول كان من عند الرب. فالرسول يعقوب يقول: ” لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا.”(يع13:1-15). إنما شاول رفض روح الله فهيأ نفسه مسكنا للروح الردئ. لقد تركه الرب لذاته كما يقول الرسول بولس: ” لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أَيْضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ…. لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى أَهْوَاءِ الْهَوَانِ… وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ. ” (رو1:24- 28).
لاحظ تكرار أسلمهم الله. فحين يصر الإنسان علي رفض الله ويستسلم للشر يتركه الله. أي يسلمه لشهوة قلبه وهذا التسليم بسماح إلهي لأجل تأديبه.
لقد رفض شاول نور وصايا الرب وأصبح في ظلمة الشيطان. وكذلك عندما رفض شاول روح الله أصبح متروكا في يد الشرير الذي سيطر عليه. فالقلب لا يمكن أن يستمر خاويا فلابد أن يمتلئ فإما أن يمتلئ من روح الرب أو إذا فارق روح الرب الإنسان يملأه أرواح شريرة. فالقلب لا يبقي خاليا.
ثالثا: سلطان الله:
لقد أراد الكاتب وهو يتحدث عن مرض شاول أن يؤكد علي أن الله هو صاحب السلطان المطلق علي الكون. وذلك لأن الأمم المجاورة كانت تعبد إلهين: إله الخير وإله الشر. وكانوا يعبدون إله الخير لكي يمنحهم خيراته. ويعبدون إله الشر لكي يتقوا شروره. وقد كان الشعب الإسرائيلي في ذلك الوقت معرض للسقوط في هذه الوثنية. خاصة وأن الشعب كان مهيأ لذلك. فقد عبدوا من قبل مولك وعشتاروث وكموش والعجل الذهبي…. الخ.
لذلك عندما يتحدث الوحي عن أمور مثل هذه فهو يريد أن ينير ويؤكد علي أن الله مسيطر علي كل الكون وكل ما يحدث فيه من خير ومن شر. ولا يوجد شيئ يحدث بعيدا عن دائرة سلطانه.
وقد شرح آباء الكنيسة ما حدث مع شاول في ضوء سلطان الله فيقول الشهيد كبريانوس: “ليس للأرواح الشريرة السلطان أن تضر أحدا. ويظهر ذلك بوضوح في حالة أيوب. حيث لم يتجاسر العدو أن يجربه إلا حسبما سمح الله به… وقد اعترفت الأرواح نفسها بذلك كما جاء في الإنجيل فنقرأ: ” فَالشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا، فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ» ” (مت21:8) فإن كان ليس لديهم السلطان أن يدخلوا الحيوانات النجسة إلا بسماح من الله. فكم بالحري الإنسان ! إنهم يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق علي صورة الله؟
ويعلق القديس أغسطينوس علي قصة دخول الشياطين في الخنازير قائلا: “الا ترون الحدود التي وضعت في الاختبار؟ أما تلاحظون أن الشيطان ما كان يمكنه أن يلمس حتي القطيع لو لم ينل سلطانا من الله؟”.
ونري البابا غريغوريوس (الكبير) يميز بين إرادة الشيطان وسلطانه فيقول: “فمن جهة إرادته فهي دوما شريرة. أما سلطانه فهو بسماح إلهي لذلك لا تتعجب بما ورد في (1صم10:18) ” وَكَانَ فِي الْغَدِ أَنَّ الرُّوحَ الرَّدِيءَ مِنْ قِبَلِ اللهِ اقْتَحَمَ شَاوُلَ وَجُنَّ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ. “. فهو روح شرير أما القول:” مِنْ قِبَلِ اللهِ ” فلأنه ما كان يمكنه أن يقتحم شاول بدون نوال سلطان
من الله العادل. فيقول الرسول بولس: ” لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلكِنَّ اللهَ أَمِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا. ” (1كو13:10).
المراجع
(1) Enhanced Brown-Diver-Briggs Hebrew and English Lexicon. P.288.
(2) The Complete Word Study Dictionary: Old Testament. P.311.
(3) د. القس الدكتور منيس عبد النور. شبهات وهمية. ص 245.
(4) الأب تادرس يعقوب ملطي. صموئيل الأول . ص 116.