إله العهد القديم، هل هو إله متردد؟ شبهة والرد عليها
إله العهد القديم، هل هو إله متردد؟
” فَحَزِنَ الرَّبُّ أّنَّهُ عَمِلَ فِى الأَرْضِ, وَتَأَسَّفَ فِى قَلْبِهِ. فَقَالَ الرَّبُّ:” أمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الأنسان الَّذِى خَلقْتُهُ. الإنسان مَعَ بَهَائِمَ وَ دَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ,لأَنَّي حَزِنْتُ أَنِّى عَمِلْتُهُمْ” ( تك 6 : 6 – 7 )
هذه الكلمات تجد هجوماً شديداً من عدد كبير من النقاد . وأنا هنا اقتبس بعض ما قيل من هجوم على هذه الآيات :
يقول دكتور مصطفى محمود ” نرى الله يفعل الفعل ثم يندم عليه . وكانه لا يدرى من أمر نفسه شيئاً. ولا يعرف ماذا يخبئه الغيب ” (1). ويضيف : ” رب عجيب .. ما يلبث أن يندم على ما يفعل .. الرب فى حالة خطأ وندم بطول التوراة وعرضها … كيف يخطئ الرب ويندم ؟ هوذا خلط ودشت من الكلام تكتبه أقلام وليس وحياً ولا تنزيلاً .. والاعتراض بانها كلمة مجازية هو اعتراض غير سليم , ولا يصلح مجازاً ولا فعلاً أن نقول إن الله يخطئ , كما لا يصلح مجازاً أن نقول إن الله يكذب أو يظلم أو يجهل … هذه الكلمات لا يصح إطلاقها على الله ولو مجازاً (2) .
فهنا تواجهنا عدة أسئلة وهى :
ما معنى حزن الله وتأسَّف فى قلبه ؟
هل يحزن الله ؟ أليس الحزن ضعف ؟
وهل يجوز إطلاق صفات بشرية على الله ؟
وللإجابة عن هذه الاسئلة أقول :-
أولاً: استخدام التعبيرات البشرية عن الله:
الكتاب المقدَّس هو رسالة الله للبشرية ولذلك هو لا يخاطبنا بلغته , ولا بلغة الملائكة بل بلغتنا واصطلاحاتنا لندرك حقائق الأمور . لذلك نجد الروح القدس يستخدم اللغة البشرية للتعبير عن المعانى الروحية والأحداث الإلهية حتى يفهمها الإنسان , وإلاَّ لكان الله يكلم الإنسان بلغة لا يفهمها فكيف يتعامل الله مع الإنسان بغير لغة الإنسان ؟ واستخدام الصفات البشرية فى وصف الله تُعرَف فى علم اللاهوت بمنهج ” أنثروبومورفيزم ” Anthropomorphism )) أى ( تشبيه الله بالإنسان ) أو تشبيه الله بصفات بشرية بهدف وصول المعانى الإلهية للإنسان بلغة قريبة إلى فهم الإنسان .
ولهذا السبب نجد نصوصاً كثيرة فى الكتاب المقدس ينسب الله فيها إلى ذاته تشبيهات مألوفة لدى الإنسان مثل : ” كرسى الله ” , ” يد الله ” , ” عينا الله “, ” اقسم الرب ” , ” ذراع الرب ” , ” فم الرب ” , ” حزن الله ” , ” ندم الله ” , الخ كما لو كان الله إنساناً . انه من فضل نعمته يتكلم معنا مثلما يتكلم الأب مع ابنه الصغير , او الأم مع طفلها الرضيع , فعندما تساله إن كان يريد ماء ليشرب , تقول له ” أمبو ” وإذا ارادت أن تعرف إن كان جائعاً , ويريد أن يأكل , تقول له ” مم ” لكى تتواصل معه .
وعندما نفنِّد التعبيرات التى اطلقها الوحى على شخص الله سنجد انها مجرد تعبيرات بشرية لتبسيط الحق الإلهى لنا , فمثلا عندما نفكر فى تعبير” كرسى الله ” بالطبع الله لا يجلس على كرسي , ولا يوجد كرس ييسع الله , فهل الله محدود لدرجة انه يجلس على كرسى واين هذا الكرسي ؟ ! ألم يقل عن نفسه: ” أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ, يَقُولُ الرَّبُّ ؟” (إر 23:24) .
وقال عنه سليمان : ” لأَنَّهُ هَلْ يَسُكُنُ اللهُ حَقاًعَلَى الأَرْضِ؟ هُوَذَا السَّمَاوَاتُ ,وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُك ” (ا مل 8 : 27 ) .
وقال استفانوس : ” كَمَا يَقُولُ النَّبِىُّ : السَّمَاءُ كُرْسِىٌّ لِى , وَالأَرْضُ مَوْطِئٌ لِقَدَمىَّ” (أع 7 : 48- 49 ) .
لكن الوحى عندما أراد أن يعبِّر عن سيادة وسلطان الله استخدم هذا التعبير .
وتشبيه الله بصفات بشريه بهدف وصول المعانى الإلهية للإنسان ليس قاصرا على الكتاب المقدس فقط بل نجده فى القرآن أيضاً فيُنسَب إلى الله قوله : ” يا حسرة على العباد ما يأتيهم رسول إلاَّ كانوا يستهزءون ” (يس 36 :30 ) .و” الحسرة ” أصعب من الحزن والندم ؟! ومكتوب عن الله أيضاً فى القرآن : “ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (أل عمران 3 :54) . و ” المكر” صفة بشريه بغيضة . ويُنسَب إلى الله قوله أيضا : ” ان كيدى متين ” (الأعراف 7:183 ) . و ” الكيد ” أيضا صفة بشرية سيئة !
وقال الإمام فخر الدين الرازى ” جميع الأعراض النفسانية , أعنى الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء , لها أوائل زلها غايات , مثاله الغضب , فإن أوله غليان دم القلب , وغايته إرادة إيصال الضرب الى المغضوب { عليه } فلفظ الغض
ب فى حق الله لا يحمل على أدلة الذى هو غليان دم القلب , بل على غرضه هو إرادة الإضرار, وكذلك الحياء له أول وهو انكسار يحصل فى النفس , وله غرض وهو ترك الفعل , فلفظ الحياء فى حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس” (3) .
وقال الشيخ محيى الدين بن العربى فى الباب الثالث من الفتوحات : ” جميع ما وصف الحق تعالى به نفسه من خلق وإحياء وإماتة ومنع وعطاء ومكر واستهزاء وكيد وفرح وغضب ورضا وضحك وتبشيش وقدم ويد ويدين وأيد وعين وأعين , وغير ذلك كله نعت صحيح لربنا , ولكن على حد ما تقبله ذاته , وما يليق بجلاله “ (4) .
ثانيا: ما معنى حزن الله وتأسَّف فى قلبه؟
- بكل تأكيد الله منزَّه عن الحزن والأسى والندم بالمفهوم البشرى , لأن كل شئ عريان ومكشوف أمامه , فليس عنده ما نطلق عليه أنه غير متوقع , بل كل شئ معروف ومعلن لديه , ولأنه فوق الزمان , فلا يوجد عندهِ ماض وحاضر ومستقبل , فكل التاريخ حاضر امامه . وهو القوى القادر على كل شئ ,وضابط كل شئ فعلآم يحزن أو يندم بالمعنى البشرى ؟!! إن الله ” لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ ” (يع 1 : 17 ) . وقد قال الله عن نفسه : ” لأَنِّى أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ ” (ملا 3 : 6 ) . وقال أيضَّا: ” لأَنِّى أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ.الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِى . 10 مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ , وَمُنْذُ الْقَدِيِم بِمَا لَمْ يُفْعَلْ ,قَائِلاً : رَأيِى يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِى ” ( إش 46 : 9 – 10 ) . وقال عنه الوحى :” لَيْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ , وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدّمَ . هَلَ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِى ؟ ” ( عد 23 : 19).
- عندما يقول الوحى الإلهى عن الله انه يحب ويكره ويحزن ويتحسر ويندم …الخ , فهو لا يقصد أن الله له حواس مثل حواسنا , انما يريد ان يبين ويؤكدعلى مدى تفاعل الله مع البشر . وليس هذا معناه أن الله قد يتغير فى ذاته , إنما الذى يتغيَّرهو الانسان , وبالتالى يتغيَّر حكم الله عليه , لأن الله عادل , والعدل الإلهى يقتضى أن يجازى البشر على حسب أفعالهم .
فيقول (E.F.Kevan) (أ . ف . كيفن) : من المُسلَّم به أن حزن الله إنما هو فى الواقع تعبير بشرى يشير الى غضب الله فعلاً . وهو يبين أن موقف الله بالنسبة للإنسان المخطئ لابد أن يختلف عن موقفه بالنسبة للإنسان المطيع ” (5) .
وعلى ذلك فإن كان الكتاب المقدَّس ينسب إلى الله هنا أنه ” حَزِنَ وَتَأَسَّفَ فِى قَلْبِهِ ” فهذا ليبين أن الله غير راضٍ عن الإنسان الذى ضل وغوى , وعوَّج طريقه .
- عندما يقول الوحى الإلهى عن الله : ” فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإنسان فِى الأَرْضِ , وَ تَأَسَّفَ فِى قلْبِهِ “.فهى صياغة إنسانية بشرية بإرشاد الروح القدس حتى يدركها الإنسان , ويفهمها بعقله المحدود , ويعبر بها الله للإنسان عن حجم الكارثة , فهى كلمات تعبر من ناحية عن عمق الشر الكامن فى الإنسان , ومدى فساده وابتعاده وزيغانه , ورفضه للتوبه والرجوع إلى الله خالقه , بل وأصل ومصدر حياته , ورغبته فى السير وراء إبليس وإغراءاته , وشهوات قلبه .
وهى كلمات تعبِّر من ناحية أخرى عن عمق محبة الله المتألمة النازفة . فبعد أن سرَّ الله بخلق الإنسان ,وقال عنه أنه ” حَسَنٌ جدَّاً ” ( تك1 :31 )
فإذا بهذا الإنسان موضع سرور الله قد هوى فى بئر الخطية والشر . فكأن الله يقول أليس هذا هو الإنسان الذى خلقته على صورتى , واحطته بمحبتى , ومنحته كل المواهب والإمكانيات التى تجعله يعمل ما يسرنى , فلماذا أهاننى بأفعاله الأثيمة , وجرحنى بزيغانه بعيدا عنى . وعناد قلبه ورفضه للتوبة , والأستجابة لعمل روحى فى داخله ؟ (6)
انه باختصار تعبير بشرى يبين مدى نفور الله من الشر والخطية من جانب , ومدى محبة وشفقة الله على الإنسان الذى سقط وحل به العقاب الإلهى من جانب آخر .
المراجع
- – د . مصطفى محمود . التوراه , ص12 .
- – المرجع السابق , ص 21 – 25 .
- – الإمام فخر الدين الرازى .التفسير الكبير , ج 17 , ص 329 .
- – الشيخ محيى الدين بن العربى . الفتوحات , ص 317 .
- – أ . ف . كيفن . تفسير الكتاب المقدس . ج 1 , ص 159 .
- – The NIV Study Bible. Zondervan Bible Publishers, U.S.A. 1985. P.1402.