معرفة الثالوث القدوس إشراقة نعمة – وما معنى مولود ومنبثق | أ/ أيمن فايق
+++ معرفة الثالوث القدوس إشراقة نعمة – وما معنى مولود ومنبثق +++
في الواقع الروحي اللاهوتي، أن كل ما كُتب وقيل عن الثالوث القدوس، هو مجرد إشراقات من النعمة تُستعلن في لغتنا البشرية المحدودة للتعبير عن علاقتنا الاختبارية بشخصه القدوس الحي، لذلك لم يُكتب أو يقال كل شيء عن الثالوث بوضوح شديد وشامل كامل تام من جهة أعماق طبيعته، أي من جهة كيانه الخاص في المطلق، أو من جهة ذاته في مُطلق معرفته، لأن ستظل معرفتنا محدودة للغاية وقاصرة جداً من جهة إننا لازلنا في هذا الجسد الضعيف ونستوعب بعض المعرفة حسب عقلنا المحدود في الإدراك، لأن الله يستحيل إدراكه في كمال ذاته من جهة معرفتنا الشخصية به لأننا لا نستطيع أن نفحص أعماقه ونبحر في اتساع شخصيته وهذا واضح عَبر الأجيال كلها، فنحن نؤمن ونصدق ما أُعلن لنا بالروح القدس في قلوبنا سراً كفعل نعمة موهوب لنا من الله الحي، وكل الأفعال التي تصلنا من الإعلانات الإلهية – في تاريخ الخلاص – تخص العلاقة التي بيننا وبينه من جهة الشركة، ولا تخص شخصه القدوس من جهة ذاته في كمال طبيعته التي يفوق اتساعها كل عقول البشر مجتمعة معاً، بل والملائكة أيضاً…
ومن جهة موضوع الولادة والانبثاق، هو ما أُعلن لنا من خلال الكتاب المقدس وذلك لكي لا يحدث خلط بين الأقانيم، وندخل سراً في معرفة الله القدوس الحي والمُحيي بالروح القدس، روح الشركة، الذي يُعلمنا كل شيء ويُذكرنا بكلام المسيح الرب؛ وبالرغم من أن كل التعبيرات التي وصلتنا تُعبر عن علاقة جوهرية بين الأقانيم لكننا في الواقع العملي المُعاش لا نفهمها في مطلقها، بل نفهمها بطريقة ما حسب عمل روحه في قلوبنا، وذلك حسب الإدراك الروحي لكل واحد فينا وما ناله من نعمة:
+ [ الذي وحدهُ له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه ] (1تيموثاونس 6: 16)
+ [ الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر ] (يوحنا 1: 18)
+ [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس 4: 6).
عموماً استخدام كلمة مولود ومنبثق يلزمنا أولاًً اننا نعلم أن كلتا الكلمتين تصفان العلاقة بين الأقانيم الثلاثة ولا تصف عمليات بيولوجية أو فيزيوكيميائية لأن الله القدوس الحي منزّه أصلاً عن هذه العمليات التي تأتي للذهن فور سماعها بدون وعي وإدراك عميق للحق حسب إعلان الله في قلبنا بالروح القدس نفسه، لأن حينما نسمع أي صفة أو كلام عن الله يتبادر لذهننا فور سماعها بما يتناسب وما ينطبق على البشر، لأننا بمغالطة كبرى نقارن ما بين إنسانيتنا وأفعالها واعمالها الطبيعية وبين اللاهوت أي ما بين طبيعتنا وطبيعة الله، ويأتي في الذهن فوراً المعنى القاموسي للكلمة وحسب ثقافة كل واحد فينا ومعرفته الشخصية وما تربى عليه، غير عالمين أنها قيلت وكُتبت لتقرب لنا الصورة التي لن تكون في كمالها المُطلق مهما ما قُننت في ألفاظ، لأن الكمال يُعلن لنا منه إشراقات نورانية حسب قامة كل واحد فينا ومدى انفتاحه على الله على الأخص في الصلاة، ويتم إعلانها بالسرّ في داخل القلب، فنؤمن بها ونفرح ونُسرّ جداً، لأن معرفة الله التي تدخلنا في شركة معه تشع فرح خاص يملأ حياتنا بهجة، ولكننا – مع ذلك – لا نستطيع أن نُعبر عنها في كمالها المطلق الإلهي لأنه فائق وأعظم من كل إدراكاتنا وطاقتنا وتعبيراتنا وألفاظنا…
+ [ لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبطلون. بل نتكلم بحكمة الله في سرّ الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا. التي لم يَعلمها أحد من عظماء هذا الدهر لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد. بل كما هو مكتوب ما لم تر عين ولم تسمع أُذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تُعلِّمها حكمة إنسانية بل بما يُعلمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكم فيه روحياً. وأما (الإنسان) الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يُحكم فيه من أحد. لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه، وأما نحن فلنا فكر المسيح ] (1كورنثوس 2: 6 – 16)
والمقصود من جهة الخبرة في حياتنا أن كل شيء كامل بالثالوث، أن كل شيء من الآب بالابن في الروح القدس [ لكن لنا إله واحد الآب الذي “منه” جميع الأشياء ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح الذي “به” جميع الأشياء ونحن به ] (1كورنثوس 8: 6)، [ لأن به (المسيح الرب) لنا كلينا قدوماً “في” روح واحد (الروح القدس) إلى الآب ] (أفسس 2: 18) ((كل شيء “من” الآب “ب”الابن “في” الروح القدس))
فالابن خرج من عند الآب:
+ [ فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله ] (يوحنا 8: 42)
+ [ لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم إني من عند الله (الآب) خرجت ] (يوحنا 16: 27)
+ [ لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقيناً إني خرجت من عندك ] (يوحنا 17: 8)
وفي هذه الأيات نرى شخص ربنا يسوع استعمل فعل “خرج” لوصف حقيقة صدوره من جوهر الآب أقنومياً كما يوضح إرساليته من جهة التجسد، وهذا الفعل يقابله باليونانية εξηλθον والذي تمت ترجمته للغة الإنكليزية بفعل Come out from وللفرنسية بفعل sortir.
وهذا كله يعني خروجاً قام الآباء القديسون بتوضيحه أنه مثل خروج [ النور من النور ] بمعنى عدم انقسام وعدم انفصال، لأن الآب نور فالابن نور، ولكنه نور غير منفصل ولا متصل مجرد اتصال، بل نور من نفس ذات جوهر النور عينه، نور من نور. إله حق من إله حق، مساوي له في الجوهر مساواة مُطلقة، وهذا التفسير الآبائي له ما يسنده في الكتاب المقدس كقول الرب يسوع لفيلبس [ من رآني فقد رأى الآب ] و[ أنا في الآب والآب فيّ ] (يوحنا 14: 9 – 11) وأيضاً يقول الرسول: [ الذي هو (شخص الكلمة) صورة الله غير المنظور ] (كولوسي 1: 15)، [ الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة (أو يسرق أو يغتصب) أن يكون معادلاً للّه (لأنه طبيعياً مساوٍ للآب) ] (فيلبي 2: 6)، أي أنه لم يختلس أو يدَّعي أن يكون مساوي لله كادعاء أو حتى كتشبيه أو تصوير، لأنه فعلاً خارج من الآب كخروج النور من النور، أو ولادة النور من النور، والولادة هنا ليست بشرية بل مستمرة إلى الدهر، نور من نور، يعني نور صادر باستمرار وتواصل وبلا توقف من نفس ذات جوهر النور الواحد عينه ومساوي له بكل ما في الكلمة من معنى المساواة، وهو نور مستمر في الخروج بدوام، لأن النور حي فعال بيولد نور باستمرار بلا توقف، لأن لو توقف أصبح ليس نوراً، فالشمس تولد نور، والولادة هنا ليست ولادة بالوجع أو مثل ولادة البشر، لأن النور في توالده لا يحتاج لتزواج ليتوالد، أو يحتاج لأي شيء خارجي يُأثر فيه أو يستثيره أو يحتاج لما هو غريب عنه ليستمر في ولادة النور، فالنور فعال إيجابي يولد نور طبيعياً بلا انقطاع، بل مستحيل أن يتوقف عن أن يخرج نور، أو يتوقف عن ولادة النور باستمرار…
وبالنسبة لانبثاق الروح القدس من الآب، هو خروج الفيض من منبعه ومصدره الذاتي، أي شخص الآب. أما ولادة الابن من الآب هو أيضاً خروج، ولكن خروج كل الملء من منبعه الذاتي أي مصدره، وهو شخص الآب الذي هو النبع، فانبثاق الروح القدس من الآب هو انبثاق لشركة، لأن الفيض هو شركة بين النبع والملء الذي في المصب، فالنبع أي المصدر هو الآب، والملء الذي يملأ الكل في الكل هو الابن الحبيب [ الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل ] (أفسس 4: 10) [ (الكنيسة) التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل ] (أفسس 1: 23) . فكل شيء من الآب (المصدر) بالمسيح (الملء) في الروح القدس (المصب)
باختصار شديد لكي لا أُطيل في الموضوع، الانبثاق هو الاستعلان الشخصي للطبيعة الروحية التي للألوهة. والولادة هي الاستعلان الشخصي لقبول كل ملء الألوهة، فالانبثاق هو هوية أقنوم الروح القدس كفيض. الولادة هي هوية أقنوم الابن كملء، والولادة ليست مجرد خروج عادي ولا تُشابه أي مفهوم إنساني على الإطلاق، ولكنها خروج كل الملء الذي لايُنتقص قط، فهي خروج الكل منطوقاً في الابن. والانبثاق ليس مجرد خروج عادي، ولكنه خروج الكل كشركة بين الآب والابن، لأن الروح القدس هو روح الآب وروح الابن بآنٍ واحد في مساواة مطلقة، ومن هنا تظهر وحدة الثالوث القدوس، مثل الدائرة، ولكنها دائرة غير منغلقه أو ضيقه، بل متسعه جداً فوق ما نتصور أو نظن أو نفتكر، ومن هذا الاتساع الفائق جداً والغير مُدرك حدثت شركة عجيبة غريبة عن الإنسانية، وهو دخول الإنسان في حياة الشركة الإلهية كالتدبير بالابن الوحيد الجنس الذي اتخذ جسم بشريتنا ليوحدنا بشخصه ليدخلنا لدائرة المجد الإلهي الفائق بطريقة ما، لذلك وهبنا روح الشركة الروح القدس الرب المُحيي حسب وعد الآب، الذي كان يستحيل أن نناله بدون تجسد الابن الوحيد، لأنه هو روح التبني الذي به نصرخ أبا أيها الآب، لأننا صرنا ابناء لله في الابن الوحيد: [ ثم بما إنكم أبناء (أو صرتم ابناء) أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب ] (غلاطية 4: 6)
وليكن عندنا علم يقين أن أي شرح للثالوث القدوس من جهة ذاته بدون إعلان الشركة ودخولنا فيها، هو تزييف، بل واعتقاد الإنسان أنه يعرف عن شخص الله وطبيعته وهو لم يدخل بعد في هذه الشركة عملياً في واقع حياته الشخصية، فهو كاذب وقد زيف التعليم دون أن يدري، لأن الله لا يُعرف بالفكر والنظريات والمصطلحات، بل ولا يُعرف أبداً إلا بإعلان ذاته لنا في شركة معه، لذلك قال الرسول يوحنا في رسالته الأولى الإصحاح الأول:
[ الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فأن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً ]
لذلك يا إخوتي فأن كل من يَدَّعي معرفة الله ويشرح المصطلحات التي تدل عن طبيعته وهو ليس في شركة معه لا تصدقوه ولا تأخذوا منه تعليماً، حتى لو كان صحيح، لأن الله لا يقصد أن نملأ عقولنا بمعلومات عنه (لأنها مستحيلة أيضاً لأن مستحيل على وجه الإطلاق على أي إنسان مهما من يكون هو أن يدرك كمال طبيعة الله)، لأنها لن تنفع (المعلومات) حياتنا ولا أبديتنا، لأن قصده من معرفته أن يكون لنا شركه معه، لذلك اتحد بنا ليس فكرياً، بل اتحد بنا اتحاد حقيقي ظهر في ملء الزمان لنكون واحداً معه [ ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من إمرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني ] (غلاطية 4: 4)، ويُقيم شركة معنا وندخل داخل الله فتكون أبديتنا مضمونه، لأننا صرنا أبناء وليس عبيد:
+ [ لا أعود أُسميكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي ] (يوحنا 15: 15)
+ [ أجاب يسوع وقال له الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله ] (يوحنا 3: 3)
+ [ وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله ] (يوحنا 1: 12 و13)
+ [ أجاب يسوع الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله [ (يوحنا 3: 5)
+ [ لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح (أو في المسيح) قد لبستم المسيح ] (غلاطية 3: 27)
+ [ لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع ] (غلاطية 3: 26)
+ [ كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلِدَ من الله، وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً ] (1يوحنا 5: 1)
+ [ ثم بما إنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب ] (غلاطية 4: 6)