حوار مع عائلة “نسببة” المسلمة المؤتمنة على مفتاح كنيسة القيامة، العائلة المسلمة تشهد للنور المقدس
حوار : مريم مسعد ولوسي عوض
وجيه نسيبه ل “وطنى” عبر الهاتف من القدس :
· تحظى عائلتنا بشرف ختم باب القبرفي سبت النور من كل عام.
· مسئولية تاريخية نعتز بها ونتوارثها جيلاً بعد جيل.
· أبلغ معاني الوحدة الوطنية على أرض القدس في كنيسة القيامة.
هنا قام المسيح من بين الأموات، وارتفع حيًا إلى جانب الإله الآب.. فكان أن أطلق عليها اسم “كنيسة القيامة”.. يجتمع المسيحيون من كل صوب وحدب لمشاهدة النور المقدس.. حيث يسير موكب عظيم إلى القبر لفحصه وللتأكد من خلوه من المواد المشتعلة، ثم يخرج الموكب ويقوم بتشميع باب الغرفة، ويختم الشمع بختم عائلتي “جودة ونسيبة” استعداداً لخروج النور المقدس.. نعم إنهما عائلتان مسلمتان ال “جودة” – أمين مفتاح كنيسة القيامة في القدس و ال “نسيبة” – المسئول عن فتح كنيسة القيامة.
تتجسد أبلغ معاني الوحدة الوطنية على أرض القدس في كنيسة القيامة.. اذاء كل ما سبق حاورت “وطنى” هاتفياً السيد “وجيه نسيبة” – احد كبار آل “نسيبة” فى مدينة القدس، حيث تطرق الحوار للعلاقة الوثيقة التي تربط عائلة “نسيبة” المسلمة بكنيسة القيامة، وبنور القبر القدس على وجه الخصوص.
وبالرغم من أنه حوار تليفوني، إلا أنه تميز بالتلقائية والتشويق والمعلومات الغزيرة إلى جانب ما يتحلى به “وجيه نسيبة” من اخلاقيات معروف بها أبناء مدينة القدس فكان بالفعل طوال مدة الحوار تجسيد رائع لسماحة الاسلام من حيث رحابة الصدر و طول الأناة وأمانة الكلمة.
“نحن نعتز كعائلة مسلمة بالمحبة بيننا وبين جميع الطوائف المسيحية وهذا تاريخ طويل ضارب في القدم و يرتبط بإبرام إتفاقيات ماتزال قائمة حتى يومنا هذا، وتعتمد بالأساس على المحبة والإحترام لجميع الناس، حيث لا فرق بين المسيحى والمسلم واليهودى، لأن اسلامنا يحضنا على محبة الجميع” بهذه الكلمات أستهل السيد “وجيه نسيبة” حديثه.. و بدأنا الحوار عن تاريخ آل “نسيبة” وكيف أوكلت إليهم مهمة الحفاظ على مفتاح كنيسة القيامة وهم عائلة مسلمة؟!!
قال نسيبة لوطني: تعد كنيسة القيامة من أعرق وأقدم وأهم الكنائس في العالم، وتقع في قلب القدس.. وسميت بهذا الإسم نسبة إلى قيامة المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث من موته على الصليب، على حسب العقيدة المسيحية. وشيدتها الملكة هيلانه – أم الامبراطور قسطنطين الكبير، ومكث البناء عشر سنوات ودشنت كنيسة القيامة عام 335 م ويطلق اسم القيامة على مجموع الكنائس التي شُيدت فوق القبر والجلجلة ومغارة الصليب، وهي منذ تلك الفترة وحتى اليوم تمثل وجهة الحج المسيحي.
وتحظى عائلتنا – يقول وجيه نسيبة – بمكانة مرموقة بين رجال الدين المسيحي، ولا زلنا نحتفظ حتى الآن على شرفية ختم باب قبر المسيح في سبت النور من كل عام.. واختلف المؤرخون في تحديد البداية التاريخية لهذه المسؤولية، فهناك قول يؤيد آل “نسيبة” يرى ان هذه الوظيفة بدأت منذ فتح عمر بن الخطاب القدس وقدم له البطريرك سفرونيوس مفاتيح كنيسة القيامة، كي تصبح الأماكن المقدسة أمانة في عنق المسلمين، وبحث الخليفة عن رجل يأتمنه فوجد عبد الله بن نسيبة المازنية الخزرجية خير من يقوم بهذه المهمة. وبذلك توارثت العائلة مهمة الحفاظ على الأمانة حتى احتلت الجيوش الصليبية مدينة القدس سنة 1099 ميلادية، وخرجت العائلة (ممن تبقى من رجالها) مع من خرج من القدس، وكان منتهى المطاف قرية بورين. وفي عام 1187 تمكن البطل صلاح الدين من قهر جيوش الصليبيين، وعادت الأسرة مع من عاد بقيادة صلاح الدين حيث أعاد المهمة إلى آل “نسيبة” وكان في هذه المرة لا يرمي إلى المحافظة على المدينة المقدسة، بل كان يخشى تسلل الجنود الصليبيين بثياب الكهنة فيحاولون استرداد المدينة المقدسة حيث إن الصليبين كانوا يريدون أيضاً نقل بعض القطع الدينية الأثرية إلى الفاتيكان.
لمس الأتراك أيام الحكم العثماني ضرورة تعزيز المحافظة على الكنيسة نظراً للنزاع الذي كان ينشب بين الطوائف المسيحية بخصوص ملكية المكان وما يحويه، ومن ناحية أخرى تنظيم العائدات التي كان الأتراك يحصلون عليها من الضرائب المفروضة على الحجاج والتي كانت تدفع عند باب القيامة وتحولت في النهاية إلى وقف تنفق على المحتاجين من المسلمين. لذلك أشرك الأتراك عائلات أخرى في القيام بالمهمة فاسندت مهمة المحافظة على الأمن إلى ضباط من عائلة “جودة”، بينما أحيطت مهمة جمع الضرائب إلى عائلة “مصطفى آغا” المعروفة حالياً بعائلة “درويش”، وذلك بموجب فرمانات محفوظة حتى الآن لدى العائلتين، وبإلغاء الضريبة المفروضة انتهى أمر وظيفة أمين الصندوق، وبقي أبناء “جودة” يحافظون على المفتاح، ويُسلموه ل آل “نسيبة” عند فتح الباب يومياً ولهم ثلث إيراد باب القيامة وآل “نسيبة” لهم الثلثان. وتتساند العائلتان منذ ذلك الحين على الحفاظ على الباب مع أن المركز أصبح صورياً.
أُبطلت الضريبة عندما خسرت تركيا الحرب في القرن التاسع عشر، وكانت قيمة رمزية تجبى من الزائر الأجنبي، أما اليوم فتحول الأمر إلى شبه موازنة سنوية تُغطيها الطوائف الممثلة في كنيسة القيامة وتوزع على أفراد العائلتين بنسبة ثلثين وثلث.
هل تعرضت العائلة لأية مضايقات أو إضطهادات؟
نعم تعرضت آل “نسيبة” للكثير من الإضطهادات، فقد كان ولازال لعائلتنا مكانة مرموقة بين رجال الدين المسيحي، ونحتفظ حتى الآن على شرفية ختم باب قبر المسيح في سبت النور من كل عام، وقد تعرضنا للملاحقة في عهد المماليك ونفي جدنا إلى مصر كما اضطهدت العائلة وشُردت في عهد إبراهيم باشا وهذا يفسر قلة عدد أفراد العائلة الآن.
ورغم الإضطهادات وقلة أعدادنا فإن عائلة آل “نسيبة” لها مكانة طويلة عبر التاريخ فمنهم من كان محافظاً بالقدس وسفيراً فى عهد جمال عبد الناصر وهيئة الأمم ومنهم من كان أيضا رئيساً لجامعة القدس بالإضافة للعديد من الموظفين بالمجلس الإسلامى الأعلى بمدينة القدس ووزارء بالحكومة الاردنية.
هل توجد وثائق ومصادر تؤكد و تثبت هذه المهمة الموكلة إلى ال “نسيبة” ؟
مهمة المحافظة على كنيسة القيامة كانت متوارثة قبل عهد الفرمانات، وقد اطلع المحامي والمؤرخ المرحوم عمر الصالح البرغوثي على بعض الوثائق القديمة التي كانت لدى المرحوم “سليم نسيبة” قبل أن تقضى عليها النيران.
ويؤكد المؤرخ عمر الصالح البرغوثي – صاحب مؤلفات كثيرة منها تاريخ فلسطين والوزير اليازوري: “أيام الفتح الأولى اختلفت الطوائف المسيحية فيما بينها، واحتكمت لدى عمر بن الخطاب، ولما كان عمر يتميز بصدقه وعدله، سأل المسيحيين من يُرشحون لتسلم مفاتيح كنيسة القيامة ومسؤولية صيانتها، قالوا بل اختر من قومك: فاختار عائلة “نسيبة” وهي من قبيلة خزرج اليمنية، وهي من أقدم وربما أقدم عائلات القدس، إلا أنها نزحت إلى قرية بورين في قضاء نابلس واستوطنت هناك حتى معركة حطين، ودخل صلاح الدين القدس واستفسر عمن كان مؤتمناً على المفاتيح؟ فقيل له آل “نسيبة”، فأعادها إليهم واشرك عائلتين معهم في المهمة”.
كيف تقاسمون العمل مع آل جودة؟
فى الفترة العثمانية 1612 أضيفت عائلة جودة فى مهام كنيسة القيامة فصارت عائلة آل نسيبة هى الموكلة بحماية الأماكن المقدسة وفتح كنيسة القيامة وهى من ترتب الزيارات، وعائلة جودة هى المسئولة بالمحافظة على مفاتيح الكنيسة ولا يجوز لهم فتحها.
هل لآل “نسيبة” مهام أخرى بجانب الحفاظ على مفتاح كنيسة القيامة؟
يوم سبت النور نقوم بختم القبر بعد فحصه ولا يجوز بعد وضع الختم، لأي شخص الدخول للقبر لمدة ساعتين بعد نزول البطريرك الارثوذكس اليونان الذي يتأكد من وضع ختم القبر. كما نكون في إستقبال كبار الضيوف بصفة رسمية، ولابد من تواجدنا مع كافة الطوائف المسيحية فى إستقبال أي مسئول أو أي بطريرك.. وبالمحبة التى تربطنا بجميع الطوائف نقوم بحل أي خلاف يحدث بين مواعيد الطوائف الخاصة بالتنظيف أو السكن ودياً.
كيف تسير الأمور بينكم؟ هل لديكم مجلس إداري أو ما شابه؟
الأمور لدينا تسير مثل الدولة الملكية أي أننا نتوارث المناصب، وبالتالي مفتاح كنيسة القيامة يكون من مسئولية الأبناء الذكور أو يتولاه أحد الأخوة في حالة عدم وجود أبناء ذكور، وفى حالة إعتذار أحد فإنه من الواجب تكليف فرد آخر من العائلة. وهذا كله ليس نتاج اجتهادات شخصية وإنما هو وفق فرمانات سلطانية من السلاطين العثمانين. وحاليا فإن جلالة الملك الأردني هو من يتولى هذه المهمة.
أما بالنسبة لتنظيف كنيسة القيامة فكل طائفة تقوم بالتنظيف بالتناوب كل أسبوع والأقباط يجوز لهم تنظيف القبر من الداخل.
أما قبر يوسف الرامى ونيقوديموس فهو في يد الأرمن ويجوز تنظيفه أيضا والعناية به من قبل الأقباط السريان، وهو ما نسيمه الوضع القائم حيث إن كل طائفة تختص بتنظيف وعناية الأماكن الخاصة بها، أما القبر والأماكن الرئيسية فيجب الإتفاق في أي أمر بشأنها بين الطوائف الثلاثة.
ما قصة الجزية التى كانت مفروضة؟
كانت تُسمى ضريبة “المحفر” أو “الكفارة” وفُرضت في زمن السلطان العثماني سليمان القانوني وهي: أربعة عشر قرشاً عن الحاج الأجنبي الأوروبي، وسبعة قروش عن الحاج اليوناني، وخمسة قروش عن الحاج الأرمني، وثلاثة قروش عن القبطي، وقد استُثني من هذه الضريبة رجال الدين والأحباش.
كانت هذه الضرائب تجمعها في أسبوع الآلام هيئة مؤلفه من: نائب متصرف عكا المسئول عن الأوقاف، ومتسلّم القدس، ورئيس الجباة وبعض الأعيان، ثم أُلغيت بأمر رسمي من إبراهيم باشا سنة 1834م.
أما هذه الأيام فإن الأمناء على باب كنيسة القيامة من آل “نسيبة” وآل “جودة” يتقاضون بنسبة الثلثين لآل “نسيبة” والثلث لآل “جودة” مكافآت مختلفة منها ما يسمونه “الفتحة” ومنها “الدخلة” وتؤخذ في الأعياد وهي أربعون قرشاً عن كل طائفة ومنها “الدِيّة” تجبى في سبت النور وتتراوح بين 30، 50 و70 جنيهاً.
كيف يسير العمل داخل كنيسة القيامة؟
كنيسة القيامة تفتح حسب المواعيد المحددة كل يوم من الساعة الرابعة صباحاً حتى السابعة مساء فى فصل الشتاء، وفى فصل الصيف من الرابعة صباحاً حتى الثامنة مساءً وتغلق فى مواعيد الراحة كل طائفة. كما أن لكل طائفة مواعيد لصلواتها ومواعيد لتنظيف الكنيسة ونحن نقوم بالإشراف على كل الأمور الصغيرة والكبيرة ماعدا الشئون الروحية والكنسية فمسئوليتنا إدارياً ونحمل في أعناقنا تلك الأمانة، ونحتفل مع جميع المسيحيين في كافة أعيادهم ونتبادل الزيارات في جميع المناسبات – الحزينة منها والسعيدة.
مناسبات عديدة تقام و مسيرات.. ما دور عائلة نسيبة فى هذه الاحتفالات ؟
بكل تاكيد نتشارك مع كافة الطوائف، مع الروم الارثوذكس والأرمن واللاتين في خميس الأسرار والجمعة العظيمة وسبت النور وفقا لمراسم ثابتة، حيث يحمل أحد الخوارنة مفتاح القيامة وعند الباب يسلمه إلى عائلة “جودة” الذي يقوم بدوره بتسليمه إلى “وجيه نسيبه” لفتح الباب. ان انتقال المفتاح بهذا الشكل وبمشاركة الطوائف المسيحية الثلاث دلالة ورمز على أننا لم نأخذ المفتاح من المسيحيين بالقوة.
صف لنا موكب سبت النور .. و ختم عائلة نسيبة على شمع القبر؟
نتواجد في الموكب الاحتفالي إلى كنيسة القيامة، استعداداً لاستقبال سبت النور الذي يسبق ليلة العيد، ويقف فيه المسيحيون من كافة أرجاء المسكونة أمام قبر المسيح لمشاهدة النور المقدس. وتتناقل كافة الفضائيات والإعلام الدولي الحدث، يبدأ في الثامنة صباحاً و معهم ممثل عائلة “نسيبة” وراهب من الكنيسة، ويسير أمامهم خدام الكنيسة يمسكون عصى خشبية بأيديهم يدقون بها على الأرض لإفساح الطريق للموكب، حتى نصل لباب الكنيسة. فيضع ممثل عائلة “نسيبة” سلماً يصعد عليه لفتح القفل الأعلى للباب ثم يهبط لفتح القفل الأسفل، ثم يدخل الموكب إلى الغرفة التي تحوى القبر المقدس للتأكد من خلوها من المواد المشتعلة، ثم يخرج الموكب ويقوم بتشميع باب الغرفة، ويختم الشمع بختم عائلتي “جودة ونسيبة””.
وأوضح أيضاً لوطني أنه بعد ختم باب القبر يصعد الموكب إلى بطريرك الروم الأرثوذكس في الدير وينزلون معه إلى القبر فيفتح الباب ويدخل البطريرك بمفرده إلى داخل القبر ويقيم صلوات خاصة لنحو ساعة، يخرج بعدها شعلة النور من القبر، لذلك سمي “سبت النور”.
ما رؤيتكم فى مشكلة دير السلطان؟
دير السلطان مشكلة لها أبعاد سياسية بين حكومات إلى جانب أبعادها الدينية وهي ليست وليدة هذا الزمان، وفي الحقيقة وهذا خارج حدود تخصصنا.
ما الذى يريد أن يختم به وجيه نسيبة حديثه ؟
دائما أقول.. لدينا مسئولية نعتز بها ونتوارثها جيلاً بعد جيل.. أنا لا أمثل عائلتي فحسب بل أنا أمثل العرب والمسلمين في مدينة القدس التي رسخت وتجسدت فيها مظاهر التسامح بين المسيحيين والمسلمين.