طبيعة الوحدة بين اللآب والابن للقديس كيرلس الأول
طبيعة الوحدة بين الآب والابن[1]
نتعرف من خلال هذا الجزء من كتاب “حوار حول الثالوث” للقديس كيرلس، على التعليم الصحيح عن طبيعة الوحدة بين الآب والابن. والجدير بالذكر أن القديس كيرلس كتب هذا العمل في صورة حوار بينه وبين إرميا:
كيرلس: الابن مساوٍ للآب في الجوهر، لأنه بالحق خرج من الآب، وهو فيه بالطبيعة والجوهر. وكما إننا لا نستطيع أن نقول بشكل قاطع إنه مساوٍ لنا في الجوهر بدون أن يكون قد صار إنسانًا، كذلك بنفس الدرجة لا نستطيع أن نقول إنه في الله وواحد معه، إلاّ إذا كان له فعلاً كل خصائص طبيعته، ولا كان ممكنًا للبشر أن يكونوا شركاء الطبيعة الإلهية إلاّ بواسطة الغنى الذي سكبه عليهم الابن، وبواسطته.
إن الابن له اتحاد حقيقي وطبيعي بالآب، ونستطيع بدون عناء أن نتعرّف على مكانة الابن من حديثه مع الآب السماوي حينما يقول: “لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ“[2].
إرميـــا: وإذا قالوا إن وحدة الابن مع الآب، تشبه ما نلاحظه فى علاقاتنا نحن البشر، فبماذا نجيب؟ دعنى أوضح ما أريد قوله. مكتوب: “َكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ”[3]، فعلى الرغم من كونهم نفوسًا عديدة صاروا نفسًا واحدة. وهذا لا يعنى وحدة الطبائع ولكن وحدة الإرادة والهدف والفكر، ولأن الابن له نفس مسرّة الآب، فهو واحد معه فى الإرادة والفكر مثلنا نحن البشر فى علاقتنا بعضنا ببعض. وهكذا يذهب هؤلاء البؤساء إلى كل مكان ويدمّدمون بهذه الكلمات.
كيرلس: ولكن هذا يدل مرّة أخرى على أنهم يرتكبون جريمة واضحة بغباوتهم التى وصلت إلى حد بعيد، وأن حالة من التوتر تقود أفكارهم. ومعروف أن الأفكار المنحرفة إنما تصدر عن أناس فقدوا إتزانهم، وكما هو مكتوب أن “اللَّئِيمَ يَتَكَلَّمُ بِاللُّؤْمِ وَقَلْبُهُ يَعْمَلُ إِثْمًا لِيَصْنَعَ نِفَاقًا وَيَتَكَلَّمَ عَلَى الرَّبِّ بِافْتِرَاءٍ”[4].
وكيف لا نرى اللؤم والجهل والعبث الذى وصل إلى حد لا يطاق فى حديثهم وتأييدهم لفكرة أن وحدة الابن مع الله الآب ليست أمرًا جوهريًا؟ بل هى أمر اختيارى أو اتحاد بالإرادة، وهو بذلك لا يختلف كثيرًا عن البشر المدعوّين للتبني، والذين يطلق عليهم الاسم الإلهي بإرادة الآب بسبب أن فضائلهم جعلتهم أهلاً للحصول على هذا المجد العظيم. وبهذا الشكل ماذا يمنع أي واحد من القديسين من أن يفكر، بما إنه صَنَع ما يرضى الله ومسّرة السيد، فيمكنه أن يستخدم كلمات الابن الوحيد ويتوّجه بها إلى الآب قائلاً “كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ“؟[5].
فليُظهروا لنا إذا كان أحد القديسين قد تجرأ ونطق بهذا الكلام. والحقيقة أن القديسين كلّما وصلوا إلى مرتبة عالية في القداسة، كلّما تذّكروا خطاياهم ولم ينسوا طبيعتهم البشرية[6]. وهناك آلاف الشواهد الكتابيّة على ذلك، ولكنى أترك هذا التدرّيب الروحي للذين يحّبون العلوم المقدّسة، غير إنى سأواجه ما يقدّم من حجج، وأعود إلى الوراء قليلاً لأكلّمهم عن الوحدة كما نحياها نحن البشر فيما بيننا، إنها وحدة بالإيمان كما يتفق على ذلك الجميع، هذه التي تقرّبنا من بعضنا وليس هناك اختلاف في الجوهر يمكن أن يفرّق بيننا حتى ولو كان لكل واحد فينا أقنومه الخاص.
نحن جميعًا واحد في الجوهر الإنساني الواحد، أما فيما يخص وحدتنا مع الله، فالأمر لا يقتصر على مجرد ميل الإرادة، ولكن هناك عامل أخر يُكلّمنا عنه الطوباوي بولس حينما يقول “فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ جَسَدٌ وَاحِدٌ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ”[7]. وهل تجهل أن الأمم يتحدّون بالمسيح بالإيمان والأولوجيا (البركة) السرائرية؟
إرميــــا: لا طبعًا أنا لا أجهل ذلك ..
كيرلـس: هل نحن فيما بيننا نحيا في وحدة الطبيعة والإرادة مثل تلك الوحدة التي سوف نكتشف إنها لنا في المسيح.
إرميــا: ماذا تريد أن تقول، فإني لا أستطيع أن أفهمك بسهولة.
كيرلس: لا يوجد شئ صعب في هذا الكلام، وما أقوله يفهمه كل إنسان حكيم ومطلّع على الأمور. نحن الذين ننتسب للبشّرية، نحن نرتبط أولاً بعضنا ببعض ارتباطًا وثيقًا، وذلك برباط طبيعتنا الواحدة وفى نفس الوقت مرتبطون ومتحدون بطريقة أخرى، فكل منا له أقنومه الخاص، فالواحد بطرس والآخر يوحنا، وواحد توما والآخر متى، وقد صرنا أعضاء في جسد المسيح، نتغذى على نفس الجسد ومختومين في الوحدة بالروح القدس.
ولأن المسيح غير منقسم فنحن واحد فيه وهذا هو السبب وراء قوله للآب السماوي “لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ“. ففي المسيح وبالروح القدس نحن واحد بالجسد وبالروح. وما نعيبه على الذين لهم رأى أخر إنهم لا يفهمون النصوص الخاصة بطبيعتنا البشرية.
إرميـــا: إنهم مخطئون وملامون بكل تأكيد، ولكن اسمح لي ـ أنا المشتاق للمعرفة ـ أن أسألك، إذا كنا نقبل أن يُقال إن الابن متحد بالآب تمامًا مثل اتحادنا نحن ببعضنا البعض، أم أن وحدة الابن بالآب أسمى من وحدة البشر؟
كيرلس: الابن متحد بالآب مثلنا، وفى نفس الوقت أسمى منا، فالكلّ متفقون على أنه واحد في الجوهر (هوموأوسيوس) مع ذاك الذي وَلَده، لأنه ابنه الحقيقي. وهذا الأمر كائن في أقنومه الخاص، ولكن وحدتهما طبيعية، ولا يمكن أن تتعّرض الأقانيم لأي تغييّر كما يظن البعض، بحيث إن نفس الأقنوم يكون أبا وابنًا. ولكن كل أقنوم قائم بذاته ويمتلك وجودًا خاصًا به. ووحدة الجوهر هي التي تُعرِّف وحدة الأقانيم معًا.
إرميــا: أتريد أن تقول إن الابن موجود بجوهره الذاتي (῎ιδια οὐσία) بجانب جوهر الآب؟
كيرلس: ليس بجوهر أخر غير جوهره كإله، ولكن بأقنومه الخاص كابن.
إرميــــا: إذن يجب أن نميّز بين الجوهر و الأقنوم.
كيرلس: نعم، هناك فارق كبير بين الاثنين وذلك لأن الجوهر يحتوى كل الصفات الجوهرية.
إرميـــا: كيف تشرح ذلك، أعذرني لأني بطئ الفهم في مثل هذه الأمور.
كيرلس: يجب أن تعرف أنه حتى بالنسبة لي شخصيًا، فالحديث في هذه الأمور ليس بالأمر السهل، ولكن لابد أن نفحص الأمر، فالجوهر هو حقيقة مشتركة، بينما الأقنوم يُطلق على الأقانيم المُشتَرِكة في هذا الجوهر الواحد، انتبه فسوف أشرح لك ذلك:
إرميــا: وكيف يكون ذلك؟
كيرلس: نحن نُعرّف الإنسان بأنه “حي وناطق وفاني” وهذا هو المفهوم المناسب له، ونحن نقول إن هذا يُعبّر عن جوهره. وهذا التعريف ينطبق على كل الأفراد فردًا فردًا، وهنا يجد توما ومرقس وبطرس وبولس مكانهم الصحيح حسب اعتقادي، وهكذا نحدّد الجوهر ولكننا لا نحدّد بعد ماهية الأشخاص الذين نتكلّم عنهم بشكل دقيق. فحينما نقول “إنسان” بشكل عام فهو ليس بطرس ولا بولس، وحينما نقول توما وبطرس فنحن لا نخرج من حدود ما نسميه بالجوهر الواحد وهذا لا يقلّل من كل منهم “كإنسان”، فقد أظهرناه موجودًا بأقنومه الخاص.
إذن الجوهر هو لكل إنسان دليل على النوع، أما الأقنوم فهو يطلق على كل واحد في ذاته، دون أن ننسى أنه يشير أيضًا إلى شركة الجوهر ولكن دون أن نخلط بين العام والخاص.
إرميــــا: الآن أفهم ما تعنى، لأن عرضك لا يخلو من لباقة وبراعة.
كيرلس: وبقولنا واعترافنا بأن الابن “هوموأوسيوس” مع الله الآب، نُقّر أيضًا أن له “أقنومه الخاص” وهذا معناه أنهما متحدان ومتميّزان في نفس الوقت. وهكذا نصل من الوحدة إلى تمايز الأقانيم. ووحدة الجوهر في كل شئ، والوحدة والمساواة القائمة بين الآب والابن تتعدى تمايز الأقانيم في الآب والابن وتُقدمهما بشكل غير منقسم، ولا نستطيع أن ننزع عن كل أقنوم ما هو خاص به، وذلك لأن الواحد آب وليس ابنًا والابن ابن وليس أبًا.
إرميــا: إذا وافقتني، نستطيع القول إنه يوجد جوهران الآب والابن وهكذا فالتمايز يصير واضحًا .
كيرلس: لا يمكن أن نميّز جوهرين، لا تترك نفسك تُخدع بآراء أولئك الناس ذوى الأفكار الفاسدة، لا تترك الطر
ق الممّهدة، لتضيع في متاهات.
إرميــــا: كيف يكون ذلك؟
كيرلس: إذا قلنا إن هناك طبيعة للآب وطبيعة أخرى للابن منفصلة عن الأولى، فسنصل إلى أن نفصل بينهما. لأنه بالنسبة للبشر لا يمكن أن نقول “جوهر وجوهر آخر، ونوزّع على كل كائن خاص، الصفات المشتركة، كما لو كانت تخصه هو وحده، وفى الحقيقة إذا قبلنا مبدأ وجود أكثر من جوهر واحد كوسيلة لإظهار التمايز، فإن الجوهر العام الواحد سوف يضيع وسوف يؤدى الاختلاف الجوهري (حسب تصورهم) إلى خلق حالة من الانفصالية والاختلاف، وهكذا نصل إلى وجود تعدّد[8] واختلاف حسب الطبيعة.
إرميـــا: أعتقد أن هذا صحيح .
كيرلس: بهذا الشكل لا يتبقى لنا إلاّ أن نقول إن كان الابن حسب رأيهم ليس مساويًا لله الآب في الجوهر، وأنه من جوهر آخر مختلف ومن طبيعة أخرى فهذا يُخرجنا من الحدود التي تُعرّف بها الألوهة. ففي حالة كون الابن له جوهره الخاص، فسيكون غريبًا عن جوهر الله الآب.
1عن كتاب: حوار حول الثالوث، ترجمة وإصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، الطبعة الثانية 2008م، ج1، الحوار الأول ص55ـ61.
6 هنا يعتمد ق. كيرلس على شرح القديس أثناسيوس لهذه الآية ويتبع نفس تعليمه. انظر المقالة الثانية ضد الآريوسيين فقرة 19.