آبائيات

اثناسيوس الرسولي شرح نص كونه أمينا للذي أقامه (عب3:2)

اثناسيوس الرسولي شرح نص كونه أمينا للذي أقامه (عب3:2)

اثناسيوس الرسولي شرح نص كونه أمينا للذي أقامه (عب3:2)

 

اثناسيوس الرسولي شرح نص كونه أمينا للذي أقامه (عب3:2)
اثناسيوس الرسولي شرح نص كونه أمينا للذي أقامه (عب3:2)

            سوف نشرح مرة أخرى معنى الأقوال التى أوردناها لكى نذكّر بها المؤمنين ونوضح لهم بواسطة كل قول من هذه الأقوال أن هؤلاء لا يعرفون المسيحية على الإطلاق. لأنهم لو كانوا يعرفونها لما أغلقوا على أنفسهم في عدم الإيمان[1] كاليهود المعاصرين[2]. بل كانوا سيسألون فيخبرونهم أنه ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله[3]. وهكذا بمشيئة الآب صار الكلمة نفسه إنسانًا، وهذا ما قاله عنه يوحنا بحق ” أن الكلمة صار جسدًا[4]. وما قاله بطرس: ” جعله ربًا ومسيحًا[5].

والرب نفسه يتكلم على لسان سليمان ويقول: ” الرب أقامنى أول طرقه لأجل أعماله”[6]. وبولس يقول: ” بهذا المقدار صار أعظم من الملائكة[7]، وأيضًا: ” أخلى نفسه آخذًا صورة عبد[8]، ومرة أخرى: ” ومن ثم أيها الاخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية تأملوا رسول ورئيس كهنة اعترافنا، يسوع، حال كونه أمينًا للذي أقامه[9]، لأن كل هذه الأقوال لها قوتها الذاتية ولها مضمونها الذي يقود إلى التقوى ويظهر ألوهية الكلمة، وأن ما قيل عنه بحسب بشريته قد قيل بسبب أن الكلمة صار أيضًا ابن الإنسان.

          ولكن رغم أن هذه الأمور كافية من تلقاء ذاتها لدحض أى اعتراض، إلاّ أنهم نظرًا لعدم فهمهم لقول الرسول، يعتقدون أن كلمة الله هو واحد من المخلوقات وذلك بسبب ما هو مكتوب ” كونه أمينًا للذى أقامه“. لهذا رأيت أنه من الضرورى أن أواصل هذا الكلام كي أخجلهم بمثل كلامى السابق مستمدًا مادة النقاش من أقوالهم نفسها.

           فلو لم يكن هو الابن، لأمكن أن يُسمّى “مخلوقًا” وكل ما يُنسب إلى المخلوقات سيُنسب إليه، ولن يُلقب وحده “ابنًا” ولا كلمة ولا “حكمة” ولن يُلقب الله أيضًا “بالآب”، بل فقط “بالخالق” و”البارى” للأشياء “الصائرة” بواسطته. وستكون الخليقة هي صورة وملامح إرادته الخلاّقة. ووفقًا لتعاليمهم فهو ذاته (الآب) لن تكون طبيعته مثمرة. وبذلك لن يكون لجوهره الذاتى أى “كلمة” ولا “حكمة” ولا “صورة” إطلاقًا. فلو لم يكن هو “ابنًا” فلن يكون “صورة”.

          ولكن لو لم يكن هناك وجود للابن فكيف يمكن أن تقولوا إذن أن الله خالق؟ فالمخلوقات إنما قد خُلقت قطعًا بواسطة الكلمة و”الحكمة”. وبغير الكلمة لَما كان ممكنًا أن يوجد أى شئ. والآب كما يقولون عنده الكلمة الذي فيه وبواسطته يخلق كل شئ وإلاّ لكان الجوهر ليس خصبًا بل عقيمًا ومجدبًا حسب رأيهم ـ كالنور الذي لا يضيء وكالنبع الجاف، فكيف لا يخجلون عندما يقولون إن الله لديه طاقة خلاّقة؟ وكيف لا يحمّرون خجلاً وهم ينكرون الذي هو بحسب الطبيعة ويريدون أن يجعلوا الذي بحسب المشيئة متقدمًا عليه؟.

          فإن كانت الأشياء التى معه خارج جوهر الله والتى لم تكن موجودة من قبل ـ قد خلقها عندما شاء أن يجلبها إلى الوجود، وأصبح هو خالقها وصانعها، لكان هو ـ قبل ذلك بكثير ـ أبًا  لمولود من جوهره الذاتى. لأنهم إن كانوا ينسبون لله أنه بالمشيئة يُوجِد الأشياء غير الموجودة، فلِما لا يقرون بأن في الله شئ أعلى من المشيئة، ألا وهو الطبيعة الخصبة، وأن يكون أبًا لكلمته الذاتى؟ وعلى ذلك فإن كان الأول الذي هو بحسب الطبيعة لم يكن موجودًا بحسب جنون أولئك، فكيف يمكن أن يوجد الثانى، الذي هو بحسب المشيئة؟ لأن الكلمة هو الأول، والخليقة هي الثانية.

           فالكلمة كائن موجود مهما تجاسر الكافرون وتمادوا في أفكارهم، وذلك لأن الخليقة قد صارت إلى الوجود بواسطته. فمن الواضح أنه إن كان الله هو الصانع، فعنده أيضًا كلمته الخلاّق الذي هو ليس من خارجه بل من ذاته هو نفسه، وهذا ما ينبغى أن نكرره كثيرًا، فإن كان الله لديه المشيئة، وكانت المشيئة مبدعة وكافية لإيجاد الأشياء المخلوقة، فإن كلمته أيضًا يكون مبدعًا وخالقًا. ومما لا شك فيه أن الكلمة ذاته هو مشيئة الآب الحيّة، وقوته الجوهرية، وهو الكلمة الحقيقي الذي به تتكون جميع الأشياء وهو يضبطها جيدًا.

ولن يتردد أحد في القول بأن ذلك الذي ينظم، هو سابق على التنظيم نفسه، وعلى الأشياء المنظَمَة. وكما سبق أن قلنا، يكون عمل الله كخالق هو تالٍ لكونه أب. لأن الابن هو خاصته وهو حقًا من ذلك الجوهر الأزلى المُطوّب. أما الأشياء المنظَمَة فقد صارت إلى الوجود من مشيئته الذاتية، من خارجه، وقد خُلقت بواسطة ابنه الذى من ذات جوهره.

           إذن فبما أن الحديث يوضح السخف الشديد للقائلين بأن الرب ليس هو ابن الله بل هو مخلوق، لذلك فمن الضرورى أن نعترف نحن بأن الرب هو الابن. وإن كان هو ابن ـ كما هو هكذا بالحقيقة ـ فالابن يجب أن يُعترف به أنه ليس من خارج أبيه بل هو الذي وَلَده. لذا يلزم ـ كما سبق أن قلنا ـ أن يكفوا عن تحوير الأقوال التى يستعملها القديسون بخصوص الكلمة نفسه. لأنهم يستخدمون عبارة “الذي أقامه” بدلاً من “الذى وَلَده”، لأنه لا علاقة لهذه الأمور بالألفاظ طالما أن الابن قد اُعترف به أنه من طبيعة أبيه.

فليست الألفاظ هي التى تقلل من قدر طبيعة الأشياء، بل بالأحرى فإن طبيعة الأشياء هي التى تضفى المعنى على الألفاظ وغيرها. لأن الألفاظ ليست سابقة على جواهر الأشياء بل أن الجواهر هي الأولى والألفاظ تأتى تالية لها.

           ولذلك فعندما يكون الجوهر “مصنوعًا” أو “مخلوقًا” عندئذٍ فإن الألفاظ: “صنع” و”صار” و”خلق” تُقال عنه بصفة خاصة ويقصد به أنه “مصنوع”. ولكن حينما يكون الجوهر مولودًا وابنًا، عندئذٍ فإن ألفاظ “صنع” و”صار” و”الخلق” لا تُستخدم بحسب مفهومها الحرفى، ولا تعنى أنه “مصنوع”، بل تكون كلمة “صنع” قد استُخدمت بدلاً من “وُلِدَ” بدون تحديد. وفي أحيان كثيرة يلقب الآباء أبناءهم الذين ينجبونهم عبيدًا لهم، دون أن ينكروا أصالة طبيعتهم. وأحيانًا يجاملون عبيدهم ويسمونهم أبناء دون أن يفقدوا حق امتلاكهم منذ البداية.

إلاّ أنهم في الحالة الأولى يسمّون أبناءهم عبيدًا من خلال سلطانهم كآباء، وفي الحالة الثانية يسمّون عبيدهم أبناء بدوافع إنسانية، فسارة كانت تدعو إبراهيم سيدًا[10] رغم أنها لم تكن عبدة له، بل كانت زوجة. وكان الرسول يصف أونسيموس العبد كأخ لفليمون الذي كان “سيدًا”[11]، أما بتشبع فرغم كونها أمًا دعت ابنها عبدًا قائلة “عبدك سليمان”[12]. وكذلك ناثان النبي أيضًا بعد أن وصل قال لداود نفس كلامها بأن “سليمان عبدك”[13].

إنهم لم يبالوا أن يقولوا عن الابن إنه “عبد”، لأن داود الذي سمع هذا القول كان يعرف طبيعة سليمان. وهم أيضًا بقولهم هذا لم يكونوا يجهلون أصالة سليمان. وكانوا يطالبون أن يكون وارثًا لأبيه، رغم أنهم كانوا يلقبونه عبدًا، إذ كان هو ابنًا لداود بالطبيعة.

           لذلك حينما نقرأ هذه الأقوال ونتمعن فيها جيدًا، وعندما نسمع أن سليمان عبد، فلا يجب أن نظن أنه كان عبدًا، بل هو ابن طبيعى وأصيل. وهكذا أيضًا في حالة المخلّص المُعتَرف به حقًا أنه ابن، لكونه هو الكلمة بالطبيعة فعندما يقول القديسون عنه: ” كونه أمينًا للذى اقامه[14] أو عندما يقول هو نفسه عن ذاته: ” الرب قنانى[15] وأيضًا: ” أنا عبدك وابن أَمتك[16]. ومثل هذه الأقوال كثير، فإن هذا لا يجب أن يجعل البعض ينكر أصالته من الآب، بل كما حدث في حالة داود وسليمان، هكذا فلنتأمل باستقامة فيما يخص الآب والابن.

فإن كانوا عندما يسمعون أن سليمان عبد يعترفون به ابنًا، أليس من العدل أن يلحقهم الدمار مرات كثيرة لأنهم لا يحفظون للرب نفس اللقب؟! ولكنهم حينما يسمعون الكلمات “ابن”، وكلمة، و”حكمة” يسارعون إلى تحريف وإنكار البنوة الأصلية التى بالطبيعة أعنى ولادة الابن من الآب. وعندما يسمعون كلمات أو أقوالاً تخص ما هو مخلوق ففى الحال يتعجلون الظن أن “الابن” مخلوق بالطبيعة، وينكرون الكلمة رغم أنه في استطاعتهم أن ينسبوا مثل تلك الأقوال كلها إلى بشريته ـ حيث إن الكلمة صار إنسانًا ـ فكيف لا يكون هؤلاء مكروهين لدى الرب.

طالما  أنهم هم أنفسهم يقيسون الأمور بمعيارين[17]: بأحدهما يفسرون الأقوال الأولى وبالآخر يجدّفون على الرب؟ بالواحد يفهمون كلمة عبد حسب هواهم، وبالآخر يركزون على كلمة “الصانع”[18] كسند قوى لهرطقتهم. وهذا السند يكون كقصبة محطمة بالنسبة لهم. وذلك لأنهم سيدينون أنفسهم لو عرفوا أسلوب الكتاب. فقد دُعى سليمان “عبدًا” رغم كونه “ابنًا”.

            كذلك أيضًا ـ ونكرر القول ـ قد يقول الآباء عن أبنائهم الذين أنجبوهم إنهم مخلوقون ومصنوعون وصائرون. فقد قال حزقيا وهو يصلى: ” لأنه من هذا اليوم سأصنع أبناء يعلنون: يا إله خلاصى[19]. فهو يقول “سأصنع” في حين أن النبي في نفس السفر وفي سفر الملوك الرابع[20] يقول هكذا: ” وأبناؤك الذين يخرجون منك”[21]، فهو يستعمل كلمة “سأصنع” بدلاً من كلمة “سألد”، ويقول عن المولودين منه إنهم “مصنوعون”، ولكن لا يشك أحد أن هذا اللفظ إنما يخص الميلاد بالطبيعة.

 

——————————————————

[1] انظر رو32:11.

[2] يستعمل القديس أثناسيوس عبارة “اليهود المعاصرين” ليعبّر بها عن الآريوسيين، انظر المقالة الأولى، المرجع السابق، فقرة 8 ص38، وفقرة 10 ص 24.

[3] يو1:1.

[4] يو14:1.

[5] أع36:2.

[6] أم22:8.

[7] عب4:1.

[8] في7:2.

[9] عب2:3و2.

[10] 1بط6:3.

[11] فليمون16.

[12] 1مل16:1و19.

[13] 1مل26:1.

[14] عب2:3.

[15] انظر أم22:8.

[16] مز16:116.

[17] انظر أم23:20.

[18] يقول الآريوسيون عن المسيح إنه “مصنوع”.

[19] إش19:38و20 (سبعينية).

[20] وهو سفر الملوك الثانى في ترجمة دار الكتاب المقدس.

[21] 2مل18:20.

اثناسيوس الرسولي شرح نص كونه أمينا للذي أقامه (عب3:2)