" إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس " .. شرح نصوص (مت39:26، يو27:12) .. ضد الاريوسيين
شرح نصوص (مت39:26، يو27:12)
” إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس “
” الآن نفسي قد اضطربت “
1 ـ لذلك فهم يتأرجحون إلى أعلا وإلى أسفل ـ كما لو كانوا بهذا يعضّدون هرطقتهم من جديد ـ ويقولون: [ انظروا ها قد بكى وقال ” الآن نفسي قد اضطربت ” (يو27:12) وطلب أن تعبر عنه الكأس (انظر مت39:26)، فكيف إذًا إن كان قد تكلّم هكذا يكون هو إلهًا وكلمة الآب؟ ]. نعم يا أعداء الله، قد كُتب عنه أنه بكى، وأنه قال إضطّربت، وعلى الصليب قال ” إلوي إلوي لما شبقتني، أى إلهي إلهي لماذا تركتني ” (مر34:15)؟ وطلب أن تعبر عنه الكأس. حقًا قد كُتِب هذا، لكن أود أن أسألكم ـ لأنه من الضروري أن أرد على كل إعتراضاتكم ـ إن كان المتكلّم هو مجرد إنسان، فهو يبكي ويخاف الموت لكونه إنسانًا، ولكن إن كان هو الكلمة في الجسد (لأنه ينبغي أن لا أمل من تكرار هذا) فمِمَن يخاف وهو الله؟ أو لماذا يخاف الموت؟ وهو نفسه الحياة، وهو الذي حرّر الآخرين من الموت؟
أو كيف، بينما هو يقول ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ” (لو4:12) هو نفسه يخاف؟ وكيف وهو الذي قال لإبراهيم ” لا تخف لأني معك ” (تك24:26س)، وشجّع موسى ضد فرعون، وقال لابن نون ” تشدّد وتشجّع ” (يش6:1)، كيف يشعر هو نفسه بالخوف أمام هيرودس وبيلاطس؟ وأكثر من ذلك فالذي يُعين الآخرين ضد الخوف (لأن الكتاب يقول ” الرب معين لي فلا أخاف ماذا يصنع بي إنسان ” (مز6:117س) هل يخاف هو الحكّام والبشر المائتين؟ والذي جاء هو نفسه ليبيد الموت، كيف يخاف من الموت؟
ألا يكون أمرًا غير لائق وعديم التقوى أن يقال عنه إنه يخاف الموت أو الجحيم وهو الذي ارتعد منه بوابو الجحيم حينما رأوه؟ ولكن إن كان حسب رأيكم أن الكلمة كان خائفًا، فلماذا إذًا وهو قد تكلّم عن مكيدة اليهود قبلها بوقت طويل، لم يهرب، بل حينما جاءوا للقبض عليه قال ” أنا هو ” (يو5:18).
لأنه كان يستطيع أن يتجنّب الموت، كما قال ” لي سلطان أن أضع نفسي، ولي سلطان أن آخذها أيضًا وليس أحد يأخذها مني ” (يو18:10).
2 ـ لكن اعلموا يا أعداء المسيح، مثل اليهود غير الشاكرين أن هذه الإنفعالات لم تكن من خصائص طبيعة الكلمة؛ بكونه الكلمة، بل كانت من خصائص الجسد الذي اتخذه الكلمة.
لأنه لم يقل كل هذا قَبْل التجسّد ولكن حينما ” صار الكلمة جسدًا وصار إنسانًا، حينئذٍ كُتب عنه أنه قال هذا، أى قاله إنسانيًا. فالذي كُتِبَ عنه هذا، هو الذي أقام لعازر من الأموات، وحوّل الماء خمرًا، ووهب النظر للمولود أعمى، والذي قال ” أنا والآب واحد ” (يو3:10). إذًا فإن كانوا يجعلون صفاته الإنسانية سببًا ليفكّروا أفكارًا حقيرة عن ابن الله، ويعتبرونه بالكامل إنسانًا من الأرض، وليس من السماء، فلماذا لا يعترفون بأنه هو الكلمة الكائن في الآب، من خلال أعماله. ومن ثم يتخلّون عن كفرهم؟
لأنه قد أُعطى لهم أن يروا كيف أن الذي يعمل هذه الأعمال هو نفسه الذي أظهر جسده متألمًا بسماحه له بالبكاء والجوع، وأن يُظهر الخواص الأخرى للجسد. لأنه بينما بواسطة مثل هذه (الخواص) عُرِف أنه قد أخذ جسدًا متألّمًا رغم أنه هو الله غير المتألّم، إلاّ أنه من هذه الأعمال أظهر نفسه أنه بالفعل هو كلمة الله الذي صار فيما بعد إنسانًا وكأنه يقول ” رغم أنكم لا تؤمنون بي حيث ترونني مرتديًا جسدًا بشريًا، فآمنوا بالأعمال ” لكي تعرفوا أني أنا في الآب، والآب فيّ ” (يو38:10). ويبدو لي أن أعداء المسيح لديهم وقاحة كبيرة وتجديف عظيم لأنهم حينما يسمعون القول ” أنا والآب واحد ” (يو30:10) فإنهم يشوّهون المعنى بشدة ويفصلون وحدة الآب والابن وحينما يسمعون أنه بكى، وعرق، وتألّم لا ينسبونها لجسده بل يحصونه بسببها مع الخليقة وهو الذي به خُلِقت الخليقة. إذًا في أى شئ يختلف هؤلاء عن اليهود؟[1] لأنه كما أن اليهود جدّفوا ناسبين أعمال الله إلى بعلزبول، هكذا هؤلاء أيضًا، إذ يحصون الرب الذي صنع تلك الأعمال، مع الخلائق، سوف يقع عليهم مع أولئك (اليهود) نفس الحكم بلا رحمة.
3 ـ إذًا كان ينبغي على هؤلاء عندما يسمعون ” أنا والآب واحد ” أن يروا فيه وحدة الألوهية وجوهر الآب ذاته، وأيضًا عندما يسمعون أنه “بكى” وما يماثلها، أن يقولوا إن هذه الأمور هى خاصة بالجسد، وبنوع خاص لأن هذه الأمور لها أساس معقول من كل جهة، أى أن الكلمات الأولى كُتِبَت عنه بكونه هو الله والأخرى كُتِبَت عنه كإنسان لأن خصائص الجسد لا يمكن أن تصير لِمَن هو بلا جسد لو لم يكن قد أخذ جسدًا قابلاً للفساد والموت.
لأن مريم القديسة التي أخذ منها جسده كانت قابلة للموت، لذلك فمن الضروري حينما كان في الجسد أن يعاني، وأن يبكي، وأن يتعب، فهذه الأمور التي تخص الجسد، تُنسب إليه مع الجسد.
ومن ثم فعندما يقال: بكى، واضطرب، لم يكن الكلمة باعتباره الكلمة هو الذي بكى واضطرب، لكن هذه كانت من خصائص الجسد وأيضًا عندما طلب أن تعبر عنه الكأس فلم يكن اللاهوت هو الذي ارتعد، بل إن هذا الإنفعال أيضًا كان خاصًا بناسوته. وأيضًا فكلمات ” لماذا تركتني “؟ (مر34:15) هى كلماته، بحسب الشرح السابق، رغم أنه لم يتألّم بشئ، لأنه الكلمة غير متألم، وهذا ما أعلنه البشيرون. وحيث إن الرب صار إنسانًا فهذه الأمور تحدث وتقال كما من إنسان، لكي يُبطل أوجاع الجسد هذه، ويحرّر الجسد منها، لذلك لا يمكن أن الرب يُترك من الآب، وهو كائن دائمًا في الآب قبل أن يتكلّم، وأثناء نطقه بهذه الصرخة، وأيضًا ليس من الجائز أن يقال إن الرب كان مرتعدًا وهو الذي هرب من أمامه بوابو الجحيم ” والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين وظهروا لأهلهم (انظر مت53:27).
لذلك ليستّد فم كل هرطوقي ولا يتجاسر أن ينسب الخوف للرب، الذي منه يهرب الموت مثل حيّة، والذي منه ترتعد الشياطين، وبه ينزعج البحر وله تنشّق السموات، وتتزعزع كل القوات لأنه هوذا حينما قال ” لماذا تركتني “؟ أظهَر أن الآب كان دائمًا فيه حتى في تلك اللحظة. لأن الأرض إذ تعرف ربها الذي تكلّم ارتعدت في الحال، وانشّق حجاب الهيكل، واحتجبت الشمس، وتشقّقت الصخور وتفتّحت القبور ـ كما قلت سابقًا ـ وقام الأموات الذين كانوا فيها، والمدهش أيضًا أن أولئك الذين كانوا حاضرين عندئذٍ وكانوا ينكرونه قبلاً، بعد أن رأوا هذه الآيات اعترفوا قائلين ” حقًا كان هذا ابن الله ” (مت54:27).
4 ـ وعن قوله ” إن أمكن، أن تعبر عني الكأس ” (مت39:26) إعلموا كيف أنه رغم كلامه هكذا فقد انتهر بطرس قائلاً ” لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس ” (مر33:8)، لأنه كان يريد هذه الكأس التي طلب أن تعبر عنه، إذ لأجل هذا قد جاء الكلمة إلى العالم. أما الخوف فهو خاص بالجسد، لذلك فقد نطق بهذا الكلام أيضًا كإنسان، ومع ذلك فالأمران معًا قالهما نفس الشخص[2]، لكي يُظهر أن مَنْ أراد وفَعَلَ هو الله. ولكن حينما صار إنسانًا، فقد أخذ جسدًا يخاف، ولأجل هذا الجسد ربط إرادته الخاصة بالضعف البشري، لكي بإبادته لهذا الضعف، يُعطى للإنسان مرة أخرى أن يكون شجاعًا أمام الموت. يا له من أمر عجيب حقًا! فالمسيح الذي يُلصِق به أعداؤه كلمات الخوف، هو نفسه بواسطة ما يسمونه الخوف، جعل الناس شجعانًا وغير خائفين. وهكذا فالرسل الطوباويون من بعده استهانوا بالموت بقوة بسبب كلماته هذه حتى أنهم لم يبالوا بأولئك الذين حاكموهم، بل أجابوا ” ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس ” (أع29:5). والشهداء القديسون الآخرون كانوا شجعانًا أيضًا، حتى اعتقدوا أنهم كانوا ينتقلون إلى الحياة، أكثر من كونهم يقاسون الموت، أليس إذًا هو أمر في غير محله أن يعجب أحد بشجاعة خدام الكلمة، ومع ذلك يقول إن الكلمة نفسه كان خائفًا، مع أن خدامه قد احتقروا الموت؟ ولكن من العزيمة الصبورة جدًا وشجاعة الشهداء القديسين يظهر أن الألوهية لم تكن هى التي تخاف، بل هو خوفنا ذلك الذي نزعه المخلّص. لأنه كما أباد الموت بالموت، وبوسائل بشرية أبطل كل ما للإنسان (من ضعفات) هكذا أيضًا بهذا الذي ظهر وكأنه خوف، نزع خوفنا، وأعطى الناس أن لا يعودوا يخافون الموت فيما بعد.
فكلمته وفعله يحدثان معًا، لأنه إنسانيًا قد قال ” اعبر عني الكأس ” و ” لماذا تركتني “؟ ولأنه هو الله فقد جعل الشمس تحتجب، والموتى يقومون بقوة لاهوته. وأيضًا إنسانيًا قال ” الآن نفسي قد اضطربت ” (يو27:12). وإلهيًا قال ” لي سلطان أن أضع نفسي، ولي سلطان أن آخذها أيضًا ” (يو18:10). فكونه يضطرب فهذا أمر خاص بالجسد، وأن يكون له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها أيضًا حينما يريد، فهذا أمر ليس خاصًا بطبيعة البشر، بل بقوة الكلمة. لأن الإنسان لا يموت بسلطانه الخاص بل باضطرار الطبيعة ورغم إرادته. أما الرب، فلأنه هو نفسه غير مائت، ولكن لأنه أخذ جسدًا مائتًا، فله السلطان لكونه هو الله، أن يفصل النفس عن الجسد، وأن يعيدها أيضًا، حينما يريد. وداود يرتل عن هذا قائلاً ” لن تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع قدوسك يرى فسادًا ” (مز10:15س).
لذلك كان يجب أن الجسد الذي كان قابلاً للفساد لا يبقى فيما بعد مائتًا حسب طبيعته الخاصة، بل بسبب الكلمة الذي اتخّذه يبقى غير قابل للفساد. لأنه كما صار هو في جسدنا، وشابه ما لنا، هكذا نحن، إذ نقبله فإننا ننال منه عدم الموت.
5ـ إذًا فلا مبرر لهؤلاء الآريوسيين المجانين، فيما يعثرون به مفكّرين أفكارًا حقيرة عن الكلمة، بسبب المكتوب، أنه “اضطرب”، و”بكى” لأنهم يظهرون كأن ليس عندهم مشاعر إنسانية، فهم يجهلون طبيعة البشر وخصائصها. التي بها يكون أمرًا عجيبًا جدًا أن الكلمة يوجد في مثل هذا الجسد المتألّم، وهو لم يمنع أولئك الذين تآمروا عليه، ولا انتقم من أولئك الذين صلبوه، رغم أنه يستطيع، وهو الذي منع الموت عن البعض، وأقام البعض من الموت، وجعل جسده الخاص يتألّم، لأنه لهذا قد جاء، كما قلت سابقًا، لكي إذ يتألّم في الجسد، يجعل الجسد من الآن فصاعدًا غير متألم وغير مائت، ولكي، كما قلنا مرّات عديدة، إنه جعل الأوجاع والأمور الأخرى تأتي عليه هو ولا تصيب الناس فيما بعد، إذا تكون قد أُبيدت تمامًا بواسطته، ويبقى الناس على الدوام غير قابلين للفساد كهيكل للكلمة. فلو أن أعداء المسيح تفكّروا في هذه الأمور وعرفوا التعليم الكنسي كمرساة للإيمان لما انكسرت بهم سفينة الإيمان (انظر 1تيمو19:1)، ولما كانوا هكذا عديمي الحياء لدرجة أنهم يقاومون أولئك الذين يريدون أن يخلّصوهم من سقطتهم، ويحسبون أولئك الذين ينصحونهم بالتقوى كأعداء لهم.
ولكن كما يبدو، فإن الهرطوقي هو حقيقةً إنسان خبيث، وقلبه منحرف من كل ناحية إلى الكفر، فرغم فضحهم في كل النقاط، وإظهارهم أنهم محرومون من الفهم تمامًا، فإنهم لا يشعرون بأي خجل، بل مثل (الإيدرا) أى منبع الوحش في الأسطورة اليونانية، أنه حينما تموت الحيّات السابقة، فالمنبع يلد حيّات جديدة، يحارب بها الذي أهلك الحيّات القديمة. هكذا أيضًا محاربو الله والكارهون له هم مثل (الإيدرا) أى منبع الوحوش، حينما تسقط اعتراضاتهم التي يقدّمونها، فهم يخترعون لأنفسهم أسئلة أخرى يهودية وغبيّة، وحيل جديدة كما لو أن الحق هو عدوهم، مظهرين بذلك بالأحرى أنهم أعداء المسيح في كل شئ.
1 لهذا السبب، سبق أن أطلق القديس أثناسيوس عليهم لقب “اليهود الجدد أو اليهود المعاصرون” انظر فقرة 8 على سبيل المثال.
2 مرة أخرى يضع ق. أثناسيوس أسس التعليم القديم الذي علّمت به الكنيسة فيما بعد على لسان ق. كيرلس فيما يخص طبيعة المسيح (الخريستولوجي). انظر فقرة 35.