شرح نصوص (مر32:13، لو52:2)
معرفة الابن لليوم والساعة،
التقدّم في النعمة والحكمة
1ـ وحيث إن الأمور هى هكذا فدعنا نأتي الآن لكي نبحث الآية ” وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلم يعلم بها أحد ولا الملائكة ولا الابن إلاّ الآب ” (مر32:13).
ولكونهم في جهل عظيم من جهة هذه الكلمات فقد أصابهم الدوار بسببها ويظنون أنهم قد وجدوا فيها حجة هامة تسند هرطقتهم. فإن كان هؤلاء الهراطقة قد سبق فقرّروا هذا ويسلّحون أنفسهم به. فإني أراهم كالعمالقة[1] الذين يحاربون الله. لأن رب السماء والأرض الذي به خُلقت كل الأشياء، يطالب بتقديم حساب أمامهم عن اليوم والساعة. والكلمة الذي يعرف كل الأشياء يتهمونه بأنه يجهل اليوم، والابن الذي يعرف الآب يقولون إنه يجهل ساعة من ساعات اليوم. والآن ماذا يمكن أن يكون أكثر حماقة من هذا، أو أى جنون يمكن أن يشابه هذا؟
لأنه بالكلمة قد خُلقت كل الأشياء والأزمنة، والأوقات والليل والنهار وكل الخليقة، فهل يقال بعد ذلك إن الخالق يجهل عمله؟ ولكن بمواصلة القراءة في هذا الفصل يتضّح أن ابن الله يعرف تلك الساعة وذلك اليوم، رغم أن الآريوسيين قد سقطوا بشدة في جهلهم لأنه بينما يقول (ولا الابن) يشرح للتلاميذ ما يحدث قبل ذلك اليوم قائلاً سيكون هذا وذاك، ثم يأتي المنتهى (انظر مت24). فالذي يتكلّم عن ما يحدث قبل ذلك اليوم، يعرف بالتأكيد اليوم أيضًا، الذي سوف يأتي بعد كل ما سبق وأخبر به، ولكن لو لم يكن يعرف الساعة، لما كان قد تحدّث عن الأمور التي تسبقها لكونه لا يعرف متى ستكون. ومثل إنسان يريد أن يدل أولئك الذين يجهلون مكان منزل ما أو مدينة، فهو يذكر لهم بالتفصيل الأشياء التي تقابلهم قبل المنزل أو المدينة وبعد أن يشرح لهم كل شئ يقول ” وبعد ذلك تجدون المدينة أو المنزل مباشرة فهذا المشير يعرف تمامًا أين يوجد المنزل أو المدينة ـ لأنه لو لم يكن يعرف، لما استطاع أن يشرح لهم ما يجدونه قبلها. وحتى لا يتسبب دون قصد في أن سامعيه يضّلون الطريق، أو أنهم يذهبون بعيدًا عن المكان بسبب وصفه الخاطئ. هكذا فإن الرب بحديثه عن ما يسبق ذلك اليوم وتلك الساعة فهو يعرف بالضبط، ولا يجهل متى تأتي الساعة ويكون اليوم.
2ـ والآن فلماذا رغم أنه كان يعرف، لم يخبر تلاميذه بوضوح في ذلك الحين. لا يستطيع أحد أن يفحص ما صَمَتَ الرب عنه، ” لأن مَنْ عَرِفَ فكر الرب؟ أو من صار له مشيرًا ” (رو34:11)، ولماذا رغم أنه عَرِفَ، قال “ولا الابن” يعرف. أظن أن هذا لا يجهله أى واحد من المؤمنين: إنه قال هذا مثلما قال الأقوال الأخرى ـ كإنسان بسبب الجسد فهذا ليس نقصًا في الكلمة، بل هو بسبب تلك الطبيعة البشريّة التي تتصّف بعدم المعرفة.
وهذا أيضًا يمكن أن يُرى جيدًا إن كان أحد يفحص المناسبة بإخلاص: متى ولِمَنْ تكلّم المخلّص هكذا[2]؟ فهو لم يتكلّم هكذا حينما خُلقت السموات بواسطته، ولا حينما كان مع الآب نفسه، الكلمة الصانع كل الأشياء (انظر أم27:8ـ30). وهو لم يَقُل هذا أيضًا قبل ولادته كإنسان ولكن حينما صار الكلمة جسدًا. ولهذا السبب فمن الصواب أن ننسب إلى ناسوته كل شئ تكلّم به إنسانيًا بعد أن تأنس. لأنه من خاصية الكلمة أن يعرف مخلوقاته، وأن لا يجهل بدايتها ونهايتها، لأن هذه المخلوقات هى أعماله. وهو يعرف كم عددها وحدود تكوينها. وإذ هو يعرف بداية كل شئ ونهايته، فإنه يعرف بالتأكيد النهاية العامة والمشتركة للكل. وبالتأكيد فحينما يتكلّم في الإنجيل عن نفسه إنسانيًا قائلاً: ” أيها الآب، قد أتت الساعة مجد ابنك” (يو1:17)، فواضح أنه بصفته الكلمة، يعرف أيضًا ساعة نهاية كل الأشياء رغم أنه كإنسان يجهلها، لأن الجهل هو من خصائص الإنسان، وخاصةً في هذه الأمور.
وبالأكثر فإن هذا لائق بمحبة المخلّص للبشر، لأنه منذ أن صار إنسانًا لم يخجل ـ بسبب الجسد الذي يجهل ـ أن يقول لا أعرف لكي يوضّح أنه بينما هو يعرف لأنه هو الله، فهو يجهل جسديًا. ولذلك فهو لم يقل ” ولا ابن الله يعرف “، لئلا يبدو أن اللاهوت يجهل، بل قال ببساطة “ولا الابن” لكي تكون عدم المعرفة منسوبة لطبيعة الابن البشرية.
3ـ ولهذا السبب فهو يتحدّث عن الملائكة أنهم لا يعرفون اليوم والساعة ولكنه لم يواصل ويقول ” ولا الروح القدس يعرف” لكنه صمت لسببين: أولاً: لأنه إن كان الروح يعرف فبالأولى فإن الكلمة لابد أن يعرف لأن الكلمة الذي يستمد منه الروح المعرفة هو بالأولى يعرف.
ثانيًا: وبصَمْته عن ذكر الروح أوضَحَ أن قوله “ولا الابن” هو عن خدمته البشرية. وهذا برهان على ذلك: أنه، حينما تكلّم إنسانيًا قائلاً “ولا الابن يعرف” لكونه هو الله فهو يُظهر نفسه أنه يعرف كل الأشياء. لأن ذلك الابن الذي يقال إنه لا يعرف اليوم، يقول هو عن نفسه إنه يعرف الآب لأنه يقول ” لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ” (مت27:11). وكل الناس عدا الآريوسيين يعترفون أن الذي يعرف الاب هو بالأحرى يعرف كل شئ عن الخليقة ومن ضمن هذا الكل نهاية الخليقة. وإن كان اليوم والساعة قد تحدّدا من الآب فواضح، أنهما قد تحدّدا بواسطة الابن وهو نفسه يعرف الأشياء التي قد تحدّدت بواسطته.
لأنه لا يوجد شئ إلاّ وقد وُجِدَ وتحدّد بوساطة الابن لذلك فإذ هو خالق الكون، فهو يعرف إلى أى درجة وإلى أى حدود أراد الآب للكون أن يصير.
وهو يعرف ما هو الحد الزمني للكون. وأيضًا إن كان كل ما للآب هو للابن [ وهذا ما قد قاله هو نفسه (انظر يو15:16) ]، ومن خصائص الآب أن يعرف اليوم، فواضح أن الابن أيضًا يعرف اليوم إذ أن له هذه الخاصية من الآب. وأيضًا إن كان الابن في الآب والآب في الابن، والآب يعرف اليوم والساعة، فواضح أن الابن لكونه في الآب ويعرف كل ما هو للآب، هو نفسه أيضًا يعرف اليوم والساعة. وإن كان الابن هو أيضًا صورة الاب ذاته، والآب يعرف اليوم والساعة، فواضح أن الابن له هذه المماثلة أيضًا للآب في معرفة اليوم والساعة. وليس غريبًا إن كان هو الذي به صارت كل الأشياء (انظر يو3:1)، وفيه يقوم الكل (انظر كو17:1)، هو نفسه يعرف المخلوقات التي خُلقت، ومتى تكون نهاية كل منها ونهايتها كلها معًا.
ولكن الوقاحة الناتجة عن جنون الآريوسيين اضطّرتنا أن نلجأ إلى دفاع طويل هكذا. ولأنهم يحصون ابن الله الكلمة الأزلي بين المخلوقات فليسوا بعيدين عن أن يقولوا أيضًا إن الآب نفسه أقل من الخليقة. لأنه إن كان ذلك الذي يعرف الآب لا يعرف اليوم ولا الساعة، فإني أخشى لئلا تكون معرفة الخليقة أو بالحرى معرفة الجزء الأدنى منها أعظم من معرفة الآب ـ كما يقولون في جنونهم.
4ـ ولكن أولئك بسبب أنهم يجدّفون على الروح هكذا، فلا ينبغي أن ينتظروا الحصول على الغفران إطلاقًا عن تجديفهم هذا كما قال الرب (انظر مت32:12). وأما المحبون للمسيح والذين يحملون المسيح، فيعرفون أن الكلمة باعتباره أنه هو الكلمة، قال لا أعرف، ليس لأنه لا يعرف، إذ هو يعرف (كل شئ)، ولكن لكي يُظهر الناحية الإنسانية، إذ أن عدم المعرفة خاص بالبشر، وأنه قد اتخّذ الجسد الذي يجهل، والذي بوجوده فيه قال بحسب الجسد “لا أعرف”.
ولهذا السبب، فبعد قوله ” ولا الابن يعرف” وتحدّثه عن جهل الناس في أيام نوح، أضاف مباشرةً قائلاً: ” اسهروا إذًا، لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم” وأيضًا ” في ساعة لا تعلمون يأتي ابن الإنسان ” (مت42:24، 44)، ولكني إذ قد صرت مثلكم من أجلكم، قلت “ولا الابن”. لأنه لو كان يجهل بكونه هو الله لكان ينبغي أن يقول “اسهروا إذًا، لأني لا أعرف، وفي ساعة لا أعلمها” ولكن في الواقع ليس هذا هو ما قاله. ولكنه بقوله “لا تعلمون” و “في ساعة لا تعلمونها” أوضح بذلك أن الجهل خاص بالبشر، الذين لأجلهم أخذ جسدًا مشابهًا لأجسادهم، وصار إنسانًا وقال ” ولا الابن يعرف ” لأنه لا يعرف بالجسد رغم أنه يعرف بكونه هو الله الكلمة.
وأيضًا مثال نوح[3] يكشف وقاحة أعداء المسيح، لأنه في ذلك التشبيه لم يقل “لا أعرف”، بل قال ” لم يعلموا حتى جاء الطوفان ” (مت39:24).
لأن البشر لم يعلموا، أما الذي جاء بالطوفان (والذي هو المخلّص نفسه) فقد عَرِفَ اليوم والساعة، التي فيها فتح طاقات السماء وفجّر ينابيع الغمر، وقال لنوح ” أدخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك ” (تك1:7) لأنه لو كان لا يعرف لما كان قد سبق فأخبر نوح قائلاً: ” بعد سبعة أيام آتي بطوفان على الأرض ” (انظر تك4:7).
ولكنه إذ يستخدم مثال زمن نوح ويعرف يوم الطوفان، إذًا فهو يعرف أيضًا يوم مجيئه.
5ـ وأيضًا، في مثل العذارى يظهر بوضوح أكثر من هم الذين كانوا يجهلون اليوم والساعة بقوله ” اسهروا إذًا، لأنكم لا تعرفون اليوم والساعة ” (مت13:25). والذي قال قبل ذلك بقليل ” لا أحد يعرف ولا الابن ” (مت36:24) لا يقول الآن “لا أعرف” بل يقول “أنتم لا تعرفون”.
وبنفس الطريقة، عندما سأله التلاميذ عن النهاية، حسنًا قال حينئذٍ “ولا الابن” جسديًا، بسبب الجسد، لكي يظهر أنه كإنسان، لا يعرف لأن الجهل هو من خصائص البشر، ولكن إذ هو الكلمة، وهو الذي سوف يأتي، وهو الديّان وهو العريس، فهو يعرف متى وفي أية ساعة سيأتي، ومتى سيقال ” استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح ” (أف14:5). كما أنه إذ صار إنسانًا فقد كان يجوع ويعطش ويتألم مع الناس، هكذا مع الناس كإنسان فهو لا يعرف، رغم أنه لكونه هو الله إذ هو كلمة الآب وحكمته فهو يعرف، ولا يوجد شئ لا يعرفه.
وهكذا أيضًا في حالة لعازر فهو يسأل كإنسان بينما كان في طريقه لكي يقيمه، ويعرف من أين سيدعو نفس لعازر مرّة ثانية.
وقد كان أمرًا أعظم أن يعرف أين كانت النفس أكثر من أن يعرف أين وُضِعَ الجسد، ولكنه سأل إنسانيًا لكي يقيمه إلهيًا. هكذا أيضًا سأل تلاميذه عندما جاءوا إلى نواحي قيصرية، رغم أنه يعرف حتى قبل أن يجيب بطرس. لأنه إن كان الآب قد أعلن لبطرس الإجابة على سؤال الرب، فواضح أن الاعلان كان بواسطة الابن لأنه يقول ” لا أحد يعرف الابن إلاّ الآب ولا الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يُعلِن له ” (لو22:10). ولكن إن كانت معرفة الآب والابن تُكشف بواسطة الابن، فليس هناك أى مجال للشك في أن الرب الذي سأل بطرس هو نفسه قد استُعلن أولاً لبطرس من الآب، وبعد ذلك سأله إنسانيًا، لكي يظهر أنه يسأل جسديًا بينما هو يعرف إلهيًا ما سوف يقوله بطرس. إذًا فالابن يعرف، وهو يعرف كل الأشياء ويعرف أباه، تلك المعرفة التي لا توجد معرفة أعظم أو أكمل منها.
6ـ هذا يكفي لدحض أولئك، ولكن لكي أوضّح أكثر أنهم معادون للحق وأعداء للمسيح، فإني أريد أن أسألهم سؤالاً: يكتب الرسول في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس: ” أعرف إنسانًا في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم. الله يعلم ” (2كو2:12).
فماذا يقولون الآن؟ هل عرف الرسول ما قد حدث له في الرؤيا، رغم أنه يقول لا أعرف، أو لم يعرف؟ فإن كان لم يعرف فانتبهوا إذًا، لئلا إذ تتعوّدون على الخطأ تسقطون في مخالفة الفريجيين[4] الذين يقولون إن الأنبياء وخدّام الكلمة الآخرين، لا يعرفون ما يفعلونه، ولا ما يكرزون به.
ولكن إن كان الرسول يعرف، حينما قال لا أعرف، لأنه كان قد أخذ المسيح في داخله ـ الذي يكشف له كل الأشياء أفلا يكون قلب أعداء الله هؤلاء منحرفًا بالحقيقة ومدانًا من نفسه؟ لأنه في الوقت الذي يقول الرسول “لا أعرف” يقولون هم أنه يعرف، بينما حينما يقول الرب “لا أعرف” يقولون هم أنه لا يعرف، لأنه إن كان بسبب أن المسيح كان فيه، عرف بولس ما قد قال عنه إنه لا يعرفه. أفلا يعرف المسيح نفسه بالأكثر حتى إن قال “لا أعرف”؟ إذًا فبسبب أن الرسول، قد كشف له الرب، فإنه عرف ما رآه، لهذا يقول ” أعرف إنسانًا في المسيح” ولأنه يعرف هذا الإنسان، فهو يعرف أيضًا كيف أُختُطِفَ هذا الإنسان. وهكذا أليشع الذي رأى إيليا عرف أيضًا كيف أُصعد. ولكن رغم أنه عرف، إلاّ أنه حينما ظن أبناء الأنبياء أن إيليا قد طرحه الروح على أحد الجبال، فأليشع لأنه يعرف من البداية ما قد رآه، حاول أن يقنع هؤلاء الرجال، ولكن لما ألحوا عليه صمت وتركهم يمضون للبحث عنه (انظر 2مل2). إذًا ألم يكن أليشع يعرف وبسبب ذلك صَمَتَ؟ هو يعرف بالتأكيد، ولكنه صمت وكأنه لم يكن يعرف، ولذلك تركهم، لكي عندما يقتنعون لا يشكّون بعد ذلك في صعود إيليا. إذًا فبالأكثر جدًا بولس نفسه وهو الشخص الذي أُختطف، لابد أنه كان يعرف أيضًا كيف أُختطف، لأن إيليا عرف ولو كان أحد قد سأله، لكان قد أجابه كيف أُصعد. ومع ذلك فبولس يقول “لا أعرف”، لهذين السببين على الأقل: الأول كما قال هو نفسه لئلا بسبب كثرة الإعلانات يظن أحد فيه أكثر مما يراه. والسبب الثاني هو أن مخلّصنا قد قال “لا أعرف” فيليق به هو أيضًا أن يقول “لا أعرف” لئلا يظهر أن العبد أعظم من سيده، والتلميذ أفضل من معلّمه.
7ـ من ثم فالذي أعطى لبولس أن يعرف، بالأولى جدًا أن يعرف هو نفسه. لأنه طالما تكلّم عن الأمور التي تسبق اليوم كما سبق أن قلت ـ فهو يعرف أيضًا متى يكون اليوم ومتى تكون الساعة، ورغم أنه يعرف إلاّ أنه يقول ” ولا الابن يعرف” فلماذا إذًا قال عندئذٍ “لا أعرف” عن الأمر الذي عرفه لكونه هو الرّب؟ ولابد للمرء أن يفكر بعمق حتى يصل إلى النتيجة التي تبدو لي واضحة وهى أن الرّب قد تكلّم هكذا لأجل منفعتنا، وذلك لكي يمنحنا الفهم الحقيقي لكلامه! ويحرص المخلّص على منفعتنا من الناحيتين[5]، لأنه قد أعلن لنا من ناحية ما سيأتي قبل النهاية، لكي لا نندهش ولا نرتاع ـ كما قال هو نفسه ـ حينما تحدّث هذه الأمور، بل ننتظر النهاية التي تأتي بعدها.
ومن جهة اليوم والساعة فهو لم يَرِدْ أن يقول “أعرف” بحسب طبيعته الإلهية و “لا أعرف” بحسب الجسد، وذلك بسبب الجسد الذي كان يجهل، كما قلت سابقًا، لئلا يسألوه أكثر، وعندئذٍ إما أن يحزن التلاميذ بعدم إجابته لهم، وإما أن يجيبهم لأجلنا حيث إن الكلمة صار جسدًا لأجلنا أيضًا. لذلك فلأجلنا قال ” ولا الابن يعرف” وهو لم يكن غير صادق بقوله هذا (لأنه إنسانيًا، كإنسان، قال “لا أعرف”)، ولا سمح للتلاميذ أن يضطّروه إلى الكلام، لأنه بقوله “لا أعرف” فقد أوقف تساؤلاتهم. وهكذا كُتب في أعمال الرسل، أنه حينما صعد مع الملائكة، فقد صعد كإنسان ورفع معه إلى السماء الجسد الذي اتخذه وقبل أن يرى التلاميذ هذا سألوه أيضًا متى تكون النهاية ومتى تأتي أنت؟ قال لهم بأكثر وضوح ” ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه ” (أع7:1). وعندئذٍ لم يقل ” ولا الابن” كما سبق وقال إنسانيًا، بل قال “ليس لكم أن تعرفوا” لأن الجسد عندئذٍ كان قد قام وخلع عنه الموت وتأله، ولم يعد يليق به أن يجيب حسب الجسد عندما كان منطلقًا إلى السموات، بل أن يعلّم بطريقة إلهية أنه: ” ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطاته، ولكنكم ستنالون قوة ” (أع7:1ـ8). وأية قوة هى للآب سوى الابن؟ لأن: ” المسيح هو قوة الله وكلمة الله ” (1كو24:1).
8ـ إذًا فالابن يعرف لكونه الكلمة، فكأنه يقول: أنا أعرف ولكن هذه المعرفة التي أعرفها ليست لكي أعرفكم بها فحينما كنت جالسًا على الجبل قلت حسب الجسد ” ولا الابن يعرف” وهذا لأجل منفعتكم ومنفعة الجميع. لأنه نافع لكم أن تسمعوا هكذا عن الملائكة وعن الابن، بسبب أولئك المضّلين الذين سوف يظهرون كملائكة رغم أنهم شياطين وسيحاولون أن يتكلّموا عن النهاية، فلا ينبغي أن تصدقوهم لأنهم لا يعرفون. وأيضًا حتى إن أخفى ضد المسيح نفسه وقال “أنا هو المسيح” وحاول بدوره أن يتكلّم عن ذلك اليوم وعن تلك النهاية، لكي يُضل السامعين، فأنتم الذين قد سمعتم مني هذه الكلمات: ” ولا الابن”، لا تصدقوه أيضًا. ومن جهة أخرى، لأنه ليس نافعًا للناس أن يعرفوا متى تكون النهاية أو متى يكون يوم النهاية، لئلا عندما يعرفون، يصيرون متهاونين في الفترة المتبقيّة من الزمن، وينتظرون فقط الأيام التي هى قرب النهاية فقط. لذلك أيضًا صَمَتَ الرب ولم يتكلّم عن الوقت الذي سيموت فيه كل واحد لئلا عندما يصير الناس منتفخين بسبب المعرفة، فإنهم يهملون أنفسهم طوال الجزء الأكبر من زمانهم. إذًا فالكلمة قد أخفى عنا كلاً من نهاية كل الأشياء، ونهاية كل واحد منا (لأن نهاية كل الأشياء هى نهاية لكل واحد ويمكن أن نستنتج من نهاية كل واحد، نهاية كل الأشياء).
لأنه في الواقع حينما يكون الوقت غير معروف، ونحن ننتظره دائمًا، فإننا كمدعويين نتقدّم يومًا فيومًا، ممتدين إلى ما هو قدّام وناسين ما هو وراء (انظر في13:3). لأن مَنْ هو الذي عندما يعرف يوم النهاية لا يكون متراخيًا خلال تلك الفترة، ولكن إن كان يجهل اليوم أفلا يصير مستعدًا كل يوم؟ لهذا السبب أضاف المخلّص قائلاً: ” اسهروا إذًا لأنكم لا تعرفون، أية ساعة يأتي ربكم ” (مت42:24)، وأيضًا ” في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان ” (لو40:12) لذلك فبسبب المنفعة التي تأتي من عدم المعرفة، قال هذا، وهو عندما يقول هذا، فهو يريد أن نكون نحن مستعدين دائمًا. فكأنه يقول: بالنسبة لكم أنتم لا تعرفون ولكن أنا الرب، أعرف متى سآتي، رغم أن الآريوسيين لا ينتظرونني، أنا الذي هو كلمة الآب.
9ـ فالرّب إذًا، لأنه يعرف ما هو نافع لنا أكثر منا، لذلك طمأن التلاميذ، وهم أيضًا إذ علموا هكذا فإنهم صحّحوا موقف أولئك الذين من تسالونيكي حينما كانوا على وشك أن يضلوا في هذا الأمر (انظر 2تس2:2). ولكن حيث إن أعداء المسيح لا يتأثرون بهذا الكلام ورغم أني أعرف أن لهم قلب أكثر قساوة من فرعون فإني أريد أن أسألهم ثانية عن هذا. سأل الله آدم في الفردوس قائلاً: ” آدم، أين أنت“؟ (تك9:3). وسأل قايين أيضًا ” أين هابيل أخوك “؟ (تك9:4). فماذا تقولون إذًا عن هذا الأمر؟ لأنكم إن ظننتم أنه لا يعلم ، ولذلك سأل، فإنكم بذلك تنضمون إلى جماعة المانويين[6]، لأن هذا هو تفكيرهم المتجاسر. ولكن إن كنتم تخشون أن يطلق عليكم هذا الاسم جهارًا تضطرون أنفسكم للقول إنه يسأل بينما هو يعرف. فأي غرابة إذًا توجد في هذا التعليم إن كان الابن الذي هو كلمة الله هو الذي قد سأل آدم وقايين، هو نفسه الابن وقد لبس الآن جسدًا، يسأل التلاميذ كإنسان؟ إلاّ إذا كنتم قد صرتم بالطبع مانويين وتريدون عندئذٍ أن تنتقدوا السؤال الذي وجّهه الله لآدم (انظر تك9:3) وتعطوا لأنفسكم الفرصة كاملة للإنحراف. ولأنكم قد انكشفتم من كل ناحية، فإنكم لا تزالون تتهامسون متذمّرين من كلمات لوقا، التي كُتِبَت باستقامة، ولكن أنتم تسيئون فهمها. وما هى هذه الكلمات؟ ينبغي أن نذكرها، لكي يتضّح أيضًا المعنى المنحرف الذي أعطيتموه لها.
التقدّم في الحكمة والنعمة:
10ـ يقول القديس لوقا ” وأما يسوع فكان يتقدّم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ” (لو51:2). هذه إذًا هى الآية، وحيث إنهم عثروا فيها، فنحن مضطّرون أن نسألهم، مثل الفريسيين والصدوقيين، عن الشخص الذي يتكلّم عنه لوقا. والسؤال هو هكذا: هل يسوع المسيح هو إنسان مثل كل الناس الآخرين أم هو الله وقد اتخذ جسدًا؟
فإن كان إنسانًا عاديًا مثل باقي الناس، إذًا فهو كإنسان يتقدّم. لكن هذا هو مذهب الساموساطي[7]، الذي تعتقدون به أنتم في الحقيقة رغم أنكم تنكرونه بالاسم بسبب الناس، لكن إن كان هو الله وقد اتخذ جسدًا، كما هو هكذا بالحقيقة، لأن الكلمة صار جسدًا، ولكونه الله الذي نزل على الأرض، فأي نمو أو تقدّم يكون لذلك الكائن المساوي لله؟ أو كيف حصل الابن على ازدياد، وهو كائن على الدوام في الآب؟ لأنه إن كان وهو الكائن دائمًا في الآب يتقدّم، فماذا يكون هناك بعد الآب حتى يأخذ منه تَقدّمه؟ ومن المناسب أيضًا أن نكرّر هنا ما قلناه عن “كيف يأخذ” و “كيف يتمجّد”. فإن كان قد تقدّم حينما صار إنسانًا، فيكون واضحًا أنه كان غير كامل، قبل أن يصير إنسانًا، ويكون الجسد بالنسبة له قد صار بالحري سببًا لكماله، أكثر مما أعطى هو كمالاً للجسد، وأيضًا إن كان وهو الكلمة يتقدّم، فما الذي يمكن أن يصير إليه أكثر من كونه الكلمة والحكمة والابن وقوّة الله؟ لأن الكلمة هو كل هذه، التي إن استطاع أحد أن يشترك فيها كأنها شعاع واحد، فإن مثل هذا الإنسان يصير كاملاً تمامًا بين الناس، ومساويًا للملائكة. لأن الملائكة ورؤساء الملائكة، والسيادات، وكل القوات والعروش باشتراكهم في الكلمة ينظرون دائمًا وجه أبيه. كيف يكون إذًا أن ذلك الذي يُعطي الكمال للآخرين يتقدَّم هو نفسه معهم؟ لأن الملائكة خَدَموا ولادته البشرية، والآية المأخوذة من لوقا المذكورة أعلاه قد قيلت بعد خدمة الملائكة هذه، فكيف يمكن أن يأتي هذا الفكر بالمرة للإنسان؟ أو كيف تتقدّم الحكمة في الحكمة؟ أو كيف من يُعطى النعمة للآخرين “كما يقول بولس، في كل رسالة، عارفًا أنه بواسطته تُعطى النعمة: ” نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم ” (2تس18:3)، أقول كيف يتقدّم هو في النعمة؟ لأنهم إما أن يقولوا إن الرسول غير صادق، ويتجرأون أن يقولوا إنه ليس هو الحكمة، وإلاّ فإن كان الابن هو الحكمة، كما قال سليمان وكتب بولس ” المسيح قوّة الله وحكمة الله ” (1كو24:1) فأى نوع من التقدّم تقبله الحكمة؟
11ـ فالبشر لأنهم مخلوقات، عندهم القابلية بطريقة ما أن يمتّدوا للأمام وأن يتقدّموا في الفضيلة. فأخنوخ على سبيل المثال هكذا نُقِلَ، وموسى إزداد وصار كاملاً، واسحق صار عظيمًا بتقدّمه (تك13:26). والرسول قال إنه يمتّد يوم فيومًا إلى ما هو قدّام، لأن كل واحد له الفرصة للتقدّم ناظرًا إلى الدرجة التي أمامه. أما ابن الله، الذي هو واحد ووحيد، فما هى الفرصة التي له ليمتّد؟ لأن كل الأشياء تتقدّم بتطلّعها إليه، وأما هو فلكونه الوحيد، هو في الآب الوحيد الذي لا يمتد منه إلى الأمام، بل هو ثابت فيه إلى الأبد. إذًا فالتقدّم هو خاص بالبشر، أما ابن الله حيث إنه غير محتاج لأن يتقدّم لكونه كاملاً في الآب فقد أنقَصَ نفسه لأجلنا، لكي بتواضعه نستطيع نحن أن نتقدّم وننمو. وتقدّمنا ليس هو شيئًا آخر غير أن نتخلّى عن المحسوسات وأن نصل إلى الكلمة نفسه، حيث إن تواضعه ليس شيئًا آخر سوى اتخاذه لجسدنا. إذًا فالكلمة باعتباره الكلمة، ليس هو الذي تقدّم فهو الكامل من الآب الكامل، وهو لا يحتاج شيئًا بل هو يأتي بالآخرين إلى التقدّم، ولكن كُتب هنا أنه يتقدّم إنسانيًا، حيث إن التقدم هو خاص بالبشر، ولذا فالإنجيلي وهو يتكلّم بدقة وحذر قد ذَكَرَ القامة عندما تحدّث عن التقدم، ولكن لكونه هو الكلمة وهو الله، فهو لا يقاس بالقامة، التي تخص الأجساد. إذًا فالتقدّم هو للجسد، لهذا ففي تقدّمه كان ظهور اللاهوت لأولئك الذين رأوه يزداد فيه أيضًا، وكلما كان اللاهوت ينكشف أكثر فأكثر كلما ازدادت نعمته كإنسان أمام كل الناس فهو كطفل حُمِل إلى الهيكل، وحينما صار صبيًا بقى هناك في الهيكل وكان يسأل الكهنة حول ما جاء بالناموس. وكان جسده ينمو شيئًا فشيئًا والكلمة كان يُظهر نفسه (في هذا الجسد). لذا اعترف به بطرس أولاً وبعد ذلك الجميع أيضًا قائلين: بالحقيقة هذا هو ابن الله (انظر مت16:16، 54:27).
ولكن اليهود القدماء والجدد[8] معًا يتعمّدون إغلاق عيونهم لكي لا يروا أن التقدّم في الحكمة، ليس هو تقدّمًا للحكمة ذاتها، لكن بالحرى هو تقدم الناسوت في الحكمة لأن يسوع ” كان يتقدّم في الحكمة والنعمة “، ولكي نتكلّم بدقة أكثر نقول إنه هو نفسه قد تقدّم لأنه هو ” الحكمة بَنَت بيتها ” (أم1:9)، أى جعل بيته يتقدّم في الحكمة.
12ـ فماذا يكون هذا التقدّم الذي نتحدّث عنه سوى ـ كما قلت سابقًا ـ سوى التأليه[9] والنعمة المعطاة من الحكمة للبشر وإبطال الخطية والفساد منهم بحسب مشابهتهم وانتسابهم لجسد الكلمة؟ لأنه هكذا بازدياد الجسد في القامة كان يزداد فيه ظهور اللاهوت أيضًا ويظهر للكل أن الجسد هو هيكل الله. وأن الله كان في الجسد. ولكن إن جادلوا قائلين إن الكلمة الذي صار جسدًا[10] دُعي يسوع، ونسبوا له تعبير “يتقدّم” فيجب أن يسمعوا أنه حتى هذا لا يقلّل نور الآب، الذي هو الابن، بل لا يزال يُظهر أن الكلمة صار إنسانًا واتخذ جسدًا حقيقيًا[11]. وكما قلنا، إنه تألّم بالجسد، وجاع بالجسد، وتعب بالجسد، هكذا يكون معقولاً أيضًا أن يقال إنه تقدّم بالجسد لأن أى تقدم مثل الذي شرحناه لا يمكن أن يحدث للكلمة بدون الجسد. لأن فيه كان الجسد الذي تقدّم وهو يُدعى جسده، وذلك لكي ما يظل تَقَدُّم البشر مستمرًا ولا يضعف، بسبب وجود الكلمة في الجسد. إذًا فالتقدّم ليس للكلمة كما أن الجسد لم يكن هو الحكمة، ولكن الجسد صار جسد الحكمة. لذلك فكما سبق أن قلنا ـ ليست الحكمة كحكمة هى التي تقدّمت في ذاتها، ولكن الناسوت هو الذي كان يتقدَّم في الحكمة، بأن يرتفع شيئًا فشيئًا فوق الطبيعة البشرية وبأن يتأله[12] ويصير ظاهرًا للجميع كأداة الحكمة لأجل عمل اللاهوت وإشراقه. لذلك فالبشير لم يَقُل: ” إن الكلمة تقدَّم”، لكن “يسوع” وهو الاسم الذي دُعى به الرّب عندما صار إنسانًا حتى يكون التقدّم هو للطبيعة البشريَّة، مثلما شرحنا قبلاً.
1 العمالقة هم جنس أسطوري عند الرومان لهم هيئة ممسوخة وقوة تفوق طاقة البشر، عُرفوا أساسًا بتصادمهم مع آلهة أوليمبيوس.
2 يشدّد ق. أثناسيوس على أن الطريقة السليمة في فهم آيات الكتاب المقدس هو أن يسأل المرء عن متى قيلت هذه الآيات وعن مَن تتحدث وعن السياق العام لها. أنظر أيضًا “المقالة الأولى ضد الآريوسيين ” فقرة رقم 54.
3 وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السموات إلاّ أبي وحده. وكما كانت أيام نوح كذلك يكون مجيء ابن الإنسان ” (مت37:36).
4 يقصد البدعة التي ظهرت في منطقة فريجية phrygia بأسيا الصغرى، والتي علّم بها أتباع مونتانوس Montanos وتسمى Montanism في القرن الثاني الميلادي.
5 يقصد بالناحيتين أنه يعرف من ناحية وأنه لا يعرف من الناحية الأخرى.
6 المانويين هم أتباع ماني ويؤمنون بالمبدأ الثنائي الذي يقول إن العالم تحكمه قوتان متضادتان: قوّة الخير وقوّة الشر ـ النور والظلام، الله والمادة. وهم يعتقدون أن المسيح صُلِبَ لأن لديه في داخله عنصر خاضع للألم والمعاناة كما أنهم لا يؤمنون أن المسيح هو الله الذي تجسّد. انظر هامش 22 ص36 بالفصل 25.
8 يقصد باليهود الجدد الآريوسيين الذين أنكروا ألوهية الابن المتجسد مثلما فعل اليهود. انظر أيضًا هامش رقم 14 ص23.
11 هنا يعود ق. أثناسيوس ليؤكد على حقيقة التجسد في مواجهة بدعة الخياليين التي سبق ذكرها. انظر هامش 28 ص63.