أثناسيوس الرسولى والكتاب المقدس – د. موريس تاوضروس
أثناسيوس الرسولى والكتاب المقدس – د. موريس تاوضروس
لم تكن الأعمال التفسيرية للقديس أثناسيوس قليلة كما يبدو، لكنه لم يتبق منها غير القليل، بينما الكثير منها غير معروف ، ولا حتى بحسب عناوينها [1]. ولكن مع ذلك فإن هذا القليل يُبرز اهتمام القديس أثناسيوس بالكتاب المقدس ، كما يتضح من النقاط التالية :
أولاً : الكتاب المقدس مُوحى به من الله
يؤكد القديس أثناسيوس فى كتاباته أن ” كل الكتاب المقدس ـ سواء العهد القديم أو العهد الجديد ـ هو كتاب مُوحى به من الله ونافع للتعليم، كما ذكر الرسول بولس فى رسالته الأولى إلى تيموثيؤس (16:3)، كذلك الرسول بطرس فى رسالته الثانية (21:1). ومن المعروف أنه ” فى أوائل القرن الرابع الميلادى قام خلاف بسبب أسفار الإنجيل ، فوضع البابا أثناسيوس جدولاً بالأسفار الصحيحة الموجودة بيننا الآن، وسارت كنائس الشرق والغرب على ترتيبه، وسقطت الأسفار المزورة ” [2].
ثانيًا : قانونية الكتاب المقدس
تشمل الكتب المقدسة القانونية عند القديس أثناسيوس الرسولى الكتب التالية :
أ ـ جميع كتب العهد الجديد (أى السبعة والعشرون كتابًا) مع اختلاف بسيط فى موضع الرسالة إلى العبرانيين ، لأنها تأتى فى قانون القديس أثناسيوس بين الرسالة الثانية إلى تسالونيكى والرسالة الأولى إلى تيموثيئوس. وهذا الترتيب يوافق الترتيب القديم للعهد الجديد.
ب ـ اثنان وعشرون كتابًا للعهد القديم . وهذا العدد يتفق مع الحساب اليهودى الأسكندرى ، وليس وفقًا للنص اليهودى القديم الذى يحوى أربعة وعشرين كتابًا ، يذكر فيها سفرى راعوث ومراثى إرميا منفصلين ، بينما القديس أثناسيوس يضم سفر راعوث إلى سفر القضاة ، وسفر المراثى إلى سفر إرميا . ومن الملاحظ أن قانون القديس أثناسيوس يحوى من الكتب القانونية الثانية الكتابات التالية :
تكملة دانيال ثم سفر باروخ ورسالة إرميا المنضمان إلى سفر إرميا .
تعتبر هذه الكتب الثلاثة فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، ضمن الكتب القانونية الثانية .
ثالثًا : كتب القديس أثناسيوس التفسيرية [3]
من بين الأعمال التفسيرية للقديس أثناسيوس، حُفظت فقط الكتابات التالية، كاملة حتى اليوم :
أ ـ رسالة إلى ماركلينوس (Markell…noj) فى تفسير المزامير. على أن شخصية ماركلينوس مازالت شخصية مجهولة لنا. ومن المحتمل أن يكون كاتبًا ناسكًا ، وكان مهتمًا بدرجة كبيرة بدراسة الكتاب المقدس، وعلى الأخص سفر المزامير. ويتكلم القديس أثناسيوس على لسان شيخ محب للألم . ثم يوجه رسالته إلى ماركلينوس كابن له.
وهو يريد بهذا الأسلوب أن يوضح أن مكانة المزامير تتبين بالاستناد إلى التفسير التقليدى للكنيسة ، ويؤكد القديس أثناسيوس بأنه على الرغم من أن كل الكتاب المقدس هو مُوحى به ونافع ، إلاّ أن كتاب المزامير يتميز بأنه يتضمن كل ما جاء فى الكتابات المقدسة الأخرى ” فأى سفر من تلك الأسفار يشبه بستانًا يثمر ثمرته الخاصة ، أما المزامير فبجانب ثمرتها الخاصة ، تفيض بثمار الأسفار الأخرى ” [4].
ويعطى القديس أثناسيوس فى تفسيره للمزامير أهمية كبرى للأحوال النفسية للقارئ أو المرتل، فهو يرى أن المزامير تتضمن الإشارة إلى جميع الحالات، فتحوى إرشادات تناسب جميع أحوال المرتل فى حياته .
فمعايشة المزامير تعكس كل الحالات وتحوى إرشادات مناسبة للاستفادة . وينظم القديس أثناسيوس المزامير فى مجموعات على أسس تعليمية . كما أنه يرى أن استمرارية التمتع بعذوبة المزامير يبرر الحاجة إلى أن يعطى المصلون وقتًا كافيًا لدراسة المزامير .
ب ـ ويذكر ايرونيموس[5](Hieronimus) عملاً آخر لأثناسيوس وهو “عناوين المزامير” (per… t…tlwn tîn yalmîn). وتحت هذا الاسم ينسب انطونيللى (Antonelli) كتابًا لأثناسيوس[6]. ولكن فى حقيقة الأمر، فإن هذا الكتاب لا يشرح عناوين المزامير، ولكنه يُفسر باختصار الآيات آية بعد آية . وأكثر من هذا، حسب الرأى السائد، فإن هذا العمل يخص إيسخيوس الأورشليمى [7].
على أن فقرات كثيرة من التفسير الأصلى للقديس أثناسيوس لازالت توجد فى سلاسل، من أهمها سلسلة نيكيتا السيراوى (NikÁta Serrîn) الصادرة بعنوان ” شرح المزامير” .
وقد أضاف على هذه السلاسل الدكتور ر.دفريس(R.Devreesse) شذرات باللغة اليونانية الحديثة. وكذلك أضاف ج. داود(J. David) شذرات باللغة القبطية، ولكنها كشذرات لا تكوّن تفسيرًا كاملاً متصلاً، يعطى صورة واضحة عن الأسلوب الذى كان القديس أثناسيوس يستخرج به المعنى الروحى لنص المزامير .
ج ـ رأى فى المزامير ‘UpÒqesij :
وهو يسبق فى الترتيب الشذرات المُشار إليها سابقًا . وهو عبارة عن مقدمة مختصرة حول عدد المزامير والفارق بين العدد المسيحى والعدد العبرى .
د ـ تفسير لسفر الجامعة ‘Ermhne…a e„j t¾n ‘Ekklhsiastik»n .
هـ ـ تفسير لنشيد الأناشيد ‘Ermhne…a e„j tÕ ”Asma ‘Asm£twn .
وقد ذكرهما فوتيوس وأثنى على أسلوبهما . على أن هذا العمل قد فقد فيما عدا شذرات قليلة محفوظة فى سلاسل . ويظهر أن فوتيوس يعتبر التفسير واحد للكتابين ، لأنهما وردا فى مخطوط واحد [8].
ويذكر مخطوط Barber (ص 569) أن لأثناسيوس أعمال تفسيرية أخرى هى :
و ـ شذرات فى سفر التكوين ‘Aposp£smata e„j t¾n Gšneshn وقد ذُكرت شذرة من هذه الشذرات فى سلسلة نيكوفوروس .
ز ـ شذرة فى سفر الخروج œn ¢posp£smata e„j t¾n œxodon وقد ورد ذكرها فى سلسلة نيكوفوروس أيضًا .
ح ـ شذرات من تفسيره لسفر أيوب ‘Aposp£smata ™rmhne…aj e„j tÒn ‘Ièb وهى محفوظة فى سلاسل . ويبدو على الأرجح أنها من عظات للقديس أثناسيوس أكثر من أن تكون مأخوذة عن مذكرة لتفسير السفر . وليس لنا دليل من المصادر القديمة ما يُثبت أن القديس أثناسيوس وضع مذكرات كاملة عن أى كتاب من كتب العهد الجديد . ولنا فى كتب العهد الجديد أجزاء تفسيرية لمواضع فى إنجيلى لوقا ومتى ورسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس.
وهذه الأجزاء من متى وكورنثوس الأولى، من المحتمل أنها جاءت من عظات ، بينما الأجزاء التى من لوقا قد جاءت من مذكرة له . وبالرغم من هذا ، فإن لدينا مثالاً لتفسيره لآية لوقا (50:8) فى عظته عن آلام السيد والصليب .
رابعًا : التقليد (التسليم) والكتاب المقدس كمصدر للتعليم المسيحى عند القديس أثناسيوس
“كان تقليد الكنيسة مرشدًا له فى دراسته للكتب المقدسة، إذ كان يبحث باجتهاد فى كتابات المعلمين القدامى ، كما شهد بنفسه وهو يعلن أنه قد تعلم عن لاهوت المسيح من المعلمين القديسين المُوحى لهم ومن الشهداء. وكان يعتبر أن المعنى السليم للآية هو المعنى الكنسى”[9].
وفى رسالة القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس المعترف أسقف أونوفيس، يقول: “إن كانوا (أى الآريوسيون) يريدون أن يتشبثوا بتجديفاتهم فليشبعوا بها وحدهم .. لأن إيمان الكنيسة الجامعة يقر بأن كلمة الله هو خالق كل الأشياء ومبدعها ” [10].
وفى رسالته إلى أبكتيتوس ، كتب القديس أثناسيوس ما يلى : ” كنت أظن أن كل كلام بطّال لجميع الهراطقة مهما كان عددهم قد توقف ، منذ المجمع الذى انعقد فى نيقية ، لأن الإيمان المُعترف به فى هذا المجمع من الآباء ، بحسب الكتب الإلهية ، كافٍ لطرد كل كفر خارج ولتوطيد إيمان التقوى فى المسيح” ؛ “لأن من سمع بهذه الأمور قط .. من أين خرجت هذه الأمور ..
أو من سمع فى الكنيسة أو بين المسيحيين على العموم بأن الرب لبس جسدًا خياليًا وليس طبيعيًا “؛ ” لأن ما قالوه (أى الهراطقة) لا يمكن أن يُقال أو يسمع من مسيحيين، بل هى أقوال غريبة عن التعليم الرسولى من كل ناحية “؛ “يكفى أن هذا تعليم الكنيسة الجامعة”، ” وهم يقولون إن الله قد صار فى جسدٍ بشرى.
أما الآباء الذين اجتمعوا فى نيقية فقد قالوا أيضًا إن الابن نفسه ـ وليس الجسد ـ هو من نفس جوهر الآب، وأنه بينما هو (الابن) من جوهر الآب، فإنهم اعترفوا أيضًا بحسب الكتب بأن الجسد هو من مريم”؛ ” إن الكلمة هو من نفس جوهر الآب بحسب اعتراف الآباء ” [11].
وفى رسالته الأولى إلى سرابيون ، يقول القديس أثناسيوس :
[ولكن بالإضافة إلى ذلك، دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها، الذى هو من البداية، والذى أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء. وعلى هذا (الأساس) تأسست الكنيسة، ومن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا ولا ينبغى أن يدعى كذلك فيما بعد] [12].
كان اهتمام القديس أثناسيوس الأساسى هو الاحتكام إلى فكر الكنيسة، إلى “الإيمان” الذى أُعلن مرة وحُفظ بصدق . لقد استشهد الآريوسيون بمقاطع كثيرة من الكتاب ليقيموا الدليل على ما ناضلوا من أجله، وهو أن المخلص مخلوق. فى جواب القديس أثناسيوس كان الاحتكام إلى ” قانون الإيمان ” واضحًا فى قوله ” لنصلح ، نحن الذين اقتنينا غاية الإيمان ، المعنى الصحيح لما فسروه بشكل خاطئ “[13]. وأكد القديس أثناسيوس أن الاستشهاد بفصول ومقاطع معزولة من الكتاب المقدس ، بعيدًا عن قصد الكتاب الإجمالى أمر مضلل.
فغاية “الإيمان” أو “غاية” الكتاب هى الفحوى العقيدى الموجود بكثافة فى ” قانون الإيمان ” كما حفظته الكنيسة . إن القديس أثناسيوس عدّ ” قانون الإيمان ” المبدأ الأسمى للتفسير ، وعارض أفكار الهراطقة عن طريق الفكر الكنسى ، إذ يقول : “اعتقد إذن أن هذا هو قصد النص الكتابى ، وهو قصد كنسى تمامًا” [14].
على أن هذا القانون لم يكن أبدًا سلطة ” غريبة ” تُفرض على الكتاب المقدس ، فهو ” البشارة الرسولية ” نفسها المدونة باختصار فى أسفار العهد الجديد . وأشار القديس أثناسيوس إلى أن الكتاب المقدس نفسه هو “تقليد”، ولم يذكر أبدًا لفظة التقليد بصيغة الجمع فى نقاشه مع الآريوسيين [15].
خامسًا : الحاجة إلى الذهن النقى ومماثلة سير القديسين فى دراسة الكتاب المقدس
فى كتابه ” تجسد الكلمة ” الفصل السادس والخمسون، يقول القديس أثناسيوس “لتقف على نص الكتب المقدسة ، بالتعمق بفكرك فيها وبإخلاص . فإنك تتعلم منها بأكثر استيفاء ووضوح ، التفاصيل الكاملة لما قلناه ” . على أن قراءة الكتب المقدسة وفهمها يتطلب الحياة الفاضلة من القارئ. وفى هذا يقول القديس أثناسيوس هذه العبارات: “إن تفتيش الكتب، ومعرفتها المعرفة الحقيقية، يتطلبان حياة فاضلة، ونفسًا طاهرة، والفضيلة التى بالمسيح.
حتى إذا ما استرشد بها العقل ، وأنار بها طريقه ، استطاع أن يصل إلى ما يصبو إليه ، ويدركه حسبما تستطيع الطبيعة البشرية أن تتعلمه عن كلمة الله. لأنه بدون الذهن النقى ومماثلة سير القديسين، لا يستطيع الإنسان أن يدرك أقوال القديسين . إذ كما أنه إن أراد أحد أن يبصر نور الشمس ، فإن عليه أن يمسح عينيه ويجليهما مطهرًا نفسه على مثال ما يبتغيه، حتى إذا ما استنارت العين استطاعت أن تبصر نور الشمس.
أو كما أنه إن أراد أحد أن يرى مدينة أو قرية ، وجب عليه أن يأتى إليها لكى يراها، هكذا أيضًا يجب على من يريد أن يدرك فكر الذين يتكلمون عن الله، أن يبدا بغسل وتطهير نفسه، بتغيير مجرى حياته، ويقترب إلى القديسين أنفسهم بالاقتداء بأعمالهم ، حتى إذا ما اشترك معهم فى السلوك فى الحياة المشتركة، استطاع أن يفهم هو أيضًا ما أعلنه الله لهم” [16].
سادسًا : منهجه فى تفسيره للكتاب المقدس مع أمثلة تطبيقية
إن النماذج المتبقية من كتابات القديس أثناسيوس ، تكشف عن شخصيته كمفسر عظيم يعرف كيف يصيغ بوضوح ودقة آراءه على النصوص التى يفسرها ، معتمدًا على الفحص الأولى التاريخى للنصوص ، لكى يتقدم إلى تفسير النصوص تفسيرًا روحيًا وكنسيًا . وكما يقول الاستاذ المتنيح باسيليوس ستوياينس فى مقدمته عن رسالته إلى ماركلينوس فى تفسير المزامير ” تقريبًا لم يشر القديس أثناسيوس إطلاقًا إلى الإنسان متفردًا ، بل يشير إليه دائمًا كعضو فى الكنيسة ” [17].
وفى تفسيره الرمزى يبتعد عن التطرف ولم يتم فى منهجه أى تعليم بالاستناد إلى آية واحدة أو بضعة آيات ، بل كان كفلاح يحرث الكتاب المقدس كله ” ولقد آمن بأن الهراطقة يخدعون البسطاء بتقديم مقتطفات من الكتب المقدسة ويغفلون أجزاء أخرى منها . إنهم يتظاهرون كأبيهم إبليس (يو44:8) بأنهم يدرسون ويقتطفون لغة الكتاب لكى يخدعوا الآخرين بمكرهم ” [18].
ويرى القديس أثناسيوس ، أنه عند دراسة أى موضوع من موضوعات الكتاب المقدس ، يلزم فحص هذا الموضوع فى جميع مواقعه بالكتاب المقدس ، حتى يمكن إطلاق الحكم بصورة كاملة . وهكذا عندما تناول موضوع الروح القدس فى رسالته الأولى إلى سرابيون ، فإنه لكى يثبت أن الروح القدس ليس مخلوقًا ، درس الآيات التى جاءت عن الروح القدس وانتهى إلى القول :
[ قولوا لنا إذن ، أتوجد فقرة فى الكتاب المقدس الإلهى أُشير فيها إلى الروح القدس بمجرد كلمة “روح ” بدون إضافة كلمة أو حرف إليها ، مثل : الله ، أو الآب أو “ياء المتكلم”، أو ” المسيح ” نفسه أو ” الابن ” ، أو ” منى ” أى من الله أو أداة التعريف ” أل ” فلا يُقال عنه روح ، بل الروح ، أو الاصطلاح الكامل ” الروح القدس ” أو ” روح الحق ” أى ” روح الابن ” الذى يقول ” أنا هو الحق ” (يو6:14)، حتى إنكم بمجرد سمع كلمة ” روح ” افترضتم أنها تعنى ” الروح القدس ” .
وبالإيجاز نقول : إنه ما لم تضف إداة التعريف ” أل ” أو “إحدى الإضافات السابقة “، فإن كلمة ” روح ” لا يمكن أن تشير إلى الروح القدس ] . وكذلك يقول لهم : [ أيمكنكم إجابة السؤال الذى قُدم إليكم عما إذا كنتم تجدون فى أى مكان فى الأسفار الإلهية ـ أن الروح القدس قد أُطلق عليه مجرد كلمة ” روح ” دون الإضافات السابق ذكرها ، ودون الصفات السابق تدوينها . إنكم لا تستطيعون الإجابة لأنكم لن تجدوا أثرًا لهذا فى الكتاب المقدس ] [19].
ويواصل القديس أثناسيوس صراعه ضد الهراطقة قائلاً : [ ثم ابحثوا أيضًا ما تضمنته الأناجيل وكتابات الرسل ] [20].
ثم يقول: [ أنظروا كيف أشارت جميع الأسفار الإلهية إلى الروح القدس][21]. ومرة أخرى يقول : [ أين وجدوا فى الأسفار المقدسة أن الروح القدس أُشير إليه كملاك … وإن كانت الأسفار المقدسة لم تتحدث عن الروح القدس كملاك، فأى عذر لهم فى مثل هذه الجرأة ] [22].
ويرى القديس أثناسيوس أن أسوأ ما فى الأمر، أن نخترع كلمات جديدة تضاد الكلمات المستخدمة فى الكتب المقدسة [23].
وفى مجمع نيقية شدد بقوة على أهمية الكتاب المقدس عندما قال : [ إنه أمر غير مقبول وغير لائق أن نخترع صورًا أخرى للرب ، غير التى يستخدمها الكتاب المقدس ، والتى هى من ناحية، لا تتعلق بالكتاب ولا تؤدى إلى التقوى . لو كانوا فى الحقيقة ينكرون كل ما كتب فى الكتاب المقدس، عندئذ يكونوا قد ابتعدوا عن المسيحية . وسيكون من الممكن أن يدعوهم الكل ” منكرى الله ” ، و ” محاربى المسيح ” ] [24].
ومن جهة أخرى ينبه القديس أثناسيوس إلى ضرورة الاهتمام بالسياق المباشر لكل جملة وتعبير ، وابراز قصد الكاتب الصحيح بدقة ، وهذا ما يشير إليه فى رسالته الأولى إلى سرابيون حيث يقول بعد المناقشة [ أعتقد إذن أن هذا هو قصد النص الكتابى] [25].
ويشير القديس أثناسيوس إلى أن الآريوسيين يتجاهلون ” غاية ” الكتاب المقدس [26]، لأنهم يهتمون بما يُقال ويتجاهلون معناه. وكانت لفظة “الغاية” عند القديس أثناسيوس موازية للفظة “تصميم” عند القديس إيريناؤس، للإشارة إلى الفكرة الأساسية والتصميم الصحيح والمعنى المقصود[27]. وفى شرحه للآية ” صائرًا أعظم من الملائكة” (عب4:1) قال القديس أثناسيوس بالتفصيل ما يلى:
[ والآن من الملائم كما نعمل فى كل الأسفار الإلهية ، هكذا من الضرورى أن نعمل هنا أيضًا ، فيجب أن نفهم بأمانة : العصر الذى كتب عنه الرسول والشخص والموضوع اللذين كتب عنهما ، لكى لا يجد القارئ نفسه ـ وهو يجهل هذه الأقوال أو غيرها ـ بعيدًا عن المعنى الحقيقى . ولذلك فإن ذلك الخصى المحب للمعرفة ـ حينما عرف هذا، توسل إلى فيلبس قائلاً : ” إنى أسألك ، عمن يقول النبى هذا ، عن نفسه أم عن شخص آخر ؟ ” (أع34:8) ، لأنه كان يخشى أن يحيد عن المعنى المستقيم ويفهم الكلام عن شخص آخر من خلال قراءته.
وأيضًا التلاميذ بسبب رغبتهم فى أن يعرفوا وقت حدوث ما قاله الرب، توسلوا إليه قائلين ” قل لنا متى ستكون هذه الأمور، وما هى علامة مجيئك ؟” (مت3:24). وأيضًا عندما سمعوا من المخلص ما قاله عن النهاية ، أرادوا أيضًا أن يعرفوا زمنها (أنظر مت36:24)، وذلك لكى لا يضلوا ، وأيضًا لكى يتمكنوا من تعليم الآخرين، فإنهم بعد أن عرفوا، فقد صححوا أفكار الذين كانوا على وشك الضلال من أهل تسالونيكى ] [28].
وكمثال لمنهجه فى التفسير ، فهو كمفسر روحى ، يرى أن المزامير بالنسبة للمرتل ، كمرآة يرى فيها ذاته وحالاته النفسية، وأن أشكال المزامير المتنوعة تعكس كل متطلبات الحياة واحتياجاتها. وعلى سبيل المثال هناك مزامير تحت شكل قصصى (مز114)، والبعض فى شكل نصائح إرشادية (مز32)، ومزامير فى شكل نبوات (مز16) ، وهناك مزامير فى شكل صلاة (مز6)، وأخرى فى شكل اعتراف (مز51)، بالإضافة إلى مزامير فى شكل حمد وتسبيح (مز8).
وبالإيجاز يجد القديس أثناسيوس فى سفر المزامير صورة للحياة الإنسانية بكل أحوالها وأفكارها . ولا ينقص فى المزامير أى شئ موجود فى الإنسان . فكل ما تبحث عنه ، سواء كان توبة أم اعترافًا ، أم عونًا فى شدة أو تجربة أو اضطهاد ، سواء نجوت من المكائد والمؤامرات أم على العكس، كنت حزينًا لأى سبب كان ، سواء أكنت ترى نفسك متقدمًا وعدوك مهزومًا ، وتريد أن تسبح وتشكر وتبارك الرب ، فى كل هذا ، تريك المزامير المقدسة ماذا تفعل .
ــــــــــــــــــــــ
مراجع:
1 مجموعة آباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية : القديس أثناسيوس ، الجزء الخامس ، تسالونيكى 1975، ص13
(”Ellhnej Patšrej tÁj ‘Ekklhs…aj, “Agioj ‘Aqan£sioj, tÒmoj 5, Qes/n…kh 1975, sel.13.).
2 القس منسى يوحنا : تاريخ الكنيسة القبطية ، ملوى ، الطبعة الثالثة 1982 ص168.
3 الباترولوجيا اليونانية، الجزء الثالث، ب. خريستو، تسالونيكى 1987، ص497ـ499
(‘Ellhnik» Patrolog…a, tÒmoj G/ . Panagièth Cr»stou. Qes/n…kh 1987, sel.497- 499.).
4 أنظر كتاب تفسير المزامير للقديس أغسطينوس ـ رسالة فى المزامير للقديس أثناسيوس . بيت التكريس بحلوان 1961 ص 2.
[5] De vir. Illustribus 87.
[6] PG 27, 649-1344.
[7] M. Faulhaber, G. Mercati.
[8] Mupiobiblos 139.
9 القمص تادرس يعقوب: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: كنيسة علم ولاهوت ـ كنيسة سبورتنج بالأسكندرية 1986 ص8.
10 المسيح فى رسائل القديس أثناسيوس ، عربه عن اليونانية الأستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحى عبد الشهيد ، بيت التكريس لخدمة الكرازة 1981 ص30.
11 المرجع السابق : ص37،36،34،33.
12 الرسائل عن الروح القدس إلى الأسقف سرابيون ، ترجمة د. موريس تاوضروس ،د. نصحى عبد الشهيد ـ مركز دراسات الآباء ـ الرسالة الأولى : 28.
13 القديس أثناسيوس : ضد الاريوسيين35:3.
14 القديس أثناسيوس : ضد الاريوسيين44:1.
15 أنظر فى هذا الأقوال للأب جورج فلورفسكى : الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد ـ وجهة نظر أرثوذكسية ـ نقله إلى العربية : الأب ميشال نجم ـ منشورات النور 1984ـ الفصل الخامس .
16 القديس أثناسيوس : التجسد3،2،1:57.
17 مجموعة آباء الكنيسة اليونانيين ـ المجلد الخامس ـ تسالونيكى 1975 ص 11.
18 القمص تادرس يعقوب : نفس المرجع ص83.
19 الرسالة الأولى إلى سرابيون5،4.
20 سرابيون6:1.
21 سرابيون7:1.
22 سرابيون11:1 .
23 سرابيون17:1 .
24عن مجمع نيقية15:12.
25 سرابيون54:1.
26 سرابيون7:2.
27 دكتور موريس تاوضروس ـ علم اللاهوت العقيدى ـ الجزء الأول ـ مكتبة أسقفية الشباب 1994 ص 94.
28 ضد الآريوسيين54:1.