لم يُغير بشريتنا عن طبعها الإنساني
للعودة للجزء الرابع – الجسد الترابي ليس عائقاً للتقديس
أضغط هنا.
إن مفهوم تقديس الإنسان والاتحاد بالله الذي يقصده الآباء لا يعني على الإطلاق تحول في الطبائع، أي تحول الطبيعة البشرية إلى طبيعة إلهية، ويفقد الإنسان إنسانيته ليصبح إله، ولكن المعنى هو: تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله في شركة المحبة بالقداسة أي التقديس، وذلك برفع الحاجز الخطير الذي يفصل حياة الإنسان عن حياة الله، أي رفع سلطان الخطية أولاً وتطهير القلب وغسل الضمير ورفع كل شكاية والتخلص النهائي من سلطان الموت، وذلك بتوسط غسل وتقديس دم المسيح لنا وبتناولنا جسده الذي هو لنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية. لذلك فالاتحاد بالله بمفهومه الكامل كحياة مع الله، لا يُمكن أن يتحقق إلا بالقيامة من الأموات وتمجيد هذا الجسد يوم استعلان ربنا يسوع [ نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا ] (رو 8: 23)، ولكن لأنه أُعطى لنا منذ الآن سر النعمة في أسرار ووصايا وقوة إلهية لكي نغلب بها الخطية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة [ كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة. اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة ] (2بط1: 3 – 4)، لذلك فقد انفتح أمام الإنسان – التائب المؤمن بالمسيح – باب إمكانية تذوق الاتحاد بالله بشركة المحبة والطاعة منذ الآن [ البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات ] (رو 13: 14)، [كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم ] (1بط 1: 14).
عموماً، فالله باتحاده بطبعنا الإنساني في تجسده، لم يُغير ذاته كما أنه لم يُغير بشريتنا من جهة أننا بشر، بل قدم ذاته نعمة وهبة لبشريتنا الضعيفة ورفعها إلى أعلى مستوى، أي ألبسنا ذاته، أي قدس بشريتنا وجعلها إناء مخصص لشخصه كمقرّ لسكناه الخاص والشخصي [ العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي كما يقول النبي ] (أع 7: 48)، [ أما تعلمون إنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ] (1كو 3: 16)، فمنحنا نعمة خاصة ومقدرة على أن نحب من محبته ونحيا من حياته، لذلك قال: [ أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين و يمطر على الأبرار والظالمين ] (مت5)، ومن يقدر على هذه المحبة أن لم يكن طبعة سماوي، أي أنه دخل في شركة مع الله في المسيح الكلمة المتجسد فتطبع بطبعه السماوي ونال منه هذه المحبة [ لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ] (رو 5: 5).
بنعمة التقديس ننال طبعاً جديداً فيُتاح لنا أن نُفكر على مثال الله [ لأنه من عرف فكر الرب فيُعلمه وأما نحن فلنا فكر المسيح ] (1كو 2: 16)، ونحب ونعمل كل شيء على مثال المسيح الله الكلمة المتجسد [ لأننا به نحيا و نتحرك و نوجد ] (أع17: 28). فلا توجد خليقة ما تستطيع بقوتها الذاتية والشخصية أن تُفكر وتحب أو تعمل على المستوى الخاص بالله إطلاقاً. ولكن الله بمجيئه إلينا واتخاذه طبيعتنا واتحاده الخاص بنا منحنا المقدرة على أن نُفكر كما يفكر هو فأصبح [ لنا فكر المسيح ]، وصرنا نُحب كما يُحب هو، لذلك نستطيع أن نفهم بوضوح قول الرسول: [ فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قُرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة ] (أفسس5: 1و 2)
فهكذا أعطانا المسيح الله الكلمة المتجسد أن نُفكر ونُحب ونكون حقاً على مثاله [ كونوا متمثلين بالله ]، فنصير واحداً معهُ في الفكر القلب.
ويقول القديس كيرلس الكبير: [ حتى كما أن الله نفسه محبة وفرح وسلام وإحسان وصلاح كذلك تكون النفس في الإنسان الجديد بالنعمة ] (حياة الصلاة ص199: 283)
ويقول القديس أغسطينوس: [ ما هذا الذي يومض في أحشائي ويقرع قلبي دون أن يؤلمني؟ فأرتجف بقدر ما أرى نفسي أني لست أُشبهه، وأطمئن بالقدر الذي فيه أرى نفسي أُشابهه!، أنها الحكمة هي التي تومض في أحشائي ] (حياة الصلاة ص198: 279)
ويُعبر القديس أثناسيوس الرسولي أروع تعبير على الوحدة مع الله وسبب مشابهته قائلاً: [ أن الله قد أتى إلينا ليحمل جسدنا، فيُتاح لنا أن نصير نحن حاملي الروح ].
في التجسد اتسمت بشريتنا بسمات الله وارتدت إنس
انيتنا بهاء الله وصرنا بكل ما لنا جواً إلهياً يحيا فيه الله، وعندما نُقدم ذواتنا للمسيح تقدمة حُرة تامة ونقبل نهج حياته، يتحقق اتحادنا التام به ويصير التقديس فاعلاً فينا فنصير على مثاله حقاً.
ويقول القديس مقاريوس الكبير: [ إن كانت النفس تُخصص ذاتها للرب، وتتمسك به وحده، وتسير بوصاياه، وتعطي روح المسيح حقها، إذا هي أتت عليها وظللتها، حينئذٍ تُحسب أهلاً لتصير روحاً واحداً وتركيباً واحداً معهُ، كما نص على ذلك الرسول : ” وأما من التصق بالرب فهو روح واحد ” (1كو6: 17) ] (حياة الصلاة ص200: 286)
ولا بد لنا أن نعلم يقيناً، إن الحياة الإلهية هي النعمة التي ترفعنا لهذا المستوى من التقديس والتخصيص لنتطبع بالطبع الإلهي، لأن الله هو من يعطينا ذاته ويهبنا هذه الشركة والمماثلة، دون أن نخرج عن إنسانيتنا إطلاقاً، فنحن سنبقى في شركة مع الله دون أن يقع خلط بين طبيعة الله وطبيعتنا الإنسانية التي تقدست في المسيح الرب، فدعوتنا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية وليس أن نكون آلهة بالطبيعة أو نتحول للاهوت لأن هذا مستحيل استحالة مطلقة لا نقاش فيها إطلاقاً!!!
عموماً الله القدوس هو من سكب فينا حياته وأعطانا روحه الخاص لنصير معهُ في أُلفة المحبة وفي حالة اتحاد سري في المسيح لنا أن نتذوقه ونعيشه كخبرة في حياتنا ولا نستطيع أن نُعَبَّر عن هذه الوحدة السرية في كمالها الإلهي لأنها سرّ عظيم يفوق كل إدراكنا، لنا فقط أن ندخله بالإيمان وفي سر الإفخارستيا العظيم…
إذن الإنسان شريك الطبيعة الإلهية لا بالطبيعة، لأنه بالطبيعة إنسان وسيظل إنسان، فوحدتنا مع الله وشركتنا معه لا تُغير من جوهر طبيعتنا البشرية على الإطلاق، فنحن ننال هذه الشركة ونحياهابواسطة وفي يسوع المسيح المتحد بجسم بشريتنا بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
ولكي لا يتشتت أحد ما ويتوه في معنى تقديس الإنسان في المسيح أو حسب اللفظ الآبائي الشهير “تأليه الإنسان”، أو يُدخلنا في مهاترات كلام خارج معنى الموضوع ويتهم أحد بالهرطقة ظناً منه أن التأله كلام حرفي المقصود به أن يصير الإنسان مثل الله ويخلق ويوجد في كل مكان مع أن المعنى الواضح من هذه اللفظة الآبائية هو انتساب الإنسان لله، ولكي لا يظن أحد أن “تأليه الإنسان” عمل يُخرج الإنسان عن إنسانيته أو يُغير شيئاً من طبيعته الإنسانية، نقرأ للقديس أثناسيوس الرسولي لتوضيح المعنى الحقيقي لهذا المصطلح كالآتي:
[ أن الآب بواسطة الابن يؤله ويُضيء الجميع… فالذي به ينال الجميع الألوهة والحياة كيف يُمكن أن يكون (الابن) من جوهر مخالف لجوهر الآب ]، [ ولكن ليس بحسب الطبيعة نكون ابناء الله، بل بسبب الابن الوحيد الذي يكون فينا، وكذلك أيضاً الاب لا يكون أباً لنا بحسب الطبيعة، بل لأنه أب الكلمة الذي يكون فينا، الذي به وفيه نصرخ يا أبا الآب. وهكذا الآب لا يدعو أبناء له إلا الذين يرى فيهم ابنه الوحيد ]، [ إذنفالروح هو الذي في الله، ولسنا نحن من أنفسنا نكون في الله، ولكن كما أننا نصير أبناء وآلهة بسبب الكلمة الذي يكون فينا، هكذا أيضاً نصير في الابن وفي الآب، ونصير واحداً معهما بسبب الروح الذي فينا، لأن الروح هو في الكلمة والكلمة نفسه هو بالحقيقة في الآب ]، [ من أجل هذا صار الكلمة جسداً لكي يقدم جسده عن الجميع، ولكي إذا اشتركنا في روحه “نتأله”، – وهي العطية التي كان يستحيل علينا الحصول عليها إذا لم يكن قد لبس هو بنفسه جسدنا المخلوق، لأنه من ذلك أخذنا إسمنا “كرجال الله” “وإنسان المسيح”، ولكن كما أنه يأخذنا الروح القدس لا نفقد طبيعتنا الخاصة (الإنسانية)، هكذا الرب لما صار إنساناً من أجلنا ولبس جسداً لم يتغير عن لاهوته، لأنه لم ينقص شيئاً عندما تسربل بالجسد، بل بالحري ألَّهه وجعله غير ماءت ] (ليتنا ننظر لتركيب الألفاظ والمعاني لنفهم القصد الآبائي الصحيح من لفظة [التأله]، هذه اللفظة التي اربكت الكثيرين بسبب عدم الخبرة وعدم الحياة في المسيح من جهة الخبرة، ولأنهم دخلوا للموضوع كداسة فكرية تعثروا والبعض رفض اللفظة جملة وتفصيلاً، لأنه الفكر لا يقبلها)…
و يقول القديس مقاريوس الكبير في عظته 49 في هذا الموضوع مُفرقاً بين النفس البشرية والله هكذا: [ هو الله وهي ليست إلهاً، هو الرب وهي صنعة يديه، هو الخالق وهي المخلوق، هو اصانع وهي المادة، ولا يوجد شيء مشترك قط بينه وبين طبيعتها ] ….[ وممكن الرجوع لهذه الفقرات عن توضيح معنى التأله وأن الإنسان لا يتحول لإله في كتاب القديس أثناسيوس الرسولي البابا العشرون (296 – 373م)، سيرته – دفاعه عن الإيمان ضد الأريوسيين، لاهوته – للأب متى المسكين – الطبعة الأولى مايو 1981 – مطبعة دير القديس أنبا مقار- وادي النطرون، من صفحة 437 إلى صفحة 447، وقد تم كتابة الفقرات ما بين صفحة 441، 442 ]
الإله الواحد آمين