دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس (الجزء 6) تابع المقدمة (ب) العهد القديم تطور طقوس الذبائح، جوانب الذبيحة المختلفة.
أولاً: تطور طقوس الذبائح؛ ثانياً: جوانب الذبيحة المختلفة
للرجوع للجزء الخامس أضغط هنـا.
أولاً : تطور طقوس الذبائح
في حقبة بعيدة القدم، يُشير إليها تاريخ الكتاب المقدس، تتميز مجموعة الطقوس بالبساطة البدائية التي تناسب عادات البدو الرُحَّل، أو نصف الرُحَّل وهي تتسم بإقامة مذابح بسيط، ورفع الدعاء للاسم الإلهي ببساطة شديدة، وتقدم حيوانات أو محاصيل الأرض: ” وحدث من بعد أيام أن قايين قدَّم من أثمار الأرض قرباناً للرب…؛ وظهر الرب لإبرام وقال لنسلك أُعطي هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للرب الذي ظهر لهُ ثم نقل من هُناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق، فبنى هناك مذبحاً للرب ودعا باسم الرب ثم ارتحل إبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب ” ( تكوين 4: 3 ؛ 12: 7 – 9 )
ونلاحظ أنه لا يوجد أماكن ثابتة لتقديم الذبائح بل عادة تُقدم في المكان الذي يظهر الله فيه، والمذبح الترابي البدائي والبسيط جداً في مظهره، والخيام التي تفك وتُبسط، يشهدان بطريقتهما الخاصة على الطابع غير الثابت والمؤقت لأماكن العبادة القديمة: ” مذبحاً من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقات وذبائح سلامتك، غنمك وبقرك في كل الأماكن التي فيها أصنع لاسمي ذكراً آتي إليك وأُباركك ” ( خروج20: 24 )، ” تحفظ عيد الفطير، تأكل فطيراً سبعة أيام كما أمرتك في وقت شهر أبيب لأنهُ فيه خرجت من مصر ولا يظهروا أمامي فارغين ( ذكورك ) ” ( خروج 23: 15 )
وكذلك نلاحظ أنه لم يكن هناك خدام مخصصون لبناء المذبح أو تقديم الذبيحة أو العطايا لله، فرب الأسرة أو رئيس القبيلة، والملك في العهد الملكي، هم الذين يقدمون الذبائح. إلا منذ زمن مبكر، أخذ بعض الرجال المختارين خصيصاً ليقومون بهذه الخدمة والوظيفة الخاصة: ” وللاوي قال ( موسى ) تُميمُك وأُريمُك لرجلك الصديق الذي جربته في مسه وخاصمته عند مريبة، الذي قال عن أبيه وأمه لم أَرَهما وبإخوته لم يعترف وأولاده لم يعرف، بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك يُعلمون يعقوب أحكامك وإسرائيل ناموسك، يضعون بخوراً في أنفك على مذبحك ” ( تثنية 33: 8 – 10 )
فكما أن الهيكل على عهد يوشيا سيصبح المركز الوحيد لكل نشاط خاص بالذبائح، كذلك الكهنة سيجعلون إقامة الذبائح وقفاً على أنفسهم، حسب أمر الله بالطبع.
2 – إلى تشعب الطقوس:
نلاحظ أن بعد ذلك أن الطقوس تشعبت بشكل كبير ومتسع جداً، وقد نجم هذا بسبب ما أتى به التاريخ من تجديدات متوالية وتطور العلاقة بين الشعب والله. ونلمس – في الواقع – تطوراً في الاتجاه نحو الكثرة والتنوع والتخصص في الذبائح، وهناك أسباب كثيرة توضح هذا التطور الذي حدث بعد البساطة التي كانت تقدم بها العبادة والذبائح:
فالانتقال من الحياة البدوية والرعوية وكثرة الترحال في خيام من مكان لآخر إلى حياة الاستقرار والزراعة، والتأثير الكنعاني وخطورة الكهنوت المتزايدة، فشعب إسرائيل نجده كثيراً ما يقتبس عناصر كثيرة من جيرانه المحيطين به والشعوب الذي اختلط بها: فهو ينقيها ويُصححها ويروحنها حسب وصية الله، ليقدم العبادة لله كبكر وسط الشعوب …
وبالرغم من التمادي في تقديم العبادة لله بتدقيق، إلى أن وصل لحد المبالغة المفرطة والخروج عن الوصية الإلهية، نجد أن إسرائيل قد وقع – عن عدم وعي – في خطر العبادة الباطلة والتي لا تُرضي الله، والذي أخذ تحذير بشأنها لكي لا يُشابه الشعوب الذي طردها الرب من أمامه:
” هل يُسرّ الرب بألوف الكباش، بربوات أنهار زيت، هل أُعطي بكري عن معصيتي ثمرة جسدي عن خطية نفسي ” ( ميخا 6: 7 )
” ونزر يفتاح نذراً للرب قائلاً: إن دفعت بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعده محرقة ” ( قضاة 11: 30 – 31 )
ويرفض إسرائيل حسب تحذير الرب أن يقدم ذبائح بشرية، فهو جرم عظيم، ولا يعتبر عبادة بل هو حرم وإيقاع شر أمام عيني الرب:
” لا تعمل هكذا للرب إلهك لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس لدى الرب، مما يكرهه، إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم ” ( تثنية 12: 31 )
” لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا من يعرف عرافة ولا عائف ( ممارس سحر ) ولا متفائل، ولا ساحر، ولا من يرقي رقيه، ولا من يسأل جاناً أو تابعة ( امرأة تعمل في السحر )، ولا من يسأل يستشير الموتى، لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب. وبسبب هذه الأرجاس الرب إلهك طاردهم من أمامك ” ( تثنية 18: 10 – 12 )
عموماً، قد اغتنى شعب إسرائيل بالاقتباس من تُراث الشعوب الأخرى في العبادات، ممارساً بذلك وظيفته كوسيط، موجهاً من جديد نحو الإله الحق بعض ممارسات طرأ عليها تحريف المفاهيم الوثنية. فهو نقاها حسب أمر الله ووصيته، وبذلك أخذت الطقوس الأولية البسيطة في التكامل والتشعب، مع الأخذ في الاعتبار تحذيرات الله للخلط ما بين وصيته وما بين المبالغة إلى الحد الذي فيه يتم مشابهة الشعوب الأخرى التي لم تتقي الله ولم تخافه وتهابه.
ثانياً : جوانب الذبيحة المختلفة
شهد الكتاب المقدس – منذ البداية – بوجود أنواع مختلفة من الذبائح. فالمحرقة ( عُوْلَه עֹלָה ) وهي تظهر في التقاليد القديمة، وفي عهد القضاة:
” وبنى نوح مذبحاً للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح ” ( تكوين 8: 20 )
” فدخل جدعون وعمل جدي معزى وإيفة ( 45 لتر ) دقيق فطيراً.. فقال لهُ ملاك الله خذ اللحم والفطير وضعهما على تلك الصخرة … ففعل ذلك. فمد ملاك الرب طرفي العُكاز الذي بيده ومس اللحم والفطير فصعدت نار من الصخرة وأكلت اللحم والفطير… ” ( قضاة 6: 19و20و21 )
” فأخذ منوح جدي المعزى والتقدمة وأصعدهما على الصخرة للرب. فعمل عملاً عجيباً ( ملاك الرب ) ومنوح وامرأته ينظران فكان صعود اللهيب عن المذبح نحو السماء أن ملاك الرب صعد في لهيب المذبح.. ” ( قضاة 13: 19 – 20 )
فكانت الذبيحة تُحرق بجملتها [[ ( ثور، خروف، جدي، طائر ) وذلك – كما رأينا في المقدمة – تعبيراً عن الهبة الكاملة التي لا رجعة فيها ]]
وهناك نوع آخر من الذبائح كثير الانتشار عند الساميين، كان يقوم أساساً على مأدبة مقدسة، ذبيحة سلامة ( ذَبحْ شيلميم – זֽבָחשׁלָמִים)، أو ذبيحة شركة، فيأكل المؤمن ويشرب ” أمام الرب “: ” بل أمام الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب إلهك أنت وابنك وابنتك وعبدك وأَمَتك واللاوي الذي في أبوابك وتفرح أمام الرب… ” ( تثنية 12: 18 )
” وانفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والخمر والمسكر وكُل ما تطلب منك نفسك وكُل هناك أمام الرب إلهك وافرح أنت وبيتك ” ( تثنية 14: 26 )
وقد خُتم عهد سيناء بذبيحة من هذا النوع: ” فكتب موسى جميع أقوال الرب وبكَّر في الصباح وبنى مذبحاً في أسفل الجبل واثني عشر عموداً لأسباط إسرائيل الأثني عشر، وأرسل فتيان بني إسرائيل فاصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب ” ( أنظر خروج 24: 4 – 8 )
ومن المؤكد أن كل مأدبة مقدسة لا تفرض – بالضرورة – وجود ذبيحة، إلا أنه في الواقع، ولائم الشركة هذه، في العهد القديم، كانت تشتمل على ذبيحة، فجزء من الذبيحة ( سواء كانت حيوان صغير أم كبير )، كان يُصبح من حق الله – سيد الحياة – كدمٍ مراق والدهن ( بحرقه على المذبح )، في حين كان يُستخدم اللحم كطعام للمدعوين ( وهنا بالطبع تتضح روح الشركة بين الله والإنسان، والإنسان مع أخيه في محضر الرب )، ونرى ذلك مشروح في الطقس بكل دقة في لاويين 3، فيقول الطقس: يضع المقدم ( مقدم الذبيحة ) على رأس الحيوان ويذبحه. يرش الكاهن الدم على المذبح وحوله. تُنزع الأحشاء ويُحرق الدهن كرائحة رضا ليهوه…
وأيضاً هناك طقوس تكفيرية ( ذبائح كفارية – כַּפֵּר ): ” ولذلك أقسمت لبيت عالي إنه لا يُكفر عن شر بيت عالي بذبيحة أو بتقدمة إلى الأبد ” ( 1صموئيل 3: 14 )
وأيضاً توجد ذبيحة أساسية ورئيسية منذ القديم، وهي ذبيحة المحرقة: ” وبنى نوح مذبحاً للرب… وأصعد محرقات … فتنسم الرب رائحة – רֵיחַ– الرضا، وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأن تصورات قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أيضاً أُميت كل حي كما فعلت ” ( تكوين 8: 20 – 21 )
وقد اعتبرت هذه الذبيحة: رائحة سرور، إذ أنها تُمثل الطاعة القلبية لله
” وأما أحشاؤه وأكارعهُ فيغسلها بماء ويوقد الكاهن الجميع على المذبح محرقة وقود رائحة سرور للرب ” ( لاويين 1: 9 )
” ويوقدهن الكاهن على المذبح طعام وقود لرائحة سرور ( راحة )، كل الشحم للرب ” ( لاويين 3: 16 )
(2) نحو صورة جامعة في سفر اللاويين:
سفر اللاويين يعرض بأسلوب فني وصور نظامية العطايا المقدمة لله: أنظر من لاويين 1 إلى لاويين 7
” وكلم الرب موسى قائلاً: كلم هارون وبنية وجميع بني إسرائيل وقُل لهم: كل إنسان من بيت إسرائيل ومن الغرباء في إسرائيل قرب قربانه من جميع نذورهم وجميع نوافلهم [ تبرعاتهم ( أي تقدمة غير مفروضة على الإنسان ) ] التي يقربونها للرب محرقة للرضا عنكم يكون ذكراً صحيحاً من البقر والغنم أو الماعز، كل ما كان فيه عيب لا تقربوه لأنه لا يكون للرضا عنكم ( لا يرضى به منكم ).
وإذا قرب إنسان ذبيحة سلامة وفاء لنذر أو نافلة ( تبرع ) من البقر أو الأغنام، تكون صحيحة للرضا ( ليرضى به الرب )، كل عيب لا يكون فيها، الأعمى والمكسور والمجروح والبثير ( ليس به بثور أو خُرَّاج ) والأجرب والأكلف ( من له بقع مختلفة في جسمه – مرض جلدي أو بقع لونية مختلفة عن طبيعة جلدة الطبيعي )، هذه لا تقربوها للرب، ولا تجعلوا منها وقوداً على المذبح للرب. وأما الثور أو الشاه ( غنم أو ماعز ) الزوائدي أو القزم فنافلة ( تبرعاً ) ( لـ ) تعمله، ولكن لنذر لا يرضى به، ومرضوض الخصية ومسحوقها ومقطوعها لا تقربوا للرب، وفي أرضكم لا تعملوها ومن يد ابن الغريب لا تُقربوها خُبز إلهكم من جميع هذه، لأن فيها فسادها. فيها عيب لا يُرضى بها عنكم ( لا يُرضى به منكم ).
وكلم الرب موسى قائلاً: متى وُلِدَ بقر أو غنم أو معزى يكون سبعة أيام تحت أمه، ثم من اليوم الثامن فصاعداً يُرضى به قُرباناً وقود للرب، وأما البقرة أو الشاه فلا تذبحوها وابنها في يومٍ واحد، ومتى ذبحتم ذبيحة شكر للرب فللرضا عنكم تذبحونها، في ذلك اليوم تؤكل، لا تبقوا منها إلى الغد. أنا الرب ” ( لاويين 22: 17 – 30 )
ومن الواضح أن سفر اللاويين يختص بتنظيم العطايا المقدمة لله: الدموية والغير دموية، وجميع أنواع العطايا بلا استثناء …
ونلاحظ دقة السفر في سرد العطايا وتقديمها بدقة بدون أن يطغي طقس التقديم على روح الطقس نفسه الذي تُقدم به العطايا لله، لأن الحركات الدقيقة في الطقس تحمل معنى مقدساً يعمل سراً في قلب الإنسان مقدمالعطية أو الذبيحة، مثل رفع الشكر لله القدوس، والرغبة في التكفير عن نفسه ليقدر أن يتقرب من الله ويتصالح معه ويُنشأ معه علاقة، وذلك يظهر في تقديم المحرقة: ” ويضع يده على رأس المحرقة فيُرضى عليه للتكفير عنه ” ( لاويين 1: 4 )
” وكان لما دارت أيام الوليمة أن أيوب أرسل ( أبناؤه ) فقدسهم، وبكر في الغد وأصعد محرقات على عددهم كلهم. لأن أيوب قال: ربما أخطأ بَنيَّ وجدفوا على الله في قلوبهم، هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام ” ( أيوب 1: 5 )
وفي خلفية بعض الاصطلاحات، يُكشف شعور عميق بقداسة الله، مع خوف ملازم من الخطية ( التي تُدمر حياة الإنسان وتضعه في خصومة مع الله )، وحاجة داخلية مُلَّحه للتطهير والتنقية.
إن مفهوم الذبيحة في هذه المجموعة الطقسية – التي تظهر في سفر اللاويين – يتجه إلى التركيز حول فكرةالتكفير، والدم في ذلك يلعب دوراً هاماً، إلا أن فاعليته تتعلَّق في النهاية بالمشيئة الإلهية، وتفرض توفر مشاعر التوبة الصادقة من القلب:
[ التكفير عن النفس بالدم ] ” لأن نفس الجسد هي في الدم، فأنا أعطيتكم إياهُ على المذبح للتكفير ( Cover -כַּפֵּר ) عن نفوسكم. لأن الدم يُكفَّر عن النفس ” ( لاويين 17: 11 )
[ المشيئة الإلهية ] ” أنا أنا هوَّ الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكُرها ” ( إشعياء 43: 25 )
والتعويض عن النجاسات الطقسية والأخطاء غير المقصودة كان يدفع المؤمنين عملياً نحو تطهير قلوبهم، كما أن الشرائع الخاصة بالطاهر والنجس كانت توحي للنفوس بالابتعاد عن الشرّ واقتلاعه من جذوره.
ووليمة الشيلميم ( السلامة ) تُتَرجَّمْ وتُحَقَق في الفرح والابتهاج الروحي وحدة الشركة بين المدعوين لهذه الوليمة، بعضهم مع بعض ومع الله، لأن الجميع يشتركون بالفرح والشكر في الذبيحة عينها ( كما سوف نرى أثناء شرحنا لذبيحة السلامة ).
ثالثاً: من الطقوس إلى الذبيحة الروحية