نظرة علمية في توثيق إنجيل متى – أثيناغوراث
نظرة علمية في توثيق إنجيل متى – أثيناغوراث
نظرة علمية بحتة في توثيق إنجيل متى – أثيناغوراث
(أولاً) شخصية كاتب انجيل متى:
وهناك نوعين من الأدلة يمكن النظر اليها إذا أردنا التوصل إلى نتيجة حول صاحب الإنجيل الأول:
(1) الأدلة الخارجية.
(2) الادله الداخلية.
(1) الادلة الخارجية:
لقد كانت عناوين اسفار العهد الجديد ليست جزءا من النسخة الاصلية التي كتبت بيد صاحب السفر (autograph) ولكن أضيفت في وقت لاحق على أساس التقاليد. ومع ذلك، فإن التقليد في هذه الحالة هو شائع وعام وقوي جدا حيث ان كل المخطوطات التي تحتوي على نص الانجيل الاول تنسبه الى القديس متى .
بعض العلماء تشير إلى أن هذا اللقب “حسب متى” (κατὰ Μαθθαίον) قد أضيف في وقت مبكر حوالي عام 125م . وفي الحقيقة أن كل نقش لهذا الإنجيل يؤكد ان القديس متى كان المؤلف للانجيل الاول إلى جانب حقيقة أنه لا يوجد كاتب اخر ينسب نفسه للسفر مما يجعل التقليد قوية جدا.
شهادات آباء الكنيسة:
أ. بابياس:
أقرب اشارة الى ان القديس متى كتب شيء من بابياس (papias): “بدلا من [الكتابة باللغة اليونانية]، رتب متى الاقوال باللهجة العبرية، وكل رجل ترجمها كلما كان قادرا.” وهنا توجد بعض النقاط فيما أشار إليه بابياس وقد يكون من المفيد، في هذا المكان، توضيح ذلك:
(1) “الاقوال” (τὰ λογία) = إنجيل متى باللغة العبرية [ثم ترجم الي اليونانية]
(2) بابياس لا يتحدث عن اللغة العبرية، لكنه يستخدم لفظ ( διαλέκτος) والتي تعني “الطريقة الأدبية”.اي ان القديس متى كتب انجيله باليونانية ولكن بالاسلوب والطريقة الخاصة التي يفهمها العبرانيون وبالتالي فان القديس متى رتب الانجيل متوافق مع النظرة اليهودية المسيحية. [لاحظ عدد اقتباسات القديس متى من العهد القديم].
ب. ايريناوس:
بعد بابياس، كتب القديس إيريناوس: “كتب متى أيضا الإنجيل بين العبرانيين في لهجتهم الخاصة بهم، في حين أن بطرس وبولس كانا يكرزان بالبشارة في روما وتأسيس الكنيسة”.
ومن الواضح أن إيريناوس حصل على هذه المعلومة من بابياس ويضيف نقطتين هنا:
(1) كان الشعب المستمع لانجيل متى من اليهود (أو اليهود المسيحيين).
(2) في وقت كتابة انجيل متى كان اثناء وجود بطرس وبولس في روما.
ج. اوريجانوس:
وفي وقت لاحق، قال أوريجانوس أن القديس متى كتب الإنجيل باللغة العبرية اصلا. وهنا اوريجانوس لا يضيف شيئا إلى ما قاله بابياس، اما بعد أوريجانوس، يوسابيوس، جيروم، وأوغسطين وغيرهم فقد اكدوا نسب الانجيل الاول للقديس متى.
اخيرا ان شهادة الادلة الخارجية المبكرة عامة وشائعة جدا من حيث ان القديس متى كتب شيئا يختص بحياة الرب يسوع المسيح.
د. الاقتباسات من انجيل متى:
وأضافة الى هذه الشهادة الصريحة نجد الاقتباسات من إنجيل متى في كتابات الآباء الاولين. وقد اقتبس من انجيل متى في وقت مبكر من 110 م في كتابات القديس اغناطيوس مع وجود تدفق مستمر من الاستشهادات الآبائية بعد ذلك. وعليه فقد تم التعامل مع انجيل متى كمصدر قانوني وموثق لحياة الرب يسوع المسيح.
لماذا القديس متى ؟!!
وينبغي أن يضاف تعليق واحد نهائي حول الأدلة الخارجية حيث انه لا يوجد سبب واضح يفسر لماذا القديس متى بالذات وليس اي رسول أخر ينسب له نص الإنجيل الأول. في الواقع، لم يكن فقط القديس متى بأي حال من الأحوال أبرز الرسل، كما انه ايضا لا يبدو كفء في ان يكتب إلى اليهود والمسيحيين،وذلك في ضوء مهنته السابقة.
ألا يمكن أن يكون القديس اندراوس او القديس فيليبس أو بارثولوماوس من المرشحين الاكثر احتمالا؟؟ ما هو مثير للإعجاب بالذات هو أن القديس متى ومتى وحده هوالشخص الوحيد المنسوب له كتابة الإنجيل الأول.
(2) الادلة الداخلية:
وفيما يلي سبعة نقاط من الادله الداخلية التي تشيرالى ان :
أولا: الكاتب كان يهوديا
ثانيا: أنه القديس متى.
أ. الالمام بتاريخ وجغرافية الامة اليهودية:
ان الكاتب على دراية بجغرافيا المكان (راجع متى 2: 23) والعادات اليهودية (راجع متى 1: 18-19) والتاريخ اليهودي (حيث يسمي هيرودس أنتيباس “رئيس ربع” بدلا من “الملك”). انه يعرض اهتمام بالغ بشريعة العهد القديم (راجع متى 5: 17-20) ويضع التركيز على الارساليات التبشيرية للأمة اليهودية كما في متلا الاصحاح العاشر. … ان الدليل قوي جدا على ان الكتب يهودي معاصر للاحداث.
ب. التلميحات السامية في اللغة:
هناك عدد من آلاثار السامية في إنجيل متى ، ومنها الاستخدام المكثف (τότε) حبث وجد 89 مرة بالمقارنة مع انجيل مرقس (6) ولوقا (15)، والتي ترجع الى اصول عبرية (אז) كما ان هناك استخدام للجمع الغير محدد (راجع متى 1: 23, 7: 16) ويفهم من ذلك أن الكاتب كان يهودي وان مصادره سامية وهي جزء لا يتجزأ من نسيج إنجيله.
ج. اقتباسات العهد القديم:
وأشار العالم جاندري (Gundry) باقتدارالكاتب في كيفية استخدم نص العهد القديم خصوصا في صيغة الاقتباسات. على الرغم من أن هناك العديد من استشهادات العهد القديم تتوافق مع الترجمة السبعينية الا ان صفاته التمهيدية الخاصة (التي لا توجد في أي من مرقس أو لوقا) تبدو ترجمة حرة للنص العبري وإذا كان الأمر كذلك، فان مؤلف على الأرجح هو يهودي . وعلاوة على ذلك، فانه يدل على المام كبير بالتفسير اليهودي المعاصر للاحداث .
د. الهجوم على الفريسيين:
انجيل متى يهاجم الفريسيين وقادة اليهود الاخرين اكثر من انجيل مرقس او لوقا فارن (متى 3: 7, 16: 6 , 11, 12 والاصحاح 23) وربما يرجع السبب في ذلك هو مدى قساوة هؤلاء الفريسيين للعشارين (جامعي الضرائب) حيث ينعتوهم بالخطاة والوثنيين.
هـ. الاستخدام المتكرر للارقام:
ان استخدام الكاتب المتكرر للأرقام يبدو طبيعي وذلك في ضوء مهنة الكاتب “عشار” (جامع ضرائب). وهو يقسم الفقرات إلى:
– ثلاثة أجزاء كما في : سلسلة الأنساب وثلاثيات المعجزات في (الاصحاحات 8-9).
– خمسة أجزاء: خمس عظات كبيرة للرب يسوع، مع نفس الصيغة الختامية كما في (متى 7: 28 , 11: 1, 13: 53, 19: 1, 26: 1)
– ستة تصويبات على إساءة استخدام شريعة العهد القديم (في الاصحاح 5)
– سبعة ويلات والأمثال (الاصحاح 13)
و. التنويه الي المال:
وهناك حجة أكثر ثقلا وهي إشارة الكاتب المتكررة إلى المال. في الواقع أكثر من الاناجيل الأخرى. فهو يستخدم مصطلحات نقدية فريدة مثل “الدراهم” في متى 17: 24 و”الاستار” في متى 17: 25 و”الوزنات” في متى 18: 24 والاصحاح 25 والكاتب وحده يتحدث عن “الذهب والفضة”.
كما ان انجيل متى يحتوي على اثنين من الأمثال الوحيدة على الوزنات ويستخدم مصطلحات جامع الضرائب مثل “الديون” كما في متى 6: 12 “ما علينا” بينما بالنص الموازي في انجيل لوقا يقرأ “خطايانا” ومصطلح “الصيارفة” في متى 25: 27.والنتيجة الاكثر معقولية لهذا هو أن الكاتب كان على دراية تامة بالمال.
ز. دعوة لاوي:
كل من انجيل مرقس 2: 14 وانجيل لوقا 5: 27-28 يتحدثان عن دعوة “لاوي” بينما انجيل متى 9: 9 يدعوه “متى”. وقوائم اسماء الرسل يشيرون اليه باعتباره “متى” (متى 10, مرقس 3, لوقا 6, اعمال 1) والملاحظ هنا ان انجيل متى هو الوحيد الذي يدعوه بالعشار في قائمة اسماء الرسل. وهنا يبدو ان الكاتب يظهر تواضعاً.
وعلى الاقل هنا نجد ان انجيل متى هو الانجيل الوحيد الذي يعرف شخصية العشار (جامع الضرائب) الذي دعاه الرب يسوع متى الرسول. ان السبب الاكثر منطقية هنا هو ان الكاتب يعرف شخصيته.
واجمالا فانه اذا اخذت جميع اعتبارات الدليل الداخلي السابقة فانها توجد انطباع تراكمي يجعل كاتب انجيل متى يهودي فلسطيني وثنائي اللغة وعلى راية تامة بمصطلحات المال ويعرف نفسه بالانجيل. وهكذا فان الدليل الداخلي يدعم الدليل الخارجي الذي يؤكد ان الكاتب هو القديس متى.
(ثانياً) تاريخ تدوين انجيل متى:
هناك عدة عوامل تحدد تاريخ كتابة انجيل متى ومن اهمها:
(1) شخصية الكاتب
(2) الاناجيل الازائية
(3) تاريخ اعمال الرسل
(4) نبوة خراب اورشليم
(5) فئة الصدوقيون
(1) شخصية الكاتب:
في الواقع نحن لا نعرف زمان موت القديس متى او كم عاش من السنين؟ اقصى ما يمكن ان نصل اليه في هذه النقطة ان تاريخ تدوين انجيل متى كان بالقرن الاول الميلادي وليس بعد ذلك كما هو مؤكد من اقتباس القديس اغناطيوس وفي الديداكية والراعي لهرماس.
(2) الاناجيل الازائية:
في حلنا للمشكلة الازائية نجد ان متى ولوقا قد استخدما انجيل مرقس بشكل مستقل. والارجح هنا ان القديس متى لم يكن على علم بما كتبه القديس لوقا والعكس صحيح. لذلك ربما يكون قد كتب انجيل متى ولوقا في نفس الوقت تقريبا. واذا كان انجيل لوقا بؤرخ فيما بين 61-62م. فان انجيل متى في جميع الاحتمالات يجب ان يؤرخ بالمثل.
إذا أخذنا في الاعتبار قيمة الشهادة الآبائية فيما يتعلق بانجيل متى ومرقس (خاصة من بابياس وإيريناوس)، فتوجد ثلاثة استنتاجات لا بد من الانتباه لها:
(1) القديس متى كتب انجيل متى.
(2) القديس مرقس كتب إنجيله خلال فترة حياة بطرس.
(3) القديس متى كتب إنجيله عندما كانا بطرس وبولس في روما (حسب إيريناوس).
وعلى افتراض أولوية انجيل متى فان القديس مرقس يكون قد اعتمد على متى ولوقا وليس على بطرس ولكن على افتراض أولوية انجيل مرقس يكون كل شيء مناسب:
- القديس مرقس كتب انجيله ربما في وقت ما في خمسينات القرن الاول (وفي وقت ما خلال حياة بطرس).
- استخدم القديس متى إنجيل مرقس كإطار لكتابة انجيله.
- كتب متى إنجيله في ستينات القرن الاول (المرة الوحيدة عندما كان كل من بطرس وبولس في روما معا).
(3) تاريخ اعمال الرسل:
ان تاريخ اعمال الرسل يشير الى تاريخ انجيل لوقا وانجيل مرقس اكثر من انجيل متى. لكن يكفي ان نقول هنا انه لو كان تاريخ اعمال الرسل يرجع لعام 62م. وليس بعد ذلك فان انجيل لوقا ومرقس لابد ان يسبقا هذا التاريخ (حسب فرضية أولوية انجيل مرقس).
ولان متى لم يكن يعلم بانجيل لوقا فانه من المعقول ان نستنتج ان متى كتب انجيله في نفس وقت انجيل لوقا (حيث انه كلما تأخر انجيل متى تقل عدم معرفة متى بانجيل لوقا).
(4) نبوة خراب اورشليم:
ان نبوة الرب يسوع بخراب الهيكل وتدمير اورشليم في متى الاصحاح 24 تجعل تاريخ انجيل متى قبل عام 70م.
(5) فئة الصدوقيون:
اخيرا هناك مشاعر مضادة للصدوقيون تتخلل انجيل متى حيث “يسجل متى المزيد من التحذيرات ضد الصدوقيون اكثر من جميع اسفار العهد الجديد مجتمعة.
ولم تعد طائفة الصدوقيون مركزا للسلطة بعد عام 70م.”
“يا اولاد الافاعي” (متى 3: 7) [معمودية يوحنا]
“تحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين” (متى 16: 6) [تعليم الصدوقيون]
“تضلون اذ لا تعرفون الكتب” (متى 22: 29) [قيامة الاموات]
وفي الواقع فان هذا الشعور المضاد للصدوقيون يصعب جدا توضيحه اذا كان قد تم تدمير الهيكل وانمحى تاثير الصدوقيون. فقط اعطاء تاريخ كتابة انجيل متى قبل سنة 70م. يعزز ويبرر ذلك.
ونختم بالنقاط التالية:
- القديس متى اعتمد على انجيل مرقس وعليه لا يمكن ان يؤرخ قبل خمسينات القرن الاول.
- اذا كان تأريخ لوقا سنة 62م. فان متى ربما كتب فيما بين (60-65)م.
- كتب القديس متى انجيله قبل اندلاع التمرد اليهودي اواخر 67م. حيث يناشد القارئ بالفرار من اورشليم.
لذلك فان افضل ترجيح لتأريخ انجيل متى في اوائل ستينات القرن الاول. وهذا ما اكده ايريناوس بان متى اتم عمله عندما كان كل من بطرس وبولس في روما فيما بين (60-64)م.
(ثالثاً) مكان ووجهة تدوين انجيل متى:
يكاد يكون من المؤكد ان إنجيل متى كتب في فلسطين أو سوريا، وجمهور علماء العهد الجديد يتفقون مع هذا الرأي. كذلك، كانت وجهة انجيل متى هى نفس مكانها الأصلي.
أسباب اختيار سورية/فلسطين هي على النحو التالي:
- أقرب الاقتباسات من انجيل متى هي للقديس اغناطيوس، أسقف أنطاكية في سوريا، مما يعني أنه كان معروفا في تلك المنطقة من الازمنة المبكرة.
- بيان بابياس ان القديس متى كتب بلسان عبري يبدو انه يقتضي هذا.
- على الرغم من انجيل متى كتب باللغة اليونانية الا ان هذا لا ينفي الاصل الفلسطيني/السوري للانجيل حيث كانت فلسطين ثنائية اللغة في القرن الاول الميلادي.
ومع ذلك، إذا كنا نرى بيان بابياس يجب أن يكون هناك سبب لماذا كان واحدا في الآرامية والآخر باللغة اليونانية. التفسير الأكثر منطقية هو أن انجيل متى كتب بلغتين الأول بالعبري للشعب اليهودي بفلسطين والآخر باليونانية في سوريا.
- ان طبيعة انجيل متى اليهودية تعطي سببا قوياً لمكان التدوين فلسطين/سورية كما يؤكد ان الانجيل موجه للشعب اليهودي (حيث ان القديس متى يعتمد على معرفة القارئ للتقاليد اليهودية مثل الاشارة الى:
- i. “القبور المبيضة” في متى 23: 27,
- ii. “اهداب الثوب” في متى 9: 20,
iii. “قربان المذبح” في متى 5: 23.
وباختصار نجد ان الاعتبارات المذكورة أعلاه تشير الى أن فلسطين هى مركز تدوين انجيل متى وأن سوريا كانت وجهة الإنجيل النهائية.