العظات الخاصة بالقديس مقاريوس الكبير – د. صموئيل روبنسون
العظات الخاصة بالقديس مقاريوس الكبير – د. صموئيل روبنسون أستاذ التاريخ بجامعة لوند بالسويد*
مقدمة:
وُلد القديس مقاريوس حوالى سنة 300م. وفى سن الثلاثين (30) اعتزل في برية الأسقيط جنوب الأسكندرية (المعروفة حديثًا بوادى النطرون)، حيث صار واحدًا من أوائل المتوحدين.
وقد ذُكر عنه أنه زار القديس أنطونيوس عدة مرات وأنه كان يعتبره معلمه ومرشده. وخلال فترة قصيرة سعى إليه زوار كثيرون وقبل بعضًا منهم كتلاميذ له. واشتهر القديس مقاريوس ببصيرته وأفرازه وسرعان ما دُعى بلقب الشاب الشيخ. والروايات حول ممارسته النسكية وحول تأكيده على السكون واستبصاره العميق النافذ في قلوب الناس كل هذه معروفة جيدًا.
وحينما بلغ 40 عامًا نال موهبة شفاء المرضى ومعرفة المستقبل. ولأنه كان موهبًا في الكلام فإن رهبان نتريا لجأوا إليه لينتفعوا بتعاليمه، بل إنه أيضًا سيم كاهنًا على الكنيسة في نتريا (فلم يكن للأسقيط كنيسة خاصة به أثناء حياته). ولما بلغ من العمر أكثر من 70 عامًا نفاه أسقف الأسكندرية الآريوسى، ولكنه رجع بعد فترة قصيرة إلى برية الأسقيط، حيث توفى هناك حوالى سنة 390م [1].
وكما يتضح من الأقوال والروايات التي رويت عنه من آباء الرهبنة الذين جاءوا بعده “والذين قالوا إنهم كانوا تلاميذ له ” وبنوعٍ خاص إيفاغريوس البنطى، ومن مؤلفين مثل بالاديوس، وروفينوس ومؤلف الكتاب المعروف باسم ” تاريخ الرهبان في مصر ” (Historia Monachorum)، من كل هؤلاء يتضح أن مقاريوس كان واحدًا من أهم آباء الرهبنة الأوائل.
وفى سنوات شيخوخته كان هو المصدر المعتمد لمجموعة الرهبان المرتبطة بالأنبا بامبوـ الاخوة الأربعة الطوال ـ الذين صار منهم أثنين أساقفة، وإيفاغريوس[2]. ولكنه مثل إيفاغريوس توفى قبل أن تُطرد هذه المجموعة من الرهبان المفكرين والمعجبين بأوريجينوس، من البرية. ومع ذلك يبدو كما لو أنه لم يترك أية كتابات لأبنائه سوى رسائل قليلة التي من بينها رسالة واحدة على الأقل تبدو أصيلة[3]. ولم يذكر أى كاتب من الكُتّاب القدامى أية عظات أو أية نصوص أخرى بقلمه.
ورغم هذا فإن شهرته في المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية كلتاهما تعتمد أساسًا على العظات الخمسين المنسوبة إليه[4]. وفى الحقيقة فإن قليلاً من النصوص لها مثل هذه الأهمية العظيمة في تاريخ الروحانية المسيحية. ورغم أن هذه العظات تحمل اسم القديس مقاريوس فلا أحد من العلماء المحدثين يقبل هذه العظات على أنه هو الذي كتبها فعلاً.
فليس فقط أنه من الصعب أن نتصور أن ناسكًا قليل التعليم في الأسقيط يكتب مثل هذه العظات الطويلة، ولكن أيضًا الإطار الذي اقتبست فيه أولاً، والخلفية السريانية لكثير من محتوياتها تشير إلى أنها بدأت وسط رهبنة القرن الرابع في شمال سوريا، ومع هذا فإن هذا لا يحل مشكلة تأليف هذه العظات[5].
وفى سنة 1920م تحقق أحد الدارسين من أن بعض العبارات الموجودة في العظات تتشابه مع عبارات حُكم عليها بأنها ” ميساليان ” (Messalian) في مجمع أفسس سنة 431م[6]. وهذا الاسم (Messalian) هو من اللغة السريانية ومعناها ” المُصلون “. وهو يشير إلى حركة عُرفت عن طريق عدة مجامع وأيضًا من بعض الكُتّاب مثل ثيئودوريتوس أسقف قورش وفليكسينوس المنبجى.
و ” المصلون ” وُصفوا بأنهم رهبان احتقروا العمل العادى لكى يصلوا بلا انقطاع وأيضًا إنهم اعتبروا الأسرار الكنسية أقل أهمية مؤكدين على المعمودية الروحية كاختبار داخلى. وكتابهم الرئيسى عُرف باسم ” الأسكيتيكون ” (Asketikon) (ومعناها كتاب النُسك). وهو عبارة عن دليل لروحانيتهم. هذا الكتاب كان معروفًا في مجمع أفسس، ووضع يوحنا الدمشقي قائمة بمحتويات هذا الكتاب في كتابه عن الـ80 هرطقة.
ويقول فيلكسينوس المنبجى إن هذه الهرطقة بدأت بشخص معين من ” أوديسا ” (الرها) اسمه “أدلفيوس” وإن هذا الشخص ذهب إلى مصر حوالى سنة 350م سعيًا وراء آباء الرهبنة الذين وصلت أخبارهم إلى شمال سوريا. ويُقال إن هذا الشخص ذهب إلى القديس أنطونيوس وصار تلميذًا له وغالبًا إنه ذهب أيضًا وتعرّف على القديس مقاريوس. وبعد فترة من الوقت رجع إلى سوريا وبدأ يجمع حوله تلاميذه الخاصين به.
وبحسب فيلكسينوس فإن هذا الشخص أساء فهم تعاليم الآباء المصريين، ولذلك فإن المجموعة التي التفت حوله صارت تضع تأكيدًا كبيرًا على النسك والأمور الروحانية لدرجة أنهم قطعوا أنفسهم ليس عن المجتمع فقط بل من الكنيسة أيضًا.
وكتاب ” الأسكيتيكون ” الذي بُنى عليه حكم الإدانة فُقد ولم يُحفظ. ولكن في مجموعة العظات الخمسين المنسوبة للقديس مقاريوس توجد عبارات عديدة تتشابه مع عبارات حُكم عليها على أساس أنها مأخوذة من كتاب ” الأسكيتيكون ” والشرح الأكثر احتمالاً هو أن كثيرًا من الرهبان بل وحتى بعض الأساقفة شعروا أن التقليد الروحي المتضمن في هذه المجموعة له قيمة عظيمة ولذلك ينبغى أن يحتفظ في صورة نقية.
وهكذا شُطبت العبارات الهرطوقية الواضحة ونُسبت المجموعة إلى اسم القديس مقاريوس كمؤلف. وهكذا لايمكن بعد ذلك أن نشك فيها بأنها هرطوقية بل حُفظت كجزء من التقليد الرهبانى المصرى الأصيل والمقبول.
ويبدو أن مؤلف هذه المجموعة هو يونانى مثقف وأسلوبه ومناقشاته تتشابه مع أسلوب ومناقشات الآباء الكبادوكيين، خاصة الكتابات النُسكية للقديس باسيليوس وغريغوريوس النيسي، حيث نجد نفس التأكيد على إرضاء الله وعلى المحبة العملية. وتعليم العظات المقارنة عن الروح القدس يفترض معرفة بتعاليم مجمع القسطنطينية سنة 381م ويتشابه جدًا مع بعض المقاطع في كتابات القديس غريغوريوس النزينزى.
ومع أن العظات هى مجموعة من النصوص التي جرت عليها عدة تنقيحات ويظهر فيها تأثير من التقليد الرهبانى السريانى المتطرف وأيضًا من الآباء الكبادوكيين، فهذا لا يستبعد أن معظم أجزاء هذه المجموعة تُظهر تقليدًا مصريًا يرجع إلى القديس مقاريوس الكبير.
وحتى لو كانت الرواية التي أخبرنا بها فيلكسينوس عن أدلفيوس لا يمكن إثباتها، فهناك دليل كاف على وجود علاقات بين الرهبان المصريين من ناحية والرهبان الفلسطينيين والسوريين من ناحية أخرى خلال النصف الثانى من القرن الرابع مما يجعله أمرًا محتملاً جدًا أن كتابًا نسكيًا في سوريا تكون جذوره مستمدة من تعاليم الرهبان المصريين[7]. وكثير مما نجده في هذه العظات هو أيضًا قريب جدًا مما نجده في أقوال آباء البرية. وهكذا فإن نسبة هذه العظات إلى القديس مقاريوس لها أساس في حقيقة إن تقليدها الروحي له جذوره في البراري المصرية.
وفى رأيى فإن اعتبار إن العظات المنسوبة للقديس مقاريوس لها تاريخ متصل بحركة “المصلين “، جعل هذه العظات أكثر أهمية. فنجد في هذه العظات عناصر من تقليد رهبانى متطرف يمكن بسهوله أن يصير هرطوقيًا كما نجد فيها عناصر تدحض هذه الاتجاهات. فمثلا نجد في هذا النص ملاحظات نقدية لأولئك الذين يعتبرون صلاة الدهش على أنها السلاح الفعال الوحيد، وأيضًا لأولئك الذين يظنون إن موهبة الروح القدس هى اختبار يجعل الراهب حرًا من الخطية.
فبينما بعض العبارات التي حوكم عليها إذا استخدمت خارج السياق الصحيح ـ يمكن أن تساند فهمًا هرطوقيًا، فإنها في هذه العظات توضع في إطار أوسع حيث تكون متمشية تمامًا مع التقليد الرهبانى الأصيل. فغالبًا فإن القديس فيلكسينوس كان على صواب حينما قال إن البدعة ” الميسالينية ” ليست سوى تشويه لتعليم آباء البرية، أو قراءة من جانب واحد لأقوال الشيوخ “أبوفثجماتا ” (Apophthegmata).
وكون العظات ـ ربما في صورة مختلفة نوعًا ما كانت مستخدمة من ” الميساليانز ” (أصحاب البدعة) فهذا لا يبرهن إن هذه العظات لم تأت من تقليد نابع من تلاميذ القديس أنطونيوس، وبنوع خاص القديس مقاريوس الكبير[8].
تعليم عظات القديس مقاريوس:
العظات ليست أبحاثًا لاهوتية ولا توجد بها عناصر مشتركة مع اللاهوت النظامى الحديث أو الشروحات اللاهوتية المبسطة في دروس مدارس الأحد. ولكنها تقدم اختبارًا شخصيًا. كاتب العظات راهب وهو متصوف وهو يشرك تلاميذه معه في سعيه الشخصى نحو الحق وفى حبه للكتاب المقدس.
توجد خمس موضوعات رئيسية في هذه العظات:
- سمو الإنسان.
- قوة الشر.
- التجسد. الله في هيئة بشرية.
- روح الله.
- معنى الصلاة.
باختصار فإن تعليم هذه العظات يمكن أن يتلخص فيما يجب أن نتعلمه عن كيف يولد الإنسان من الروح، وكيف يقاوم الشر، وحينما نُهزم كيف نستعيد القوة من جديد بالصلاة. فالصلاة هى التي تجعل الإنسان يمسك بالله، وليس التفكير العقلى.
1 ـ سمو الإنسان:
يكمن سمو الإنسان في إمكانية الشركة مع الله وفى وجود علاقة حب مع الله بدلاً من علاقة الاحتياج. ومع كل عظمة الخلائق الأخرى فهى مقيدة بقوانينها ـ قوانين الطبيعة ـ فالإنسان وحده يملك حرية، فلذلك يستطيع أن يصير هيكلاً لله. وتحوى العظات أوصافًا جميلة للطبيعة وهى غالبًا من نوع تصوف الطبيعة، ولكنها تعود دائمًا لتتحدث عن السمو العظيم للإنسان فالذى يسطر داخل الإنسان في النهاية هو ” العقل” (noàV).
إنه الاشتياق لما هو روحانى وأبدى هو حنين ينبغى أن ينضج ليصل إلى الاستبصار. ولكن العقل مهدد دائمًا بحركات متنوعة من النفس والأفكار والصور والدوافع التي تحاول أن تمسك بنا، وهى الـLogismoi (لوغوزموى = الأفكار) إذا استخدمنا الكلمة اليونانية الشائعة في كل كتابات آباء الرهبنة الأولين.
2 ـ قوة الشر:
هذا موضوع هام في هذه العظات، أى اختبار وجود الشر في داخل الإنسان والصعوبات في مقاتلة الأفكار الشريرة. فبحسب هذه العظات يوجد الشر في الإنسان كقوة خفية. هذه القوة تحكم في الداخل دون أن نتحقق من الوضع الصحيح للأمور. ورغم إن الشر غريب عن طبيعتنا فقد جعل لنفسه مسكنًا فينا ولا يجد صعوبة في أن يكون مقيمًا فينا مع الروح القدس الذي نلناه بالمعمودية. والاتهام الموجه ” للمصلين ” بأنهم احتقروا المعمودية ربما يرجع إلى التأكيد في العظات على أن المعمودية ليست كافية لأستئصال الشر من النفس.
والقديس مقاريوس مولع جدًا بالصور ويصور الشر كاللصوص الذين أقاموا في البيت وحولوا أنفسهم إلى حيات تختبئ عند الضرورة ولكنهم لا يزالون يتحكمون في كل ما يحدث. فميدان المعركة بين الخير والشر هو قلب الإنسان. وسقوط الإنسان وطرده من الفردوس لم تلاش الصلاح كما أن المعمودية لم تلاش الشر.
ورغم إن آدم فتح الباب للشر ولكن كل إنسان مسئول عن المساحة التي يسلمها للشر في داخل نفسه ورغم إن آدم باع كل الجنس البشرى للعبودية تحت الشيطان، فإن كل واحد مسئول في عدم مقاومته للشر، ذلك الشر الذي يستمد قوته أساسًا من الدوافع والأفكار. ولذلك من الضرورى أن تعرف وتفهم نفسك “yuc» ” أنت وتتعلم كيف تقاتل الرذائل.
3 ـ التجسد:
وحينما تعالج العظات، التجسد، فمن المهم أن نلاحظ كيف تتكلم غالبًا عن إن الله يولد في قلب الإنسان. التجسد الذي حدث من خلال العذراء مريم ليس فقط حقيقة تاريخية مرتبطة بزمن معين، ولكنه هو قبول الكلمة للطبيعة البشرية المستمر، فينا ومن خلالنا.
فالانتصار على الموت وإنزال الشيطان من عرشة والمصالحة بين السماء والأرض كل هذه تحدث في كل إنسان له اهتمام بأن يشترك في المسيح. هذه المُشاركة تأتى بواسطة سكنى الروح، الذي هو عطية، ولكنه عطية تفترض عمل تنقية للنفس الداخلية لكيما يستريح الروح في النفس.
4 ـ روح الله:
الروح القدس هو قوة مُطهرِّة، هو قوة أقوى من الشر. ويرد ذكر سكنى الروح في هذه العظات أكثر من 125 مرة. وكثيرًا ما نجد حديث عن الامتزاج، امتزاج روح الإنسان مع روح الله وهذه الطريقة في التعبير توجد أيضًا عند أوريجينوس. وتخبرنا العظات عن كيف إن الحواس الخمس هى مثل خمس عذارى حكيمات عندهن زيت حتى يستطعن أن يضيئن مصابيحهن حينما يأتى العريس. والزيت هو عطية من الله، ولكن بدون يقظة وبصيرة ورغبة صادقة لا يستطيع أن يفعل شيئًا. فنشاط الإنسان أمر لا غنى عنه، ولكن منح إكليل النصرة هو دائمًا عمل الله.
هدف النُسك هوـ مثلما جاء في رسائل القديس أنطونيوس أيضًا ـ يوصف بأنه “الراحة” (¢n£pausiV). وهى حالة من الحرية الكاملة ولكنها أيضًا هدوء كامل بدون ألم الاختبار وهى تسمى أحيانًا ـ كما عند القديس غريغوريوس النيسى ـ سُكر او انجذاب. وتشير العظات إلى الاتحاد بالله ولكنها تؤكد أيضًا على الاختلاف بين الخالق والمخلوق. هذه الراحة يمكن تذوقها في هذه الحياة، وإن كان ليس بصفة دائمة.
والإشارة المستمرة في العظات إلى الشعور والاختبار هى ربما أحد الأسباب التي جعلت المجموعة التي استعملت العظات كمرجعها الوحيد، تصير ضيقة الفكر ومتعصبة، ولكنها أيضًا هى أحد الأسباب التي جعلت العظات محبوبة جدًا مع ” التقويين ” (Pietists).
والكتاب المقدس يُشار إليه في العظات على إنه رسالة عظيمة من الملك. إنه خطاب دعوة. وتمتلئ العظات باقتباسات من الكتاب رغم أن المؤلف قد تعلم من الكتاب المقدس كثيرًا من أوريجينوس ومن الآباء المصريين والكابادوكيين فإنه لا يقتبس أى نص آخر سوى من الكتاب المقدس. وتفسير الاقتباس يوجه مباشرة إلى الشخص، كما لو أن تاريخ الخلاص هو التاريخ الشخصى لكل أحد. لذلك فالتفسير المحورى للكتاب في العظات ليس هو عادة التفسير المجازى بل بالحرى ” التفسير بالأنماط ” (Typological).
5 ـ معنى الصلاة:
وكما هو متوقع من نص مرتبط ببدعة ” الميساليانيز”، أى أولئك الذين يصلون، فالصلاة هى محورية بالنسبة للعظات والأمثال التي تشير للصلاة تُذكر باستمرار. ومن الواضح إن المؤلف عنده اختبارات شخصية عميقة في الصلاة. فالصلاة في العظات هى بصفة أولية صرخة لطلب المعونة، هى صوت العبد الذي يطوق للتحرر.
لذلك فإن استجابة الصلاة ينظر إليها على إنها استعادة سمو الإنسان من جديد واستعادة الحرية الخاصة به. الصلاة وحدها هى التي تجعل الروح القدس يحل القيود ويهزم الشر. لذلك يحاول الشيطان دائمًا أن يمنعنا من الصلاة بأن يشتت تركيزنا بأفكار متنوعة. الصلاة بغير تشتت هى هبة من الله ولكنها تستلزم تعاوننا.
والعظات كان لها تأثير هائل على مدى التاريخ. ففى التقليد الروحى اليونانى كان لها أهمية كبيرة عن سمعان اللاهوتى الجديد وغريغوريوس بالاماس وهكذا امتدت هذه الأهمية إلى كل التقليد “الهدوئى” (Hesychast) وحُفظت أجزاء من العظات مع الخطاب الكبير أيضًا في الفيلوكاليا، وهى المجموعة التي صارت محورية بالنسبة للتقليد الروحى في روسيا[9].
ولكن توجد أيضًا أمثلة لكُتّاب روحيين داخل البروتستانتية الغربية كانوا مدينين كثيرًا للعظات المقارية. وأهم هؤلاء الكُتّاب هما: جوهان أرندت(Johann Arndt) وجون وسلى (John Wesley). والمجلدات الأربعة التي وضعها جوهان أرندت مؤسس ” الحركة التقوية” (Pietism) والتى تُسمى “أربعة كتب حول المسيحية الحقيقية” هذه المجلدات مملوءة بإشارات لهذه العظات، ويُقال إن ” أرندت ” حفظ هذه العظات عن ظهر قلب وترجم جوتفرد أرنولد (Gottfried Arnold)، العظات إلى اللغة الألمانية وحاول أن يثبت إنها تعلّم عن التبرير بالإيمان الذي كان هو العقيدة المحورية لثورة الإصلاح.
كانت العظات حينئذ تُقرأ في دوائر متسعة وخلقت حركة في القرن الثامن عشر عُرفت فيما بعد باسم ” طيبا البروتستانتية ” (Protestant Thebaid). وبعض التقويين المتشددين خرجوا أيضًا إلى الغابات وصاروا نُساكًا تابعين تعاليم آباء البرية[10].
وبعض هؤلاء التقويين المتشددين اُضطهدوا من الكنائس الرسمية (ومن الدولة) وهربوا إلى أمريكا حيث وجدوا ملجأً لهم في بنسلفانيا، حيث نشأ دير ” تقوّى ” حيث كانت توزع ترجمات لكتابات الآباء الأولين. إلى هذه المجموعة جاء ” جون وسلى ” مؤسس حركة ” الميثوديست ” (Mothodist) وأحد أهم قادة أوربا الروحيين في القرن الـ 18. ولتأثر وسلى بتعاليم آباء الرهبنة عاش كناسك لفترة قصيرة في غابة بنسلفانيا.
ووجد ” وسلى ” كثيرًا من إيمانه الخاص في عظات القديس مقاريوس وأصدر ترجمة إنجليزية للعظات أُعيد طبعها عدة مرات. وما كان مهمًا بالنسبة إليه بنوع خاص هو أنه بحسب العظات فإن آدم لم يرجع فقط إلى حالته قبل السقوط، بل إنه في المسيح يوجد مستقبل للإنسان يتجاوز الخليقة[11].
وإذ أعود مرة أخرى إلى تاريخ العظات فإنه بالإضافة للقيمة الروحية للنصوص نفسها، توجد بعض أمور يمكن أن نتعلمها من المصير العجيب للعظات المنسوبة للقديس مقاريوس:
أولا: هى توضح لنا إن قبول الروحانية الرهبانية بدون تمييز، أى تعليم القديس أنطونيوس وآباء البرية يمكن أن يقود إلى آراء متطرفة. فالرهبان الذين كانوا جزءًا من الحركة ” الميسالية” أسسوا فهمهم للحياة الروحية على تعاليم آباء البرية، ولكن لم تكن لهم سوى فطنة قليلة جدًا ويحتمل أنه لم يكن لهم سوى احترام قليل جدًا للآخرين. وبدلاً من أن يستفيدوا من الإطار الواسع لتعاليم الكنيسة فإنهم صاروا متعصبين.
ثانيًا: يمكن أن نرى نوعين من رد الفعل تجاه الرهبان “الميساليان” فبينما واجه غالبية من الأساقفة الحركة بإدانات واضطهادات فهناك أقلية من بينهم كالقديس غريغوريوس النيسى الذي ظل مُشفقًا عليهم واستعمل كتاباتهم في صيغة معدلة لكى يساعدهم ان يظلوا داخل أحضان الكنيسة.
ثالثًا: نسبة العظات إلى القديس مقاريوس تبين لنا كيف أن بعض النصوص التي كانت تستخدمها في وقت ما مجموعة هرطوقية، إذا وُضعت في السياق الصحيح فإنها تساعد على النمو الروحى للتقليد الرهبانى الأصيل. وحتى لو كانت العظات في صورتها الحالية ليست من عمل القديس مقاريوس نفسه، فإنها متأصلة في نفس تقليده لدرجة أنها صارت ذات قيمة ومعنى للأجيال اللاحقة.
فنسبة العظات إليه تضيف سياقًا ضروريًا إلى النص المجرد للعظات. وهذا ينبغى ان يكون تحذيرًا لنا لكى لا نطرح بعيدًا الكتابات الروحية واللاهوتية لمجرد أنها أتت من أحد الأجنحة الهرطوقية للتقليد المسيحى. فمثل هذه الكتابات لو استعملت بطريقة صحيحة وأُدمجت في تعاليم الكنيسة فإن كتابات هؤلاء المعزولين الذين يبدون أنهم هراطقة مثل (أوريجينوس) فإنها تكون جزءً لا غنى عنه من تقليدنا.
رابعًا: التأثير العظيم الذي كان لعظات القديس مقاريوس على التقاليد المسيحية المتنوعة: الرهبنة الشرقية، الهدوئية اليونانية، الروحانية الروسية، التقوية البروتستانتية، يبين إن التأليف الروحى ذو العمق الكبير لا يعرف الحواجز المذهبية بين الكنائس، لذلك فهو أدب مسكونى بحق. فإن كان البروتستانت قد أمكنهم أن يقدروا العظات بنفس الطريقة مثل رهبان البرارى المصرية فهذا يبرهن إنه توجد هناك وحدة للروحانية المسيحية تتجاوز جدران المذاهب المتنوعة مثل الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت.
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث
ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان
هوامش الموضوع:
* محاضرة أُلقيت بالإنجليزية بمركز دراسات الآباء بالقاهرة في 17/11/1997م ؛ ترجمة د. نصحى عبد الشهيد بطرس.
لزيادة الفائدة من هذه المحاضرة يمكن الرجوع إلى: ” عظات القديس مقاريوس الكبير “، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، إصدار مركز دراسات الآباء بالقاهرة، الطبعة الثانية، القاهرة 1991.
[1] أهم المراجع عن حياة القديس مقاريوس هي بعض أقوال الآباء والذي يُسمى ” كتاب الشيوخ ” (PG 65)،
Historia Lausiaca (ed. Butler, The Lausiac History of Palladius, Cambridge 1898 – 1904); Rufinus’ Latin version of Historia Monachorum in Aegypto (ed. Eva Schulz – Fluegel, in: Patristische Texte und Studien 34, Berlin 1990).
[2] العلاقة بين مقاريوس الكبير وإيفاجريوس نوقشت في:
Bunge, Evagre le Pontique et les deux Macaire“, Irénikon 56 (1983), PP. 215 – 226; 323-360.
[3] بالنسبة لخطابات القديس مقاريوس أنظر الآتي:
Letters des Péres du désert, Ammonas, Macaire, Arséne, Sérapion de Thmuis (Spiritualité Orientale 42), Bellefontaine 1985, PP. 61-81; U. Zanetti, Deux lettres de Macaire consevées en arabe et en georgien, in: Le Muséon 99 (1986).
[4] H.Dörries, E. Klostermann und M. Kroeger, in: Patristische Texte und Studien 4, Berlin 1964.
[5] C. Stewart, Working the Earth of the Heart. The Messalian Controversy in History, Texts, and Language to AD 431, Oxford 1991.
[6] L. Villecourt, “La date et l’origine des Homélies spirituelles’ attribuées à Macaire”, Comptes rendus de l’ Académie des Inscriptions et Belles – Lettres, Paris 1920, pp.250-258.
[7] S. Rubenson, “The Egyptian Relations of Early palestinian Monasticism”, in: The Christian Heritage in the Holy Land (ed. by A. O’ Mahony, Göran Gunner and Kevork Hintlian), London 1995, pp. 35-46.
[8] Les Homélies spirituelles de Saint Macaire, pp. 11-49.
[9] G. A. Maloney, The Fifty Homilies and the Great Letters (Classics of Western Spirituality), Paulist Press 1992.
[10] E. Benz. Die Protestantische Thebais. Zur Entwirkung des Makarios des Ägypters im Protestantismus des 17 und 18 Jhdts. in Europa u. Amerika, Wiesbaden 1963.
[11] A. C. Outler, John Wesly, New York 1964. pp. 368-382; 432-435.