الاستنارة الروحية د. موريس تاوضروس
الاستنارة الروحية – د. موريس تاوضروس
الاستنارة الروحية (2) – د. موريس تاوضروس
1- مفهوم كلمة ” الاستنارة الروحية”:
عملية الإنارة أو الإضاءة أو التنوير، تسمى باليونانية Φωτισμός وترتبط بالكلمة Φώτισμα التي تعنى أيضًا إنارة أو إضاءة وتستخدم عن المعمودية (انظر Patristic Greek Lexicon Lampe)
والآباء في حديثهم عن المعمودية يؤكدون أهمية المعمودية في الإنارة الروحية، فالقديس كلينضس الأسكندرى يقول: “إذ نعتمد نستنير”، والقديس باسيليوس الكبير يقول: “المعمودية ثوب منير”، والقديس مار إيوانيس الدارى السريانى يقول: “للمعمودية مفعولان رئيسيان هما: 1 ـ التطهير 2ـ الاستنارة”. ويشرح الاستنارة بأنها استنارة القلب بالنعمة الإلهية والفضائل السماوية التي بها يصبح المؤمن بارًا وابنًا لله ووارثًا للحياة الأبدية.
ويقول أيضًا إن ” هذا اللقب ـ أي الاستنارة ـ صار لقبًا مختصًا بسر المعمودية يميزها عن باقى الأسرار. وإن كانت الأسرار الأخرى هي أيضًا أنوار، غير أن سر المعمودية من حيث إنه يعطى النور الأول، احتفظ بهذا اللقب بذاته دون غيره”[1].
والقديس غريغوريوس النزينزي يقول عن المعمودية: [إنها ضياء النفوس ـ اشتراك في النور ـ كمال العقل][2].
والقديس مقاريوس المصرى يقول: [ في القديم كانت لهم معمودية لتطهير الجسد، أما عندنا نحن فتوجد معمودية الروح القدس والنار، وهكذا فإن المسيحيين يحصلون على مجد النور في داخل نفوسهم، أما الظلمة ـ إذ لا تحتمل لمعان النور تضمحل وتهرب] [3].
ويقول أيضًا: [ حينما تعدى الإنسان الوصية ألقى الشيطان على النفس حجابًا مظلمًا، ثم تأتى النعمة فتزيل الحجاب تمامًا، حتى أن النفس إذ تصير نقية، وتستعيد طبيعتها ألأصلية وتصير صافية بلا عيب، فإنها تنظر دائمًا بصفاء ـ بعينها النقية ـ مجد النور الحقيقى، وشمس البر الحقيقية ساطعة بأشعتها داخل القلب نفسه][4].
ولقد سبق للرسول بولس أن ربط بين فاعلية المعمودية والاستنارة الروحية للمؤمن فقال: ” لكى تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعد أُنرتم، صبرتم على مجاهدة الآلام الكثيرة” (عب32:10).
والربط بين الاستنارة الروحية والمعمودية، يعنى أن الاستنارة الروحية هي المدخل الأول للحياة المسيحية أو هي العلامة الفاصلة بين المؤمن وغير المؤمن، وهي العودة بالإنسان إلى حالته الأولى قبل السقوط، وإلى عمل نعمة روح الله في بناء حياتنا الروحية. ولذلك فإنه يُلاحظ في طقس المعمودية، أن الاتجاه إلى الشرق يعنى طلب النور باعتبار أن النور ينتشر في الكون من الشرق، وكما قال الرسول بولس: ” الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح” (2كو6:4).
وتحدث ملاخى النبي عن المسيح باعتباره النور الذي أشرق علينا: ” ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها” (ملا2:4)، وفي الإنجيل للقديس لوقا، يرتبط مجئ السيد المسيح وبالإضاءة والإنارة والاستنارة: ” ليضيئ على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لكى يهدى أقدامنا في طريق السلام” (لو79:1)، وكما جاء أيضًا في الإنجيل للقديس متى مقتبسًا من نبوة إشعياء: ” الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور” (مت16:4).
وللارتباط القوى بين الحياة والنور، أصبح الشرق رمزًا للحياة، كما يقول المرتم: ” عندك ينبوع الحياة، بنورك يارب نعاين النور” (مز9:36)، ويقول النبي حزقيال: ” وإذا بمجد إله إسرائيل جاء عن طريق الشرق” (حز2:43)، كما أصبح الاتجاه نحو الغرب يعنى الظلمة؛ والظلمة تعنى الخطية والشر. ومن الطريف الربط هنا بين الكلمة اليونانية κακία التي تعنى الشر، وبين الكلمة القبطية χακι (كاكى) ـ وهي قريبة من الكلمة اليونانية ـ وتعنى الظلمة[5].
والرسول يوحنا يسهب في الربط بين الظلمة وبين الشر، وعلى عكس ذلك يربط بين حياة النور وحياة الرب، فهو يقول: ” إن الله نور وليس فيه ظلمة البتة، إن قلنا إن لنا شركة معه، وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق، ولكن إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية” (1يو5:1ـ7). ويقول أيضًا: ” وصية جديدة أكتب لكم ما هو حق فيه وفيكم، أن الظلمة قد مضت والنور الحقيقى الآن يضيئ.
من قال إنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة. من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة، وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة، وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أين يمضى لأن الظلمة أعمت عينيه” (1يو8:2ـ11).
2 ـ الحاجة إلى الاستنارة:
يقول القديس مقاريوس الكبير:
[وحينما صنع الله جسدنا هذا فإنه لم يمنحه أن تكون له حياة لا من طبيعة الله الخاصة ولا أن يحيا الجسد بذاته… ولا يمكن للجسد أن يعيش بدون الأشياء الخارجة عنه، أي بدون الطعام والشراب واللباس، فإن حاول أن يعتمد على طبيعته وحدها دون أن يأخذ شيئًا من الخارج فإنه يضمحل ويموت.
وهذا هو نفس الحال بالنسبة للنفس أيضًا فهى لا تملك النور الإلهى رغم أنها مخلوقة على صورة الله، وهكذا نظم الله أحوالها وقد سُر بأن لا تحصل على الحياة الأبدية من طبيعتها الخاصة، ولكن من لاهوته، أي من روحه، ومن نوره، تنال طعامًا وشرابًا روحانيًا، ولباسًا سماويًا وهذه هي حياة النفس، أي الحياة بالحقيقة] (المرجع السابق ص33).
وعن حالة آدم قبل أن يخطئ، قال القديس مقاريوس: [ كان كلمة الله معه وكان هو معلّمه وقد ألهمه أن يعطى أسماء لكل الأشياء. وكما كان يتعلم آدم من الكلمة هكذا سمى الأشياء جميعها].
ولما سُئل القديس مقاريوس: هل كل لآدم اختبار الروح وشركته، أجاب قائلاً: ” الكلمة نفسه بحضوره مع آدم، كان كل شئ بالنسبة له سواء كان معرفة أو اختبارًا أو ميراثًا أو تعليمًا أو إرشادًا، إذ ماذا يقول يوحنا عن الكلمة؟ ” في البدء كان الكلمة” فأنت ترى أن الكلمة هو كل شئ وكائن قبل كل شئ. فإن كان لآدم (قبل السقوط) مجد خارجى حاضر معه فلا نستغرب أو نعثر من ذلك عندما يقول الكتاب: إنهما عريانيين وهما لا يخجلان، فلما تعديا الوصية انفتحت أعينهما فخجلا واختبئا من الله (انظر تك25:2، 10،7:3).
لو كانت الطبيعة الإنسانية لها القدرة بدون سلاح الروح القدس الكامل أن ” تقف ضد مكايد إبليس” (أف11:6) لما كان الرسول قد قال بتأكيد ” إله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا” (رو20:12).
أيضًا يقول: [ الويل على النفس التي لا يكون فيها المسيح الربان الحقيقى، فإنها توجد في بحر مرارة الظلمة المرعب وتلاطمها أمواج الشهوات وتصدمها وتضربها عواصف أرواح الشر وتنتهى بالهلاك] [6].
[توجد عيون داخلية أعمق من هذه العيون الطبيعية ويوجد سمع أعمق من هذا السمع. وكما أن هذه العيون الجسدية تنظر وجه الصديق أو المحبوب وتتعرف عليه فإن عيون النفس المستحقة المؤمنة بسبب نوالها الاستنارة الروحية بنور الله، فإنها تنظر الصديق الحقيقى الذي هو العريس المحبوب جدًا والحلو جدًا أي الرب، وتتعرف عليه، إذ تكون النفس مملوءة ومشمولة بإشراق الروح الممجد][7].
لإن [النفس إن لم تولد الآن في ” أرض الأحياء” (مز13:27) وتستمد غذاءً روحيًا منها وتنمو نموًا روحيًا أمام الرب وتكتسى من اللاهوت بحلل الجمال السماوى التي تفوق الوصف، فإنها بدون ذلك القوت لا يمكنها أن تعيش من نفسها في فرح وراحة. إن الطبيعة الإلهية فيها خبز الحياة الذي قال ” أنا هو خبز الحياة ” (يو35:6)، “والماء الحى” (يو10:4)..” وزيت الابتهاج” (مز7:45)، وجميع أصناف طعام الروح السماوى ولباس النور، تلك التي تأتى من الله.
وفى هذه الأشياء تكون حياة النفس الأبدية. ويل للجسد حينما يعتمد على طبيعته الخاصة لأنه حينئذ يضمحل ويموت، وأيضًا ويل للنفس إن استندت على طبيعتها الخاصة ولم تضع ثقتها في شئ سوى أعمالها الخاصة، ولم تنل شركة روح الله، فإنها تموت إذ أنها لم تحصل على حياة اللاهوت الأبدية الممنوحة لها] [8].
[ إن كل نفس لا تُصلّح وتُملّح بالروح القدس ولا تشترك في الملح السماوى الذي هو قوة الله فإنها تفسد وتمتلئ برائحة الأفكار الرديئة الكريهة حتى أن وجه الله يتحول عن الرائحة المرعبة النتنة، رائحة أفكار الظلمة الباطلة وعن الشهوات التي تسكن في مثل هذه النفس. والدود الشرير المرعب، الذي هو أرواح الشر وقوات الظلمة، تتمشى وتتجول فيها، وتسكن هناك، وتختبئ وتدب فيها وتأكلها وتأتى بها إلى التحلل والفساد. كما يقول المزمور ” قد أنتنت وقاحت جراحاتى ” (مز5:38)] [9].
3 ـ الاستنارة غير الوحى:
الاستنارة ليست وحيًا، والوحى ليس درجة عالية من الاستنارة، لأن المستنير ليس معصومًا من الخطأ، بينما أن الوحى يعصم الكاتب من الوقوع في الخطأ. والاستنارة ليست على مستوى واحد عند جميع الناس، بينما لا يختلف الوحى في درجته بين شخص وآخر، أو بالنسبة للكاتب الواحد بين عبارة وعبارة.
4 ـ الاستنارة تشمل الإنسان كله:
الاستنارة تشمل الإنسان كله، شخصه وما يصدر عنه من قول وفعل. فلا يمكن أن يكون هناك إنسان مستنير ويصدر عنه عمل أو قول غير مستنير، ولذلك ـ في سفر الأمثال ـ سُمى السلوك بالنور ” أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل” (أم 18:4). كما عندما نتكلم عن شخص، فإن هذا الإيمان يشمل الشخص نفسه وأقواله وأفعاله وكل ما يصدر عنه.
المؤمن ليس هو الذي يؤمن فقط أن المسيح إله أو يؤمن بالثالوث القدوس، لكن الإيمان يظهر في قوله وفي عمله وفي تصرفاته، ويظهر الإيمان في ظروف حياته المختلفة.. في فرحه يفرح فرح الإيمان، وفي حزنه يحزن حزن الإيمان، وفي رجائه يرجو رجاء الإيمان، وفي ضيقه يصبر صبر الإيمان، وفي علمه يُعلِّم تعليم الإيمان، وكما يقول الكتاب: ” فليضيئ نوركم قدام الناس لكى يروا أعمالكم الصالحة، ويمجدوا أباكم الذي في السموات” (مت6:5). فالأعمال هنا هي نور مضئ. كل شئ يصدر عن المؤمن يكون كالنور المضيئ ” إن كان جسدك كله نيرًا ليس فيه جزء مظلم، يكون نيرًا كله، كما حينما يضيئ لك السراج بلمعانه” (لو37:11).
5 ـ الاستنارة ترتبط بإنارة الآخرين:
الاستنارة تحمل بطبيعتها الإشعاع على الآخرين، تمامًا كما لا يمكن أن يُوجد نور بدون إشعاع. ولذلك قيل عن السيد المسيح إنه “نور الناس”، ” والنور يضيئ في الظلمة“، وقيل ” كان النور الحقيقى الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم” (يو4:1و5و9). وقال المسيح عن نفسه: ” أنا هو نور العالم” (يو12:8). وعندما تحدث بولس الرسول عن رسالته قال: ” هكذا أوصانا الرب. قد أقمتك نورًا للأمم لتكون أنت خلاصًا إلى أقصى الأرض” (أع47:13). الشخص المستنير يعمل على إنارة الآخرين، كما قيل في نبوة إشعياء عن المسيح: ” وأجعلك نورًا للأمم لتفتح عيون العمى، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة” (إش7:42).
6 ـ الاستنارة هي من طبيعة واحدة ولكنها ليست على درجة واحدة:
أ ـ فهى من حيث إنها من طبيعة واحدة، يقول القديس مقاريوس الكبير:
[ كما أن الأنوار والمصابيح الكثيرة تشتعل من نار واحدة، وهذه الأنوار والمصابيح المشتعلة هي من طبيعة واحدة، كذلك المسيحيون يشتعلون ويضيئون من طبيعة واحدة، هي النار الإلهية أي ابن الله، ولهم مصابيحهم مشتعلة في قلوبهم وتضيئ قدامه].
ب ـ ومن حيث اختلاف الدرجة: يقول القديس يوحنا السُّلمى:
[ التمييز عند المبتدئين هو معرفة ذواتهم معرفة حقيقية، أما عند المتوسطين فهو حس داخلى يميز السجية الصالحة حقًا عن السجية الطبيعية وعن السجية الرديئة، وأما عند الكاملين فهو معرفة ناتجة عن استنارة إلهية تستطيع أن تضيئ بمصابيحها ما هو مُظلم عند الآخرين. ولعل تحديد التمييز بصورة عامة هو أنه معرفة ثابتة لمشيئة الله في كل ظرف وفي كل آن ومكان، تتوفر فقط لأنقياء القلوب والأجساد والأفواه][10].
ولقد سبق وتناول بولس الرسول الحديث عن الاختلاف في درجة الاستنارة في رسالته إلى العبرانيين فقال: ” لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان، تحتاجون أن يعلمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله وصرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعام قوي. لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل. وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 12:5ـ14).
ويلاحظ في عبارات بولس الرسول ما يلى:
1 ـ عندما يقول ” ما هي أركان بداءة أقوال الله“، فإنه يستعمل في اللغة اليونانية لكلمة “أقوال” صيغة التصغير فتعنى الكلمة ” أقوالاً مختصرة”.
2 ـ باعتبار أنهم في حالة الطفولة في الحياة الروحية، فلا يناسبهم أن يقدم لهم تعاليم متقدمة يصعب عليهم فهمها إذ ليس لهم خبرة روحية ولا يستطيعون أن يتعرفوا على التعاليم التي تكون على درجة عالية من التقدم والتى تقود إلى حياة التبرير وإلى الحياة الفاضلة المسيحية.
وحالة الطفولة في الإيمان تكلم عنها بولس الرسول في مواضع أخرى من رسائله فقال في أفسس ” كى لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال” (أف14:4)، وقال في رسالته الأولى إلى كورنثوس: ” لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلاً أبطلت كل ما للطفل” (1كو11:13). وقال أيضًا: ” أيها الاخوة لا تكونوا أولادًا في أذهانكم بل كونوا أولادًا في الشر، وأما في الأذهان فكونوا كاملين” (1كو20:14).
3 ـ إن التعاليم الروحية العميقة هي من أجل المسيحيين الناضجين الذين بواسطة المران والاعتياد صارت لهم الحواس الروحية مُدربة على أن تميز بسهولة ويُسر بين الخير والشر وبين الحقيقة والباطل. ومعنى هذا أنه كما أن لدينا حواس جسدانية فلنا أيضًا حواس روحية. لنا أعين روحية ـ ولنا إذن روحية ـ ولنا تذوق روحى. هذه الحواس الروحية يتعطل عملها بالخطية، غير أنها تكتسب صحتها وقوتها بواسطة عمل نعمة الروح القدس.
4 ـ كلمة ” البالغين ” أي الكاملين، غالبًا يستعملها الرسول بولس في المقارنة مع الأطفال غير الناضجين.
5 ـ الحواس = ملكات الإدراك العقلية.
6 ـ مدربة أي مروضة كما قيل ” روض نفسك للتقوى” (1تى7:4).
7 ـ التمييز بين الخير والشر: كما قيل في رسالة فيلبى ” حتى تميزوا الأمور المتخالفة” (فى10:1)، ” وأريد أن تكونوا حكماء للخير وبسطاء للشر” (رو19:16)، ” زبدًا وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير” (إش15:7).
الإستنارة الروحية تساعد المرء على تقبل الحقائق الإلهية:
في الرسالة الأولى إلى كورنثوس يقول الرسول ” لأن مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها إلاّ روح الله” (1كو11:2). إن الأمور المختصة بالله لا يستطيع أحد أن يعرفها إلاّ روح الله. وهذا أمر ندركه من خبرتنا الشخصية، لأن مَن من الناس يستطيع أن يعرف الأمور الخاصة بالإنسان إلاّ نفس الإنسان ذاته التي هي في داخله، وفي هذا المعنى يقول سليمان الحكيم ” كما في الماء الوجه للوجه، كذلك قلب الإنسان للإنسان”.
إن أمور الله يمكن أن تعرف فقط بالعنصر الأسمى في الشخصية الإنسانية أي عن طريق الروح الذي هو العنصر الأساسى في الإتصال بالله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. نحن أخذنا نعمة الروح القدس الذي هو روح الله ويفحص حتى أعماق الله، فهو يعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. ويقول الرسول بولس ” ولكن الإنسان الطبيعى لا يقبل ما لروح الله لأن عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحيًا” (1كو14:2).
ويقصد بالإنسان الطبيعى أي الذي لم يولد من جديد بنعمة الروح القدس، ولم يتجدد قلبيًا وذهنيًا، فهو لم يقبل هذه التعاليم التي يعلم بها روح الله، بل تبدو أمامه كما لو كانت غير منطقية وليس لديه القدرة على إدراكها، لأن مثل هذه التعاليم لا يمكن فهمها وفحصها والحكم فيها إلاّ روحيًا أي بواسطة الإستنارة التي يعطيها الروح القدس والتي ليست موجودة عند ذلك الإنسان الطبيعى.
إن الرسول بولس هنا يتكلم عن النفس كأداة للمعرفة البشرية في مقابل الروح كأداة للمعرفة الروحية. وعلى ذلك فالإنسان الذي تعتمد معرفته الروحية على إمكاناته الطبيعية فقط، هو إنسان طبيعى في مقابل الإنسان الروحى الذي تبلغ إليه المعرفة الإلهية.
ومن الملاحظ هنا أن الرسول بولس يقول عن الإنسان الطبيعى ” لا يقبل ما لروح الله“. فالرسول لا يعنى فقط أنه لا يفهم ما لروح الله، بل أكثر من ذلك أنه لا يسمح لهذه الحقائق الإلهية أن تلج إلى قلبه فهو يرفضها ولا يقبلها على عكس الذين يقبلون كلمة الله ويفتحون لها قلوبهم.
ويقول عنه أيضًا “عنده جهالة” وليس فقط “يبدو جاهلاً”. كذلك يقول عنه “لا يقدر أن يعرفه” أي أنه يوجد في الإنسان الطبيعى عجز أو نقص وإفتقاد للأداة التي يمكن أن يدرك بها الأمور الروحية، وهو في حاجة لأن يُزود بهذه الإمكانيات الخاصة بإدراك الحقائق الروحية وهذا لا يتم ولا يتحقق إلاّ بعمل الروح القدس. هكذا فإن الروح القدس يزود الإنسان الطبيعى بالإمكانيات التي بها يستطيع أن يدرك الأمور الروحية والتي بدونها يكون عديم القدرة وعاجزًا عن هذا الإدراك.
ويقول الرسول بولس أيضًا ” وأما الروحى فيحكم في كل شئ وهو لا يحكم فيه من أحد“(1كو15:2). أي أن الإنسان المتجدد بالروح القدس يستطيع أن يميز ويدرك كل شئ، ويستطيع أن يفهم الآخرين وأن يحكم على الأعمال التي تصدر عنهم. فالإنسان الروحى تكون له القدرة وروح التمييز على الحكم، بينما الإنسان الطبيعى لا يدرك ما للإنسان الروحى المتجدد بفاعلية الروح القدس، أي لا يدرك حقيقة الإنسان الروحى.
ويشير القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى، إلى المعرفة التي يهبها الروح القدس، فيقول ” وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شئ” (1يو20:2)، ويقول أيضًا ” وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد، بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ، وهي حق وليست كذبًا. كما علمتكم تثبتون فيه” (1يو27:2).
الإستنارة الروحية تحقق الفهم السليم لقضايا الإيمان:
هذه النقطة تحتاج إلى فهم بعض الآيات التي أوردها الرسول بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس وفي رستاله إلى أفسس. هذه الآيات هى: (2كو6:4، أف17:1، 18، 19): في (2كو6:4) يقول الرسول: ” لأن الله الذي قال أن يشرق نورًا من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح” واضح هنا أنه شبه إشراق نور الله في قلوبنا، مثل إشراق نور الشمس على العالم، وأن هذا الإشراق سيعطينا “معرفة مجد الله”، وأن هذه المعرفة إكتسبناها في وجه يسوع المسيح أو بواسطة يسوع المسيح، وواضح أيضًا في هذه الآية أن الله هو مصدر نور المعرفة.
وربما يشير الرسول هنا من ناحية إلى تجربته الشخصية، ومن ناحية أخرى يمكن أن تكون الإشارة إلى جميع المؤمنين الذين يأتى بهم الله إلى النور.
أما عبارة “لإنارة معرفة مجد الله”، فهى تعنى الإنارة أو الإستنارة التي تنتج معرفة مجد الله، والتي عبر عنها الرسول في تجربته الشخصية عندما ذكر أن الرب يسوع قال له ” لأنى لهذا ظهرت لك… لتفتح عيونهم كى يرجعوا من ظلمات إلى النور ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا بالإيمان بى غفران الخطايا ونصيبًا مع القديسين”. وفي قول الرسول بولس “في وجه يسوع المسيح”، يوضح أن يسوع المسيح هو صورة الله وفي شخصه ينكشف مجد الله بالقدر الذي يستطيع البشر أن يدركوه.
وعبارة “وجه يسوع” تقابل ما قيل في العهد القديم عن ظهور مجد الله في وجه موسى، فضلاً عن أنه لا تغيب عن بولس الرسول صورة مجد الله التي ظهرت له في وجه المسيح وهو في طريقه إلى دمشق.
ومن الملاحظ أنه في العدد الرابع من هذا الاصحاح، يشير الرسول بولس إلى أن إبليس ” قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله” (2كو4:4) فإبليس يحجب عن المؤمنين نور المعرفة فلا يدركون نور الإنجيل أو نور الكرازة التي تبشر بمجد المسيح، وبذلك لا يدركون أن المسيح هو صورة الله غير المنظور، كما قال لفيلبس ” مَن رآنى فقد رأى الآب. أنا في الآب والآب فىّ “.
في (أف17:1) ” كى يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته” هذه الآية توضح أمرًا هامًا أيضًا فيما يختص بمعرفة الله. إن الرسول يطلب أن نوهب هذه الحكمة والإعلان لمعرفة الله، ومعنى ذلك أننا نحتاج إلى أن يهبنا الله روح الحكمة والإعلان لكى نتفهم ونتعرف على الأمور السماوية. إننا بعقولنا وحدها لا نستطيع أن نتعرف على عمق الحقائق السماوية. فالأمر يستلزم أن نستنير بمواهب الروح القدس.
روح الحكمة:
سميت الحكمة بروح الحكمة باعتبارها ثمرة عمل الروح القدس.
الإعلان: تشير الكلمة إلى الأسرار التي تعلن للمؤمن.
في معرفته:
أى معرفة الله المعرفة الدقيقة والكاملة.
في (أف18:1) يقول ” مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين“. ونلاحظ في هذه الآية:
1ـ طلب من الله لكى ينير عيون الأذهان، أي لكى ينير البصيرة الداخلية. وكلمة الذهن هنا ترجمة للكلمة اليونانية Kardia التي تعنى القلب. وقد كان القلب يستعمل قديمًا لا كقاعدة للعواطف فقط بل وأيضًا للأفكار، واستعمله الرسول بولس أيضًا بهذا المعنى في قوله “واظلم قلبهم (أى فكرهم) الغبى” (رو21:1).
2ـ الهدف من الإستنارة هنا ” لكى نعلم ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين” أي لكى نعرف غنى وعظمة المجد الذي وضعه الله كميراث يهبه للمؤمنين بالمسيح.
3ـ بالطبع إن كلمة ميراث في هذه الآية تشير إلى الملكوت السماوى، ومن ناحية أخرى فإن غنى المجد لا يتحقق إلاّ في مجتمع المؤمنين أي القديسين.
4ـ هناك ملاحظة هامة بالنسبة للفعل اليونانى المترجم لتعلموا (eidenai)، فهناك فعل آخر يستعمل أيضًا بمعنى يعرف أو يعلم وهو ginwskw. والفرق بينهما هو أن الفعل المستعمل في هذه الآية (eidenai) يفترض كمال المعرفة بينما الفعل ginwskw يفترض على الدوام البداية والشروع أو التقدم في المعرفة. فمثلاً جاء في يو55:8 قول السيد المسيح لليهود عن الآب السماوى ” ولستم تعرفونه” وهنا استعمل الفعل ginwskw بمعنى أنكم في بداية معرفته، ولكنه يكمل الآية قائلاً ” وأما أنا فأعرفه” وهنا يستعمل الفعل (eidenai) ويعنى أنه يعرفه معرفة تامة كاملة.
في (أف19:1) يواصل الرسول بولس الإشارة إلى موضوع المعرفة الذي ينكشف عن طريق الإستنارة الروحية فيقول: ” وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته” والرسول يشير إلى ثلاثة أمور كموضوعات لهذا العلم، وإن كانت هذه الثلاثة في الواقع هي شئ واحد، ذُكر بأسلوب مختلف. هذه الثلاثة هى:
- ما هو رجاء دعوته.
- ما هو غنى مجد ميراثه في القديسين.
- ما هي عظمة قدرته الفائقة.
وارتباط هذه الثلاثة معًا واضح من أن رجاء الدعوة هو ميراث القديسين (انظر عب15:9)، وهذا عندما يتحقق يكون نتيجة وبرهانًا على عظمة قدرة الله الفائقة، التي تعمل فىَّ حسب ما أعطانى.
الإستنارة الروحية وحياة الكمال:
يشير الرسو ل يوحنا في رسالته الأولى إلى حالتين متناقضتين، فبينما يقول في (1يو8:1) ” إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا.. إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذبًا وكلمته ليست فينا“، يقول في (1يو9:3) ” كل مَن هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله” ولكن في حقيقة الأمر ليس هناك تناقض بين هذه الآيات، فعدم الخطأ يرتبط بحالة المحافظة على مكاسب الميلاد الثانى.
إن الوضع الطبيعى للمولود ثانية أنه لا يخطئ ولكن لا يستطيع أحد أن يتجاهل ضعف الإنسان وضعف الطبيعة البشرية، وسوء استعمال الحرية الإنسانية، الأمر الذي يجعلنا على الدوام معرضين للوقوع في الخطأ، مما لا يسمح لنا بالنظر إلى أنفسنا كأنه ليس لنا خطية. وفضلاً عن ذلك، فإننا نضع أمامنا قول السيد المسيح ” هل لذلك العبد فضل لأنه فعل ما أمر به. لا أظن. كذلك أنتم أيضًا متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا” (لو9:17، 10).
يقول القديس مقاريوس حول إمكانية المسيحى للوصول إلى حالة الكمال:
مَن هو الإنسان الذي وصل إلى الدرجة الكاملة في أزمنة النعمة الخاصة،وقد تذوق ذلك العالم العلوى واختبره اختبارًا مباشرًا؟ إنى لم أبصر حتى الآن إنسانًا مسيحيًا كاملاً إنسانًا يحيا في حرية كاملة تمامًا. طبعًا يوجد هنا وهناك مسيحيون يقيمون براحة في النعمة ويدخلون إلى إدراك الأسرار والإعلانات وإلى الحلاوة العظمى التي للنعمة. ومع ذلك لاتزال الخطية حاضرة فيهم.
ولكنهم بسبب النعمة المتزايدة والنور الذي فيهم يعتبرون أنفسهم أحرارًا وكاملين. إنهم يكونون مخدوعين بسبب قلة الخبرة. إنهم بلا شك تحت فاعلية النعمة لكنى لم أر واحدًا قط حرًا تمامًا. وأنا نفسى وصلت جزئيًا إلى هذه الدرجة في بعض الأحيان، وقد تعلمت وعرفت أن ما وصلت إليه ليس هو حالة الكمال (العظات ص88، 89).
وقال أيضًا: لقد وجدنا أمثلة كثيرة بين الاخوة الذين حصلوا على فرح عظيم ونعمة هذه مقدارها، حتى أنهم لمدة خمس أو ست سنوات متتابعة جفت فيهم الشهوة، ولكنهم بعد ذلك حينما ظنوا أنهم صاروا أحرارًا تمامًا منها، فإن الشر الذي كان مختفيًا تحرك عليهم ثانية واشتتعلت فيهم الشهوة حتى أنهم تعجبوا وقالوا ” من أين جاء علينا وقام ضدنا هذا الشر بعد كل هذا الوقت الطويل؟ فلا يجرؤ إنسان ذو عقل سليم أن يقول: حيث إن النعمة حاضرة فىّ فأنا حر من الخطية على الاطلاق (ص179).
ويثير القديس ايوانيس الدارى السريانى هذا التساؤل: إذا كانت المعمودية تطهر الإنسان من الخطايا كافة فلماذا إذًا لا ينجو المؤمن من عذابات هذه الحياة ويرتفع بقوة نعمة العماد المقدس إلى درجات الكمال التي كان فيها آدم أبو الجنس البشرى قبل سقوطه في الخطية؟ ويجيب: إن هذا عائد إلى سببين:
أولاً: إذا كان ربنا يسوع المسيح القدوس الذي لم توجد فيه خطية، قد تعرض للتجارب العديدة في حياته على الأرض ولم يدخل إلى مجد الحياة الخالدة إلاّ بعد تحمله الآلام المريرة والموت القاسى وقام من بين الأموات منتصرًا، فهل يعد من الغرابة إذًا أن يتعرض المؤمنون وهم لابسون جسد الخطية الفاسد حتى بعد إكتسابهم نعمة التبرير الإلهى بالمعمودية للتجارب وأن يحتملوا آلام الجسد وحتى أن يذوقوا الموت من أجل المسيح لكى يستحقوا أن يقوموا معه في اليوم الأخير ويتنعموا في الحياة الأبدية.
ثانيًا: إن ضعف الجسد والأمراض والآلام والشهوة وغيرها تلبث في المؤمن بعد المعمودية لتكون واسطة لترويضه على الفضيلة التي منها تجنى ثمار المجد. فعندما يتحمل المؤمن عذابات هذه الحياة بصبر جميل واتكال على مؤازرة المعونة الإلهية، وبرجاء راسخ صادق، يحفظ إكليل البر الذي يهبه له الرب الديان العادل في ذلك اليوم لأنه جاهد جهادًا حسنًا وأكمل السعى وحفظ الإيمان كقول الرسول.
وهذا يشبه ما فعله الله مع بنى إسرائيل عندما أنقذهم من عبودية المصريين واجتاز بهم البحر الأحمر لم يدخلهم إلى أرض الميعاد مباشرةً بل جربهم في برية سيناء مدة أربعين سنة بأمور شتى لإمتحانهم، واختبار طاعتهم له، وصدق عبادتهم إياه، ومن فاز منهم فقط، استحق أن يرث الأرض.
وإذا كانت الإستنارة الروحية ـ فيما عرفها القديس ايوانيس الدارى ـ هي إستنارة القلب بالنعمة الإلهية والفضائل السماوية التي بواسطتها يصبح المؤمن بارًا وابنًا لله (يو12:1) ووارثًا للحياة الأبدية (رو17:8)، فهنا أيضًا نواجه السؤال التالى: كيف يمكن للذين نالوا المواهب الروحية وحصلوا على العطايا السماوية واستنيروا بواسطة المعمودية أن يتهاونوا في ممارسة أعمال الصلاح والتحلى بالفضائل المسيحية؟
ويجيب القديس ايوانيس ويقول: إن المعتمد وإن كان حائزًا على هذه المواهب الروحية إلاّ أنه لايزال في صراع شديد مع عدو الجنس البشرى (أف12:6) فلا يليق إذًا أن يتخاذل في هذا الجهاد بل أن يتكل على رحمة الله ويرجو رجاء مباركًا لممارسة أعمال الصلاح باستمرار وأن يضع على الدوام نصب عينيه ما هو طاهر وجليل.
ويقول القديس مكاريوس المصرى: فرغم أن الشر موجود في الطبيعة البشرية (بعد نوال النعمة) ولكن لم يعد له السلطان أن يسود عليها كما كان سابقًا. فرغم أن الزوان يمكن أن يخنق نبات القمح في بداية نموه ولكن حينما يأتى الصيف وتنضج حبوب القمح فإن الزوان لا يكون له أي ضرر على القمح بعد ذلك. فإذا وضعت ربع مكيال من الزوان في ثلاثين مكيال من القمح النقى واختلطت معها فأى تأثير يكون للزوان. فإن كمية القمح الكبيرة تغطى على الزوان القليل بسبب وفرتها.
هكذا أيضًا في مجال النعمة، فحينما تتفاضل عطية الله وتفيض نعمته في الإنسان فيصير غنيًا بالرب، فحتى إذا كانت الخطية حاضرة فيه إلى درجة ما، فإنها لا تستطيع أن تؤذيه ولا يكون لها سلطان أو قوة عليه. وهذا هو الهدف من مجئ الرب وعنايته بالإنسان هو أن يطلق الذين كانوا أسرى للخطية ومستعبدين لها، ويجعلهم أحرارًا وغالبين للموت والخطية. لذلك فلا ينبغى أن يستغرب الاخوة إذا أصابتهم ضيقات وشدائد من الناس فهذا يساعد على تخليصهم وتحريرهم من الخطية (عظات القديس مقاريوس الكبير ص239).
التعرض لفقد الإستنارة الروحية:
يقول الرسول بولس ” لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتى وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويُشّهرونه لأن أرضًا قد شربت المطر الآتى عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله ولكن إن أخرجت شوكًا وحسكًا فهى مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها الحريق” (عب4:6ـ8).
وتفسير هذه الآية هو على النحو التالى:
+ استنيروا مرة:
كانت الإستنارة التي حصلوا عليها مرة بالمعمودية كافية لأن تمنعهم من الوقوع في الخطأ. فالإستنارة هنا تشير إلى ما حصل عليه المؤمنون من الله بواسطة يسوع المسيح، الذي هو النور الحقيقي، وبواسطة الروح القدس. وكلمة “ينير” في الترجمة السبعينية عادة تعنى: يُعلَّم ويُعقَّل، كما جاء في(مز130:119) ” فتحُ كلامك ينير يُعقّل الجهال” وهذا ما لاحظناه سابقًا في الآيات التي أشرنا إليها عن الإستنارة مثل قول الرسول بولس ” مستنيرة عيون أذهانكم” (أف19:3).
فكلمة استنيروا إذًا في هذه الآية تشير إلى هؤلاء الذين تركوا الحياة المظلمة التي كانوا يعيشون فيها قبلاً أي قبل الإيمان، وأما الآن فقد استناروا بتعاليم الإنجيل.
+ ذاقوا:
في معنى كلمة “ذاقوا” يمكن أن نقرأ (عب9:2) ” كى يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد” والمعنى هنا أنه شارك شعوريًا واختباريًا وفعليًا لشئ ما. فلسنا هنا إزاء مجرد المعرفة الذهنية أو الإدراك الذهنى بل أكثر من ذلك: تذوق واختبار. قارن هذا مع ما يقوله الرسول بطرس ” إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح” (1بط3:2). ومعنى هذا التذوق فيما يقول الرسول يوحنا عن أكل جسد المسيح وشرب دمه ” لأن جسدى مأكل حق ودمى مشرب حق” (يو56:6). فتذوق الرب هو أكل جسده وشرب دمه. يقول القديس مكاريوس وهو يتحدث عن أهمية الاختبار وبرهان الروح:
إن مجرد الحديث عن الأطعمة والمائدة شئ، وأما أن تأكل وتتمتع بالطعام لتقوية أعضاء جسدك فهذا شئ آخر تمامًا. والحديث عن مشروب لذيذ بالكلمات شئ، وأما الإقتراب من الينبوع نفسه والشرب منه حتى الإرتواء فهذا شئ آخر.
وأن تتحدث عن الحرب وعن الأبطال والمحاربين الشجعان هذا شئ ولكن ذهاب الإنسان إلى المعركة في الطليعة ومحاربة الأعداء وجهًا لوجه ومناورتهم والأخذ والعطاء معهم والإنتصار عليهم فهذا شئ آخر تمامًا. وبالمثل في الأمور الروحية: الكلام والحديث بالمعرفة والأفكار العقلية هذا شئ، وأما الجوهر والحقيقة في ملء الاختبار وفي الإنسان الداخلى وامتلاك كنز ونعمة ومذاقة وفاعلية الروح القدس في القلب فهذا شئ آخر (نفس المرجع ص250).
+ الموهبة السماوية وشركة الروح القدس:
يشير هنا إلى عطية الروح القدس، وكلمة سماوية تشير إلى مصدر العطية باعتبارها من السماء والروح القدس هو الذي يمتلك هذه العطايا ويهبها للمؤمنين وبذلك نشترك في مواهبه (ومن الأمثلة على هذه المواهب والعطايا السماوية انظر يو10:4، 32:6، 1بط3:2، أف8:2، غلا5:3، عب4:2).
+ وذاقوا كلمة الله الصالحة: أي اختبروا لأى حد تحمل كلمة الله المذكورة في الإنجيل من لذة وفرح وسلام نفسى.
+ وقوات الدهر الآتى:
كذلك اختبروا من الآن، منذ عهد المسيا، القوات الآتية، أي تحت تأثير النعمة الإلهية وعمل الروح القدس شعروا بشوق كبير للسماء ولخيراتها، بينما شعروا بخوف من نار العذاب الأبدى.
+ وسقطوا.. للحريق:
هؤلاء الذين حصلوا على النعم والبركات، لكنهم سقطوا بإرادتهم وفي عناد وإصرار لا يمكن أن يتجددوا للتوبة. وعدم الإمكانية ترجع إلى أن هؤلاء بسبب عدم ثباتهم وبسبب إرتدادهم عن الإيمان، رفضوا السيد المسيح ورفضوا وسائل النعمة ووسائط الخلاص ولم يعد المسيح مطلبًا بالنسبة لنفوسهم، بل صار كميت بعيدًا عنهم وعن قلوبهم. وأكثر من ذلك يسيئون إلى المسيح ويتكلمون عنه بما لا يليق. فهم إذًا كما لو كانوا يكررون للمرة الثانية عملية صلب المسيح.
وبنفس العناد والإصرار على الخطأ الذي تمثل في هؤلاء الذين قدموا المسيح للصلب، هكذا أيضًا هؤلاء يصرون على خطيئتهم ويثبتون في عنادهم، ويرفضون في حرية واختيار وإرادة وعزيمة يرفضون المسيح. ومعنى هذا كله أن عدم التجديد للتوبة لا يرجع إلى الله كما لو أن مراحم الله قد أُغلقت عنهم، لأن الله لا يترك الشرير بل يقدم له الفرصة تلو الفرصة داعيًا إياه للتوبة. إن عدم التجديد يرجع إذًا إلى رفض هؤلاء قبول الوسائط التي تجدد الحياة الروحية.
ويمكن أن تشبه حالتهم بحالة الإنسان الذي لا ينفع معه دواء لأنه انتهى إلى حالة لا يتفاعل فيها جسمه مع الدواء. فعدم شفاء هذا الإنسان لا يرد إلى التقصير في تقديم وسائل العلاج. وهو أيضًا مثل الشجرة التي حكم السيد المسيح عليها بالقطع بعد أن تركها ثلاث سنوات. والحكم على قطع الشجرة لا يرجع إلى تقصير البستانى بل يرد إلى الشجرة التي لا ينتظر أن تنتج ثمرًا.
فلا نحاول إذًا أن نرفض مواهب الروح القدس وعطاياه، وإلاّ فسوف يحدث معنا ما يحدث مع الأرض. أي أن الأرض التي شربت المطر الذي يسقط عليها على الدوام، وكان نتيجة ذلك أنها أنتجت ثمرًا عظيمًا للذين يفلحونها. أما عندما تخرج الأرض شوكًا وحسكًا وتصبح عديمة الفائدة للذين يفلحونها، فستكون نهايتها إحراق ذلك الشوك والحسك الذي نبت فيها.
وعلى هذا النحو، فإن نفوس البشر تشبه الحقول المفلحة من قبل الله والتي تقبل سقوط المطر عليها، أي عطايا ومواهب الروح القدس. وكما تثمر الأرض الصالحة العشب الصالح، هكذا فإن النفوس الصالحة بواسطة الروح القدس تثمر ما يقابل العشب الصالح أي الفضائل الروحية.
ولكن هذه النفوس إذا رفضت مواهب الروح القدس وعطاياه، فهى معرضة لأن تنبت فيها الرذائل، وتبعًا لذلك تكون نهاية هذا الإنسان الشرير، الهلاك والدمار، لأنه رفض بإصرار وعناد وسائط النعمة. يقول الرسول بولس ” فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين” (عب26:10).
ويقول الرسول يوحنا ” إن رأى أحد أخاه يخطئ خطية ليست للموت يطلب فيعطيه حياة للذين يخطئون ليس للموت. توجد خطية للموت، ليس لأجل هذه أقول أن يطلب” (1يو16:5، 17).
وعن التعرض لفقدان الإستنارة الروحية، جاء في كتاب الراعى لهرماس: إذا كان قلبك نقيًا فالروح الذي فيك يبتهج ويتهلل لأنه يعمل في سعة بيتك الذي تحكمه البساطة بصفاء، أما إذا دخله الغضب، فإن الروح القدس الحساس بطبيعته ينزعج لأن المكان الذي يعيش فيه غير نقى، ويعمل للخروج منه. لا يوافق أن يكون الروحان معًا. إذا ألقيت قليلاً من العلقم في قصعة من العسل، ألا تُفسد بعملك هذا طعم العسل وتجعله غير صالح فيخسره صاحبه ولا يستفيد منه. إذا لم تلق العلقم في القصعة، يبقى العسل على حلاوته ويبقى له طعمه ويسر صاحبه[11].
ويُسمى كتاب الراعى لهرماس الرذائل بالأرواح الشريرة ويقول “عندما تأتى هذه الأرواح لتقطن في آنية واحدة حيث يقطن الروح القدس، تطفح الآنية لأنها لا تتسع لكل هذه الأرواح وهكذا يهرب الروح القدس بطبيعته اللطيفة لأنه لا يستطيع أن يسكن مع هذه الأرواح الشريرة، ويذهب ليقطن حيث الوداعة والهدوء. بعد ترك الروح القدس للإنسان واستيطان هذه الأرواح فيه يفقد الإنسان إتزانه فتتقاذفه هذه الأرواح من مكان إلى مكان فيسقط في عناده كلية بعد فقده للنور الحقيقي (المرجع السابق ص200).
وقد وجه السؤال التالى للقديس مكاريوس المصرى:
كيف يسقط البعض بعد افتقاد النعمة، أفلا يصير الشيطان أضعف بواسطة النعمة؟ وحيث يكون النهار كيف يمكن أن يكون هناك ليل؟ فأجاب:
ليس أن النعمة تنطفئ أو تضعف، بل إن إرادتك وحريتك تُمتحن لكى يتضح إلى أي اتجاه تميل وحينئذٍ تقترب أنت ثانية من الرب باختيارك وتتوسل إليه أن تأتيك النعمة وتفتقدك. فإنه مكتوب ” لا تطفئوا الروح” (1تس19:5). فالروح نفسه لا يمكن أن ينطفئ بل هو نور دائم. ولكن إذا كنت أنت مهملاً، فبعدم توافقك وتعاونك مع الروح فإنك تنطفئ وتفقد الروح. وبالمثل يقول الكتاب أيضًا ” لا تحزنوا الروح القدس الذي به ختمتم ليوم الفداء” (أف30:4). وأنت ترى هنا أنه متروك لإختيارك وحريتك أن تكرم الروح القدس ولا تحزنه.
وإنى أؤكد لك أن حرية الإختيار تظل باقية حتى في المسيحيين الكاملين الذين يُسبون بالصالحات ويسكرون بها. وصدقنى إن الرسل أنفسهم الذين كانوا كاملين في النعمة، لم تكن النعمة تمنعهم من أن يفعلوا ما يريدون، إن رغبوا أحيانًا أن يفعلوا شيئًا غير موافق للنعمة. إن طبيعتنا البشرية معرضة لكل من الخير والشر. والقوة المعادية تعمل عن طريق الحث والإغراء وليس عن طريق الإجبار. وأنت تملك الحرية أن تميل إلى الإتجاه الذي تريده.
ألم تقرأ ما هو مكتوب أن بطرس ” كان ملومًا” (غل11:2)، وأن بولس قاومه مواجهة. فرغم كل ما كان عليه بطرس من نعمة، فإنه استوجب التوبيخ. وبولس مع كل الروحانية التي كان عليها، فإنه تشاجر مع برنابا حتى فارق أحدهما الآخر (أع39:15). وبولس نفسه أيضًا يقول ” اصلحوا أنتم الروحانيون مثل هذا.. ناظرًا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضًا” (غل1:6). إذًا فالروحانيون يجربون لأن حرية إرادتهم باقية والأعداء يحاربونهم ماداموا في هذا العالم (ص248، 249).
[1] الأسرار السبعة: تأليف المطران (حاليًا البطريرك زكا عيواص الأول)، والأب الربان (حايًا المطران) اسحق ساكا ـ بغداد 1970 ص 32ـ35.
[2] Greg. Naz. 36, 361.
[3] عظات القديس مقاريوس الكبير ـ طبعة ثانية ـ ترجمة د. نصحى عبد الشهيد، 1991 ص345.
[4] المرجع السابق ص 178.
[5] الأنبا متاؤس: أسرار الكنيسة السبعة ـ الجزء الأول ـ 1991، ص 24ـ25.
[6] المرجع السابق: ص259.
[7] المرجع السابق، ص260.
[8] المرجع السابق، ص 33و34.
[9] المرجع السابق، ص28.
[10] يوحنا السُّلمى: السُّلم إلى الله ـ تعريب رهبنة دير مار جرجس الحرف ـ منشورات النور ـ لبنان 1980 ص 143.
[11] الآباء الرسوليون ـ تعريب المطران إلياس معوض ـ منشورات النور 1970، ص199