الاجتياح – سي إس لويس
الاجتياح – سي إس لويس
حقاً أن الإلحاد ساذج جداً. وسأطلعكم أيضاً على رأي آخر هو ساذج جداً كذلك، ألا وهو الرأي الذي أدعوه “المسيحية الهيّنة” – ذلك الرأي الذي يقول بكل بساطة إن في السماء إلهاً طيباً وإن كل شيء بخير، تاركاً جميع العقائد الصعبة والرهيبة المتعلقة بالخطية وجهنم وإبليس، وعن الفداء. فهاتان كلتاهما من الفلسفات الصبيانية.
ليس من خير في طلب ديانة بسيطة. وبعد إمعان النظر، ليست الأشياء الحقيقية بسيطة. إنها تبدو بسيطة، ولكنها ليس كذلك. فالطاولة التي أنا جالس إليها تبدو بسيطة. ولكن اسأل عالماً أن يُبين لك مما هي مصنوعة فعلاً (كل ما يتعلق بالذرات وكيف ترتد عنها الأمواج الضوئية وتقع في عيني، وما تفعله بالعصب البصري، وما يفعله ذلك بدماغي) فتجد بالطبع أن ما ندعوه “رؤية طاولة” يُدخلك في ألغاز وتعقيدات لا تكاد تبلغ آخرها. قول طفولي الادعاء بأن صلاة الولد تبدو بسيطة، وإذا قنعت بالتوقف هنا، فخيرٌ وحسن.
أما إذا لم تقنع بذلك، والعالم الحديث لا يقنع عادة، وإذا أردت أن تمضي قُدماً وتسأل عما يحدث فعلاً، فعليك عندئذ أن تكون على استعداد لمواجهة أمر صعب. وإن طلبنا شيئاً يتعدى البساطة، يكون من السخف إذا ذاك أن نتشكى من كون ذلك الشيء غير بسيط.
غير أنه غالباً ما ينتهج هذا النهج الساذج أشخاصٌ غير سذج، ولكنهم، بوعي أو بلا وعي، يريدون تدمير المسيحية. هؤلاء القوم يقدمون صورة من المسيحية تناسب ابن ست سنين، ويجعلون تلك الصورة المصطنعة غرضاً لهجومهم. فإذا حاولت أن تُفسر العقيدة المسيحية كما يعتنقها راشد مُتنور، يتذمرون عندئذ من كونك تُدوخ رؤوسهم ومن كون الموضوع بجملته معقداً جداً، زاعمين أنه إن كان الله موجوداً فهم متيقنون بأنه لا بد أن يجعل “الدين” بسيطاً، لأن البساطة جميلة، إلخ.
إنما عليك أن تكون محترساً من هؤلاء القوم لأنهم سيُبدلون مواقعهم كل دقيقة ويضيعون وقتك فحسب. وتنبه أيضاً إلى فكرتهم القائلة بأن لا بد لله أن يجعل الدين بسيطاً، كما لو كان الدين شيئاً اخترعه الله، وليس إعلاناً منه لنا لحقائق معينة راسخة تتعلق بطبيعته تعالى.
لكن الحقيقة، فضلاً عن كونها معقدة، تبدو في العادة غريبة، حسب خبرتي. فهي ليست مصقولة، ولا بديهية، ولا هي ما تتوقعه أنت. مثلاً، لما أدركت أن الأرض والكواكب الأخرى تدور كلها حول الشمس، كان ينبغي لك على نحو طبيعي أن تتوقع أن جميع الكواكب صُنعت بحيث تكون متماثلة: كأن تكون كلها على مسافات متساوية فيما بينها، أو على مسافات تتزايد باطراد، أو تكون كلها ذات حجم واحد، وإلا فهي تكبر أو تصغر كلما ابتعدت عن الشمس.
ولكنك بالحقيقة لا تجد نسقاً أو منطقاً (يمكننا أن نراه) فيما يتعلق بحجم الكواكب او المسافات بينها. ثم إن لبعضها قمراً واحداً، ولأحدها أربعة أقمار، ولآخر قمران، وليس لبعضها أي قمر، ولواحد منها حلقة حواليه.
ففي الواقع ان الحقيقة شيء ما كان ممكناً أن تحرزه. وهنا سبب من الأسباب التي تدفعني إلى الإيمان بالمسيحية. فهي ديانة لم يكن ممكناً أن تحزرها. ولو أنها قدمت إلينا تماماً ذل الكون الذي طالما توقعنا نوعه، لانبغى لي أن أشعر بأنها من اختراعنا.
ولكنها بالحقيقة ليست ذلك الشيء الذي كان من شأن أي أمرئ أن يخترع مثله. إنها تمتلك تماماً تلك الأطوار الغريبة التي تتميز بها الأمور الحقيقية. فلنتخل إذاً عن تلك الفلسفات الصبيانية كلها، تلك الأجوبة ذات التبسيط المفرط. إذا أن المسألة ليس سهلة، والإجابة لن تكون بسيطة أيضاً.
وما هي المسألة؟ إنها عالم يحتوي على كثير مما هو رديء بشكل واضح وعديم المعنى ظاهرياً، ولكنه يحتوي على مخلوقات نظيرنا تعرف أنه رديء وعديم المعنى. وثمة فقط وجهتا نظر تواجهان الحقائق كلها. إحداهما وجهة النظر المسيحية القائلة بأن هذا عالم قد فسد، إلا أنه ما يزال محتفظاً بذكرى ما كان ينبغي أن يكونه. أم الأخرى، فهي وجهة النظر المعروفة بالثنائية (Dualism).
وتعني الثنائية اعتقاد وجود قوتين متساويتين ومستقلتين وراء كل شيء، إحداهما خيرة والأخرى شريرة، وكون هذا العالم ساحة المعركة التي فيها تخوضان حرباً لا نهاية لها. وأعتقد شخصياً أن الثنائية، بعد المسيحية، هي أشرف العقائد وأكثرها معقولية بين كل ما هو قيد التداول. غير أن فيها شركاً.
من المفترض أن تكون القوتان، أو الروحان أو الإلهان (الخير والشر) مستقلين تماماً. وكلتاهما موجودتان منذ الأزل. ولم تصنع أية واحدة منهما الأخرى، وليس لأية واحدة منهما حقٌ يفوق حق الأخرى في أن تدعو ذاتها الله. ويُفترض أن كلتيهما تحسب أنها صالحة فيما تحسب أن الأخرى طالحة. وإحداهما تحب البغضاء والقساوة، فيما تحب الأخرى المحبة والرحمة، وكلتاهما تدعم رأيها الخاص.
فالآن، ماذا نعني حين ندعو إحداهما القوة الصالحة، والأخرى القوة السيئة؟ إن كل ما تقوله هو إنه يصدف أن نُفضل الواحدة على الأخرى، كتفضيل البيرة على العصير، أو إنه مهما كان رأي القوتين في الأمر، وأية منها يصدف أن نحب نحن البشر الآن، فإحداهما طالحة، بل على خطأ بالفعل، في حسبان ذاتها صالحة. أما إن كان كل ما نعنيه هو أنه يتفق أن نُفضل الأولى، فعندئذٍ يجب أن نكف عن التحدث عن الصلاح والطلاح تماماً. وذلك لأن صفة الصلاح تعني ما ينبغي لك أن تٌفضله بصرف النظر عما يصدف أن تحبه في أي وقت محدد.
فإذا كان معنى كون الشيء صالحاً أن تقف في الصف الذي يصدف أنك تميل إليه، لغير سبب وجيه، فإن الصالح عندئذ لن يستحق أن يُدعى صالحاً. وعليه، يجب أن نعني أن إحدى القوتين خاطئة فعلاً وأن الأخرى صائبة حقاً.
ولكنك لحظة تقول ذلك، تُدخل إلى الكون شيئاً ثالثاً، فضلاً عن القوتين المذكورتين: قانوناً أو معياراً أو وقاعدة للصواب تؤيدها إحدى القوتين فيما تتنافى وتتنافر الأخرى معها. ولكن بما أن القوتين خاضعتان لحكم ذلك المعيار، فإن هذا المعيار أو الكائن الذي صنع هذا المعيار، أبعد وأسمى بكثير من كلتا القوتين، وسيكون هو الإله الحقيقي. وبالحقيقة أن ما عنيناه بدعوة إحداهما صالحة والأخرى طالحة يتبين أنه يُفيد أن إحداهما على علاقة صحيحة بالإله الأسمى الحقيقي، أما الأخرى فعلى علاقة خاطئة به.
هذا، ويمكننا إيضاح النقطة عينها بطريقة أخرى. إذا كانت الثنائية صحيحة، فلا بد أن تكون القوة الطالحة كائناً يحب الطلاح لأجل ذاته. ولكن ليس لدينا في الواقع أي اختبار لأي شخص يحب الطلاح لأجل الطلاح فحسب. وأقرب ما يمكننا أن نصل إليه هنا هو في مجال القساوة. غير أن الناس، في واقع الحياة، يكونون قُساة لواحد من سببين: إما لأنهم ساديون (أي لأن لديهم انحرافاً جنسياً معيناً يجعل القساوة باعثاً للمتعة الجنسية الشهوانية عندهم)، وإما من أجل شيء سيجنونه منها: كالمال أو السلطة أو السلامة. غير أن المتعة والمال والسلطة والسلامة، في ذاتها، كلها أمور صالحة.
إنما يكمن الطلاح في نشدانها بالأسلوب الخطأ، أو في الطريق الباطل، أو بإفراط وإسراف. ولست أعني بالطبع أن الذين يفعلون ذلك ليسوا أشراراً جداً، إنما أعني أن الشر، عندما تتفحصه، يتبين إنه نشدان خير ما بالطريقة الخاطئة. ففي وسعك أن تكون خيّراً لأجل الخير المحض. إنما ليس في وسعك أن تكون شريراً لأجل الشر المحض. إذ يمكنك أن تؤدي فعل لطف حينما لا تكون ميالاً إلى اللطف، وحينما لا يؤتيك أية متعة، لمجرد كون اللطف صالحاً. ولكن أحداً لم يرتكب قط فعل قساوة، فقط لأن القساوة طالحة، بل فقط لأن القساوة كان ممتعة أو نافعة له.
بعبارة أخرى، لا يمكن أن ينجح الطلاح، ولو في كون طالحاً، بالطريقة نفسها التي بها يكون الصلاح صالحاً. فالصلاح، إذا جاز التعبير، هو ذاته، أما الطلاح فهو صلاح مُفسَد. ولابد أن يكون هنالك شيء صالح أولاً قبل أن يمكن إفساده. فنحن دعونا السادية انحرافاً جنسياً، ولكن لا بد أولاً من حيازتك لمفهوم السلوك الجنسي السوي قبل أن تتمكن من التحدث عن كونه منحرفاً. وفي وسعك أن ترى أي سلوك هو الانحراف لأنك تستطيع أن تفسر المنحرف على أساس السوي، ولا يمكنك أن تُفسر السوي على أساس المنحرف.
ويترتب على ذلك أن هذا القوة الطالحة، المفترض أنها على قدم المساواة مع القوة الصالحة وأنها تحب الطلاح مثلما تحب القوة الصالحة الصلاح، وهي مجرد بعبع. ولكي تكون هذه القوة طالحة، ينبغي أن يكون لديها أمور صالحة تريدها ثم تنشدها بالطريقة الخاطئة: ينبغي أن تكون لديها حوافز كانت في الأصل صالحة كي تتمكن من جعلها منحرفة.
ولكن إذا كانت القوة طالحة، فلا يمكنها أن تزود ذاتها بأمور صالحة ترغب فيها، ولا بحوافز صالحة تجعلها منحرفة. فلا بد لهذه القوة من أن تستمد كِلا النوعين من القوة الصالحة. وإن كانت الحال على هذا المنوال، فهي ليست مستقلة، بل هي جزء من عالم القوة الصالحة: وقد صنعتها إما القوة الصالـحة وإما قوة ما فوقهما كلتيهما.
ولنعبر عن هذا المفهوم بطريقة أبسط بعد. لكي تكون تلك القوة طالحة، ينبغي أن تنوجد ويكون لها عقل وإرادة. ولكن التواجد والعقل والإرادة هي أمور صالحة في ذاتها. ولذلك ينبغي لها أن تستمدهن من القوة الصالحة: حتى إنها لكي تكون طالحة يجب أن تقترض أو تسرق من مُناوئتها.
هل بدأت الآن تدرك لماذا قالت المسيحية دائماً أن إبليس ملاك ساقط؟ فليست هذه مجرد قصة من القصص المكتوبة للصغار بل اعتراف حقيقي بحقيقة كون الشر طُفيليّاً، لا شيئاً أصلياً. فالقوى التي تمكن الشر من الاستمرار هي قوة حصل عليها من الخير وجميع الصفات التي تمكن الإنسان الطالح من أن يكون رديئاً على نحو فعال هي بحد ذاتها أمور صالحة: العزم، والذكاء، وحسن المنظر، والوجود بذاته. لهذا السبب لا تقوم الثُنائية، بمعنى دقيق.
ولكنني لا أجد حرجاً في الاعتراف بأن المسيحية الحقيقية (بوصفها متمايزة عن المسيحية الهيّنة) تصل إلى الثنائية أقرب مما يظن الناس. فمن الأمور التي فاجأتني عند قرأت كتاب العهد الجديد أول مرة بجدية أنه يتكلم كثيراً جداً عن قوة مُظلمة في الكون: روح شرير مقتدر يُعتقد أنه القوة الكامنة وراء الموت والمرض والخطية.
أما الفرق فهو أن المسيحية تعتقد أن هذه القوة المظلمة خلقاها الله، وأنها كانت صالحة لما خلقها، ثم فسدت. وتتفق المسيحية مع الثنائية على أن هذا الكون يخوض حرباً. إلا أن المسيحية لا تقول بأنها حرب بين قوتين مستقلتين، بل ترى أنها حرب أهلية، أو عصيان، وأننا نعيش في جزء من الكون يحتله العاصي المتمرد.
أرض يحتلها العدو: تلك هي حالة هذا العالم. وتحكي لنا المسيحية كيف أن الملك الشرعي قد هبط إليها (ولك أن تقول إنه هبط متنكراً)، وهو يدعونا للإسهام في حملة تعويق إحباط كبيرة لعملية التمرد. فعندما تذهب إلى الكنيسة، فأنت بالحقيقة تتنصت إلى اللاسلكي السري الذي بعثه إلينا أصدقاؤنا، ولذلك يتلهف العدو إلى منعنا من الذهاب.
وهو يعمد إلى ذلك باستغلال غرورنا وكسلنا وتصلفنا العقلاني الاستعلائي. وفي علمي أن سائلاً قد يسألني: “أتقصد حقاً، في هذا الوقت من النهار، أن تُعرف إلينا من جديد صديقنا القديم إبليس، بحافريه وقرنيه وكل ما لديه؟” حسناً، لست أدري ما دخل وقت النهار بهذا، ولست بمتوقف عند ذكر الحافرين والقرنين! ولكن، فيما عدا ذلك، جوابي هو: “نعم، أقصد ذلك!” ولست أزعم أنني أعرف أي شيء عن مظهره الشخصي. فإذا أراد أحد حقاً أن يعرفه على نحو أفضل، فأود أن أقول لذلك الشخص: “لا تقلق! إذا أردت ذلك حقاً، فسيكون لك ما تريد. أما هل يعجبك المنظر حين تراه، فتلك مسألة أخرى!”.