خضوع الإبن للآب .. العلامة أوريجانوس مُعلقًا ضد الفكر الخاطيء
خضوع الإبن للآب .. العلامة أوريجانوس مُعلقًا ضد الفكر الخاطيء
خضوع الإبن للآب .. العلامة أوريجانوس مُعلقًا ضد الفكر الخاطيء
بيد أني لا أعرف كيف يمارس بعض المنشقين[1] في كلامهم على لفظ الخضوع، فيما هو ذو شأن باسم الابن، بدون أن يلمّوا بالمعنى الذي يجعله الرسول في هذه الكلمات. ولئن بحث أحدنا عن مصدر اللفظ لأمكنه العثور عليه بسهولة في نقيضه. ذلك أنّ الخضوع لو لم يكن أخيراً، يترتّب أن نقيضه، وهو التمرد، خير. ويبدو قول الرسول هذا: متى أُخضع كلّ شيء له، حينئذٍ يخضَع الابن نفسه للذي أخضَع له كل شيء[2]، انه يقيم الدليل على ان الذي لا يخضع الآن لأبيه سوف يخضع له[3] متى أخضع له الآب أولاً كل شيء، حسب المعنى الذي يغدقه المنشقّون على هذا القول. ولكني أعجب من أمر فهم على هذا الوجه: إذا كان هو نفسه غير خاضع إذ ليس كلّ شيء قد اخضع له، فإنّه سيُخضع حينما سيُخضع له كل شيء[4] عندما سوف يضْحي ملكاً على كل ذي سلطان يسود في الكون، على حسب ما يعتقدون، فيما لم يبادر إلى مثل هذا من ذي قبل. إنهم لا يعقلون ان خضوع المسيح إلى ابيه يشير الى السعادة التي تتأتى من كمالنا، ويعبّر عن تمام ظافر للعمل الذي باشره، حينما يزف لأبيه أسمى درجات فن الرئاسة والملك الذي صقله في المعمورة بأسرها، لا هذا فقط وإنما قواعد السلوك أيضاً، والطاعة والخضوع، مما أصلحه ورممه في الجنس بكامله. فإذا أُدرك الخضوع الذي به يُخضع الابن للآب، على حد مما يقال، كأنه أمر حسن ودليل عافية يُرى بنحو منطقي ومتماسك أنّه ينبغي إدراك ما يُطلق عليه اسم خضوع الاعداء لابن الله، كأنه دليل عافية وأمر حسن، ذلك أن إعادة إنشاء الخليقة بأسرها إنشاء كاملاً تثبت فيما يدعى خضوع الابن للآب؛ هكذا أيضاً في خضوع الأعداء لابن الله، إنما المُراد به خلاص الذين أُخضِعوا واسترداد الذين هلكوا. [5]
التولّي على النفوس بغية خضوعها
ولكنّ هذا الخضوع سوف يتم وفق طُرقٍ وقواعد وازمنة محددة؛ وهذا يعني أنَّ العالم بأسره سيُخضع لله لا عن إكراه أو طغيان[6]، بل بفعل الكلمة والعقل فيه، والتعليم والاحتذاء بالأفاضل، والاخلاق الحسنة، والتهديدات المستحقَّة والمطابقة أيضاً، التي تثقل على كاهل الذين لا يكترثون للاعتناء بخلاصهم ومنفعتهم، وللسهر على شفائهم. لذا، فإننا نضيق نحن الرجال الخناق على موالينا وأبنائنا عند تربيتهم، طالما أنهم لم يبلغوا سن الرشد، متوعدين ومروّعين إياهم. [7] ولكنهم، إذا ما فقهوا ما الصالح والناجح وما النزيه تذهب عنهم روعتهم من الضرب، فيرتضون بكل ما هو حسن مذعنين للكلمة والعقل. ولكن[8] ما الطريقة التي ينبغي فيها على كل إمريء ان يوجَّه بها مع مراعاة حرية اختياره، في وسط المخلوقات العاقلة جميعاً، أي ايها تجِدهُ كلمة الله مستعداً وقادراً، وبالتالي مهذباً، وايها تبطئه ردحاً من الزمن، وايها تتوارى عنه توارياً تاماً، بحيث انه يعمل وكأن أُذنيه قد صُمتا عنها ؛ ثما ايّها، بالمقابل، تُرهقه بتوبيخاتها، وعقاباتها التي يُذاقها لأجل خلاصه، بعد أن ازدرى كلمة الله التي بُلغَ إياها وبُشِّر بها، ملحّة عليه بالهدايا ومستلبة إياها منه في وجه من الوجوه ؛ وايها تؤتيه فُرص خلاصٍ لعله يقوى أن ينال ذات مرة خلاصاً لا مرية فيه، على اثر إجابة الهمه إياها الإيمان[9] ليس إلا، ولأي من الاسباب والمناسبات يحصل هذا كله، الذي تثبت منه الحكمة الإلهية، أو ما تحركات مشيئته التي تتدبرها له من أجل سياستها الكون : إن هذا كله لله وحده العلم به[10]، ولابنه الوحيد، الذي به خُلق الكون[11] وتجدد بناؤه، وللروح القدس الذي يجعل كل شيء مقدساً، وينبثق[12] من الآب نفسه، له المجد إلى أبد الدهور، آمين.
——————-
[1] يصعب معرفة وجوه اولئك المنشقّين. فإنّ ما ورد في الآية 1كو 28:15 قد يفسّر على وجه التبني، حيث يبدو المسيح أدني منزلة تجاه الآب، أو على وجه الإختلاف في المظهر، حيث إنّ اقنوم الابن لا وجود له بذاته من بعد، وإنما يذوب منصهراً في الطبيعة الالهية الواحدة. فأول التفسيرين هذين سوف يقضي لاحقاً الى نشوء الأريوسية، وثانيهما الى عبارات طائشة في اللاهوت، يحيك نسيجها أسقف أنقيرة، مرقيلس. ربما يناسب الميل بالفكر نحو بدعة مرقيلس هذا، المدعوة مظهرية. من أجل قِدَم عناصر اللاهوت الذي تصطبغ به، من جهة، وتمركزها الجغرافي في بلاد آسيا الصغرى، من جهة ثانية، حيث كان لتعاليم أوريجانس جولات عديدة ضد معتقدات المذاهب الألفية المنتشرة هناك.
[2] 1كو 28:15
[3] قد يخيل للقارئ أن خضوع الابن للآب لم يكن حاصلاً في كل زمان وعصر، وانه مرتقب في نهاية الأزمنة ليس إلّا. ولكن هذا الفكر مناقض لتعليم أوريجانس نفسه في شأن الابن. ان الابن يلازم الآب لا في الجوهر والإرادة فقط، بل في إجراء مراحل الخلاص على الأرض ايضاً. وعليه، فأن خضوع الابن الذي يتكلم عليه أوريجانس إنما يعني خضوع الخلائق العقلية التي وُجِدَت في وبه إلى الآب، عندما لا تقوى عليها الخطيئة بعد. وبتعبير آخر، يكون الخضوع للآب كاملاً في المسيح حين يُصالح به الخلائق كلها، فلا يبقى خارجاً عليه كائن ما من الكائنات جميعها، المتمثّلة حسب أوريجانس بصورة الكنيسة المتحدة بالابن، اي بنفسه السابق وجودها
[4] 1كو 25:15
[5] انظر 1-6-1، وحواشي المقطع المرافقة له، ففي اعتقاد أوريجانس أن قوة الكلمة أشد بأساً وقدرةً من حيل العدو كلها وسلطانه، فتستطيع من ثم أن تحوّل إليها الكائنات بأسرها وتنتشلها من يد المنافق.
[6] 2-1-2
[7] إن الإنتماء الى الله يكون عن حب له – وأصحاب هذا المنحى أبناء المرأة الحرة – أو عن رعدة منه ووجل – أمَّا أصحاب هذا المنهج فهم أبناء الامة. ولكن الرعدة ما هي سوى المضمار البدائي لأجل الانضمام الى الله.
[8] لدى ايرونيمس مقطع مشابه للمقطع الممتد، هنا، عند روفينس من ” ولكن، ما الطريقة … ” حتى ” … وحده العلم به ” في آخر المقطع، هذا نصه:” يترتب على ما تقدم أن عالمين مختلفين يخلقون أيضاً من جرى تحركات مختلفة، وأن عالماً آخر مختلفاً جدا سيوجد بعد العالم الذي نحيا فيه. ومن ثنايا هذه الكبوات المتنوعة والتطورات ، و هذه المكافآت على الفضائل أو تلك القصاصات على النقائض ، سواء أتم هذا في الآن الحاضر ، أو القادم ، او ما سلف من الأزمان ، أو ما سيأتي منها ، لا أحد إلا الله ، خالق كل شيء ، لا أحد سواه بوسعه أن يسود بحسب استحقاقاته ، وأن يسير بكل شيء ثانية نحو منتهى وحيد ، هو العالم بالأسباب التي يدع من اجلها بعضاً ينعم بإرادته ، فيهوي شيئاً فشيئاً من الأسمى الى الأدنى ، ويشرع فيعود البعض الآخر تدريجياً ، وكأني به يمد لهم يد العون ، وينتشلهم لكي يسويهم ثانية في حالهم الاولى ، ويستوي بهم من جديد في الأعالي”
[9] اُنظر 2-6-7. يعلم أوريجانس، في هذا المقطع، حسب البعض، الخلاص بالإيمان وحده، على إثر بولس في رو9:3، ويعد هكذا شاهداً على تقليد الكنيسة الأولى التي نأت بنفسها على شرائع تسنّها، فتفرضها من ثمّ على جماعة المؤمنين. ولكنّ هذا الاعتقاد لا يرى ما يدعو أوريجانس إليه مراراً وتكراراً في شأن الفضائل التي يجب التقيّد بها حتى ترتفع النفس إلى علُ، وتلتحق بعالم المغبوطين
[10] 2-9-6 .
[11] يو3:1.
[12] يو 26:15. أنظر بخصوص الانبثاق، ما يقول به أوريجانس في 1-2-13.